أخي الفاضل: أبا مالك العوضي
متعك الله بالصحة وجزاك الخير....
جميل جدا أن ينفتح الكاتب على الآخرين ليرى نفسه بأبعادها جميعها
وجميل جدا أن يتجاسر الإخوان على تسجيل ما لديهم من انتقادات
ولذلك أسدي لك الشكر الموصول أن شرفت هذه الصفحة بالزيارة
وأنك لم تبخل أيضا على أخيك بتقويم ما تراه قد اعوج
لكن في الوقت نفسه أظن أن من حق القراء علي أن أبين عن وجهتي التي وليتها أثناء الكتابة
لأدع بعد ذلك لك ولهم الحكم على بضاعتي المطروحة وبضاعتك
وكم ترددت في كتابة هذه الكلمات
لأنه كما لا يخفى عليك من الصعب جدا أن يتكلم الإنسان عن صنعته
إذ تحيط به القوى المتقابلة من كل جانب
هل حقا يستطيع أن يكون موضوعيا؟
أو أنه سيحاول الجدال عن شعره من حيث هو جدال عن نفسه؟
المهمة لا شك صعبة جدا لا يعرف ذلك إلا من كان مكاني الآن..!!
غير أن الذي شجعني على الكتابة وثبت قلمي
هو إنباهك لنا أن مرورك على قصيدتي كان مرور الكرام..
تحاشيا، وهذا من الخير، عن عاقبة ما قد يقع في تعليقك من خطأ
فقلت لنفسي: لعل ما أسماه مرور الكرام كان السبب في مآخذك عليه
وإذن فلا بأس من الكتابة لتحذير الناس من هذا الشيء الخطير الذي يسمى مرور الكرام..!!(ابتسامة)
لتسمح لي الآن أن أشير إلى بعض المزالق التي أوردك إياها مرورك الكريم،
محاولا قدر طاقتي أن أتبرأ وقتيا من النسب الذي يربطني بأبياتي رغم أنهن بناتي!!
1- لقد اقترحت عليّ في البيت الأول أن أقول: (إن كذبوك فإن رب العرش قد صدقك)، وزعمت أن هذا النهج فيه متابعة للقرآن، وأظنك قد تعجلت قليلا في اقتراحك وحكمك؛ فالقرآن أمامك راجعه هل تجد فيه قريبا من هذا التعبير المباشر ولو مرة واحدة؟ بلفظ آخر هل كان نهجه في نفي الشبهات عن الأنبياء والصالحين وأتباعهم معتمدا على إثبات خلاف ما يدعيه المكذبون؟ كلا؛ إن نهج القرآن الخاص كان يتميز بأنه لا يقف عند الشبهة إلا بالقدر الذي يؤهله لمغادرتها، والأمثلة على ذلك كثيرة ربما سقتها لك إن أردت، لكن أنا فقط أريد أن ألفتك إلى شيء أعجب أنا من أنك لم تفطن إليه، وهو أنني كنت في هذا البيت على وجه الخصوص أحاكي أسلوب القرآن، تأمل كلمة (عبدا) المذكورة في البيت، إن هذه اللفظة تقوم باستدعاء نموذج الإسراء والمعراج الذي قصت علينا سورة الإسراء في صدرها نبأه، حينما قالت: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ...)، لم تذكر الآية صفة الرسالة ولا تصديق الله له بل ذكرت صفة العبودية بصفتها المنزلة العالية والممكنة كذلك التي تهفو إليها النفوس البشرية، فهل ترى الآية لا تتضمن إلا الإقرار بعبودية محمد صلى الله عليه وسلم، لا يقول ذلك إلا من كان يقرأ على عجالة، إن الآية نزلت في وقت كان فيه إثبات النبوة من أكبر التحديات التي يواجهها القرآن، كما أنها نزلت لتشير إلى حادثة خرقت العادات لا تنبغي إلا في حق المصطفين، ورغم هذا كان اللفظ الموظف (عبد) ليس (رسول)، والحكم من ذلك كثيرة يعنينا منها هنا أن الله هو الذي يتحدث والمقام مقام تشريف وتأييد، وإثبات الرسالة له قد يفهم منه العناية بأمر المكذبين، والقرآن لا يريد ذلك، وإنما يريد أن يكون الوصف خالصا من الله وإليه، فكان وصف العبودية الذي لا يستطيع أحد أن يمنحه إلا الله كما أنه لا يخص أحدا إلا الله، وهناك شيء آخر فوق هذا وهو أن الشهادة من الله لمحمد صلى الله عليه وسلم بأنه عبد تتضمن الإقرار برسالته؛ لأن من كان عبدا بإقرار سيده لا يكذب عليه وهو الذي أرسله، فقط تأمل أيها القارئ ضمير الهاء المتصل بلفظة عبده، لتقف على هذا المعنى الذي أحاول بيانه، أظن الأمور قد اتضحت، وأظن كذلك أنه قد اتضح ماذا أردت في شعري حينما قلت: (قد حباك بمنة) فالمنة هي رحلة الإسراء لأن المعروف أنها كانت تشريفا له ورفعا لمكانته وتسلية عنه بأبي هو وأمي، وبعد كل هذا تظن أنني قد خالفت، كل هذا تسببت فيه قراءتك!!
