117 همسة من قصة يوسف عليه السلام
سلطان بن عبد اللّه العمري
68- وتجري الشهور والسنوات، ويوسف في السجن، ولك أن تسبح بخيالك كيف عاش يوسف في السجن، أي هموم كانت تدور في نفسه، وكم هي ساعات الألم؟؟
69- لم يذكر الله أي تفصيل لحياة يوسف في السجن ولكننا نجزم بأنها كانت حافلة بالإيمان والتثبيت الرباني لنبيه يوسف؛ لأنه كان من عباده المخلصين.
70 - ثم يسخر الله الأسباب لخروج يوسف من السجن من خلال رؤيا الملك، وفي هذا إشارة إلى أن الله له الحكمة البالغة في كل أقداره.
71- في قول المعبرين للملك (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ)[يوسف: 44] اعتراف بعدم العلم، وهذه شجاعة عجيبة؛ لأن الملك قلق من الرؤيا، ومع ذلك لم يجاملوه.
72 - وكم نحن بحاجة إلى أن نسمع من المفتي " لا أدري أو لا أعلم " بكل شجاعة بدون أن يلمع النصوص ويتبع الهوى في فتواه بسبب رهبة أو رغبة.
73 - وحينها خرج الرجل الذي كان مسجوناً مع يوسف وأخبر الملك بمهارة يوسف في تعبير الرؤى، فوافق الملك، وجاء الرجل وقص الرؤيا على يوسف فعبرها.
74 - فلما فسرها يوسف أعجب الملك بتفسيره وأمر بإحضاره، ولكن يوسف رفض الخروج حتى تبرأ ساحته من الاتهام المنسوب له وسجن بسببه.
75 - فطلب يوسف من الملك أن يجمع النساء اللواتي قطعن أيديهن، فجمعهم الملك وسألهم وكانت زوجته حاضرة، فاعترف النسوة ببراءة يوسف.
76 - وفي هذه اللحظة ظهر الحق، واعترفت المرأة بأنها هي التي راودت يوسف، وأن يوسف بريء، وهذا الاعتراف منها ليعلم زوجها أنها لم تخنه.
77- وأن يوسف لم يحصل منه شيء معها، ثم اعترفت بأن هذه الجريمة بسبب النفس الأمارة بالسوء، وأن النفوس تدعو للمعصية إلا مارحم ربي.
78 - وختم الله تلك القصة بقوله (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ)[يوسف: 53] وفي هذا لطف إلهي جميل حيث ذكر مغفرته ورحمته لمن اعترف بذنبه ورجع للحق وأناب.
79 - وفي ذلك بيان أن المظلوم سيأتي يوم وتبرأ ساحته، وأن العسر لن يطول، وأن الله مع الصابرين، وأن الله سيخيب خطط المخالفين والأعداء.
80 - تنبيه. الآية (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي)[يوسف: 53] قيل إنها من كلام يوسف، وهذا ليس بصواب، والصواب أنه من كلام المرأة والسياق يدل عليه ورجحه ابن تيمية.
81- قال يوسف للملك (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)[يوسف: 55] فيه: جواز طلب الإمارة والرئاسة لمن يعلم في نفسه القدرة عليها.
82- إذا ترك أهل الخير الرئاسة فقد يتولاها من لا يحسن رعايتها.
83- قال: (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)[يوسف: 55] فيه: جواز مدح الإنسان لنفسه لمصلحة يراها.
84- يوسف لم يزكِ نفسه ليتفاخر بشيء عنده، وإنما قال (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)[يوسف: 55] ليبين للملك أنه أمين على المنصب وعليم بأصول القيادة والإدارة.
85- (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ)[يوسف: 21] أن تمكين يوسف إنما هو بتوفيق الله، وأن الإمارة والولاية داخلة في النعم لمن أجاد إدارتها.