2- لقد تسبب مرورك الكريم حفظك الله في أن تقرأ لفظة (الجِنَّة) بفتح الجيم،فوهمت أنني أتحدث عن الجنة التي عرضها السموات والأرض، رزقني الله وإياك دخولها والتمتع بظلالها، ونصحتني بناء على هذا الوهم أن أجعل الجملة على هذا النحو: (أعلى الجنة)، والأمر على غير هذا؛ فالجيم مكسورة (جبر الله كسرها!!)، لأني كنت أقصد الجن خلق الله المكلفين بما كلفنا به نحن، لا الجنة، ولعل المعنى قد اتضح الآن، فهذا البيت يسير سيرة البيت السابق في استدعاء الحوادث التاريخية التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيوظف حادثة قراءة القرآن على نفر من الجن وإيمانهم به، وذهابه إلى وادي الجن وتعليمه إياهم دعوة الحق والتوحيد، في الوقت الذي كذب به الإنس من البشر؛ فقد وئد الهدى وهو لا يزال طفلا صغيرا على أيدي البشر فقدر الله له ميلادا آخر في وادي الجن.
لكن هناك أمر يبدو لي من خلال إلحاحك الشديد على قضية الملاءمة هذه، وهو أنك توحد نظرتك إلى الآليات الفنية التي بمقدور الشاعر اللجوء إليها لنقل عالمه العقلي والشعوري، فتظن مثلا أن بلاغة البيت مرهونة بمجيء الشيء مضادا لأخيه، أو مجيئه ليستدعي نظيره، او نحو ذلك، الدنيا التي نحياها لا تتمتع بهذه الصرامة في تطوراتها وعلاقاتها، على الأقل بالمنظور البشري، والشعر لا يعدو أن يكون حديث نفس وصدى للواقع فحري به ألا يخالف الدنيا التي كانت له محضنا، بل عليه أن يتساوق معها إن استطاع، ليتمكن من التأثير فيمن يتنفس هواء دنياه كما ينفسه هو.
وإلا فقل لي مثلا ما رأيك في بيت أبي الطيب:
لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها
سرور محب أو إساءة مجرم
هل يتضاد المحب مع المجرم؟
هل يتضاد السرور مع الإساءة؟
أم أنك ستجد لونا جديدا غير ما عودت ناظريك على رؤيته؟
أيضا كلمة (المتوقع) التي ذكرتها لا محل لها هنا
لأن الشاعر الفذ كما يقول النقاد: (هو من أوقعك لا من وافق توقعك)
3- لقد اعترضت في البيت الثالث على كلمة (بسطت) وكان شعورك أنها غير ملائمة لمعنى، وأنا أريد أن أقرب لك معنى البيت لتحكم أنت بملاءمتها أو عدم ملاءمتها، لابد لتفهم معنى البيت أن تتخيل من المخاطَب فيه، إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك فليس المقصود بضيق الأرض ضيقها على الكفار وإنما ضيقها على الحبيب صلى الله عليه وسلم باستحضار أن المؤمن في دار الفناء يعيش في سجن، وأيضا باستحضار لفظة (يضيق صدرك..) التي ذكرت لتصوير الحالة النفسية له إزاء دعوات التشكيك والتكذيب المعلنة ضده، وهنا تأتي كلمة بسطت لتقوم بدورين دور التذكير للعباد المكذبين بالنعم التي أنعم الله بها عليهم، والتي كان بسط الأرض من أهمها، على طريقة القرآن، ودور التمهيد لما سيذكر بعد عن سعة السماء التي تستوعب هذه الظروف القاسية، فتكون المحصلة أن الأرض التي هي على الحقيقة مبسوطة ضاقت بصاحب الدعوة، لا بالمكذبين لأنها غايتهم ومرتعهم ومنتهى أملهم، فأبدله الله خيرا من ذلك حين أعرج به إلى السماء واستفتح على الملأ الأعلى، ولا يخفى ما لمجيء السعة بعد الضيق من قيمة في تثبيت القلب وبث روح التفاؤل.
4- في البيت الرابع سجلت على كلمة (سويا) مأخذا وقلت ما يعني أنها غير مستساغة لغويا، وأكبر الظن أن قراءتك هي التي ولدت لك هذا الرأي، لأنك ظننتها في البيت مرادفة للفظة (معا)، والأمر على خلاف ذلك، لأنها في موقع نصب حال للفعل عد، أي يا أيها الشعر عد سويا مثلما كنا من قبل، وهي لفظة فيما أعلم فصيحة استعملها القرآن في قوله: (فتمثل لها بشرا سويا) وقوله: (أفمن يمشي مكبا على وجهه اهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم)
5- في البيت الأخير زعمت أنه يحوي عيب التضمين، والتضمين كما أعرف هو أن تتعلق القافية أو لفظة مما قبلها بما بعدها، لكنك كنت أيضا في هذه من المستعجلين، اقرأ البيت مرة أخرى وقف على لفظة "التي"، الجملة قد تمت سيدي، لا تحتاج إلى الذي بعدها، النحوي والبلاغي القديمان ينبئانك عن هذا فيقولان لك إن الجملة صحيحة تامة لغويا لا تحتاج إلى فضلة، والغرض من عدم ذكر ما بعد الاسم الموصول التهويل والتعظيم..، وسيسميه لك الناقد الحديث نهاية مفتوحة، لا تحاول أن تفرض وصاية على المتلقي بما تضعه من أوصاف قد تسقط على السفح دون الشمس، فمن منا لا يعرف الشمس.. الشمس ضياء..نور..دفء..جلاء..أي هذه الصفات يأخذ الأديب وأيها يدع، ليترك المجال إذن إلى المتلقي فهو أجدر الناس بسد هذه الفراغات بواسطة خياله المحلق ونفسيته المنسجمة مع القصيدة، هكذا سيقولون لك، فليس هناك تضمين سيدي، الأمر كان يحتاج فحسب إلى قراءة متأنية .. ثم هب أنه تضمين جدلا فلماذا تستند إلى معايير نقدية قديمة هي في ذاتها محل نظر من القدماء؟!
6- بقي البيت الرابع الذي أرشدتني فيه إلى معنى لم أدونه في شعري، أو قل لم أرد أن أدونه، فجزاك الله خيرا، لكن عليك أن تعلم أنك تحاكم شعرا لا بحثا علميا، فالأول على أية حال لا يستطيع أن يكتب كل المعاني في بيت واحد، ولا حتى في مجموعة أبيات، كما أنه لا يسوغ أن أسأله لماذا ذكرت كذا ولم تذكر كذا؛ أو لنقل كما يقول النقاد على الناقد أن يقوم من الشاعر ما قد قال ليس ما كان عساه يقول، حسب الشاعر إذن أن يدون ما يحس به إحساسا صادقا في عبارة تتوفر لها خصائص الأدبية من صورة بديعة وموسيقى رائقة وفكرة عالية.
في نهاية وقفتي هذه لا أملك إلا أن أشكر مرور الكرام هذا، فأراني قد ظلمته وتحاملت عليه، رغم أنه كان سببا للخير فيما يبدو، فلولاه ما فكرت أن أشرح يوما ما قصائدي..
جزاك الله خيرا يا مرور الكرام (ابتسامة!)
أعتذر عن أي خطأ في هذه المشاركة؛ إذ كتبتها على عجالة بغية وصلها مباشرة بمشاركة أخينا الفاضل: أبي مالك العوضي
لا حرمنا الله من ملاحظاتك أبا مالك
دمتم في حفظ الله..