86- (وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)[يوسف: 57] جاءت هذه الآية بعد تولي يوسف المنصب ليعلم الجميع أن الآخرة خير من الدنيا ومناصبها.
87- قال يعقوب لأبنائه (لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ)[يوسف: 67] فيه الاحتراز من العين والحسد وأن ذلك مطلوب وهو سبب مهم في الحفظ.
88- ثم قال يعقوب بعد ذلك (وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)[يوسف: 67] فيه: التعلق بالله وتفويض الأمور إليه، وأن الواجب علينا فعل الأسباب فقط.
89- لما أخذ يوسف أخاه وأبقاه عنده كان يعقوب يحدوه الأمل وحسن الظن بربه - عز وجل - (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا)[يوسف: 83].
90- تعجب أولاده من بقاء يوسف في قلبه بعد مرور نحو 30 سنة، فأعلنها من قلب محترق (إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ)[يوسف: 86] فما أجمل التعلق بالله وحده.
91- وقال يعقوب: (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)[يوسف: 86] نعم أنا أعلم أن ربي لطيف وسيلطف بي، والله كريم وسيكرمني بعودتهما. وهنا يكون الرجاء الحقيقي.
92- ثم أمرهم بالرجوع للملك والبحث عن يوسف وعدم اليأس من رحمة الله وفرجه ونصره. وكأني بهم يقولون: وأين يوسف؟ وما علموا بالذي أمامهم.
93- ثم دخلوا على يوسف فعرفهم ولكنهم لا يعرفونه وطلبوا طلباتهم في الطعام. فقال يوسف لهم (هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ)[يوسف: 89] إنها الصدمة الكبرى!.
94- قالوا لعلك أنت يوسف، فأخبرهم أنه يوسف، وأن الله أكرمه وأخاه بالبركات، ثم أخبرهم بقاعدة مهمة وهي " التقوى والصبر " وأنها طريق النجاة.
95 - (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[يوسف: 90] يالها من آية جامعة لأسباب النجاة. نعم لقد كان يوسف تقياً لربه في عدة مواضع.
96- لقد كان يوسف صابراً على قضية البئر، وقصة مراودة المرأة في القصر، وكان صابراً للسجن في سبيل الله، فكانت النتيجة (التمكين والرفعة).
97 - وحينما علم إخوة يوسف بأن الذي أمامهم هو يوسف، نطقوا بكلام جميل (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا)[يوسف: 91] إنه الإيثار الرباني واختياره.
98- وحينما ترجع لقصة يوسف وقصص البلاء التي وقعت له، ثم تتأمل (لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا)[يوسف: 91] تعلم أن الإيثار الرباني لابد أن يكون معه بلاء.
99- وتزداد يقيناً بأن الوصول إلى مراضي الرب ومنازل القرب منه لا تتم إلا بعد تجاوز الابتلاء بكل أدب، بلا اعتراض ولا جدال ولا شكوى.
100- ثم قالوا (وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ)[يوسف: 91] ما أجمل الاعتراف بالخطأ، ومحاولة الرجوع للحق، وكم في هذا الموقف من أثر على قلب يوسف - عليه السلام -.
101 - وبعد ذلك أعلن يوسف عفوه عنهم بكل حب وأدب وصدق (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[يوسف: 92] إنها أخلاق الكبار.
102 - وإن المتأمل في خلق العفو من يوسف مع جريمة القتل التي حاولوا إيصالها له لما رموه في البئر، يجد أن يوسف كان رائعاً جداً في عفوه عنهم.
103 - هل لي أن أسألك سؤالاً: هل مارست خلق العفو مع أحد من أقاربك أو أصدقائك؟ لابد أن نتربى عليه فهو من أخلاق الأنبياء - عليهم السلام -.
104 - ثم تكون معجزة القميص لما أمر يوسف إخوته بأن يأخذوا القميص ليرموه على وجه أبيه ليعود إليه بصره: (ذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا)[يوسف: 93].
105 - وتنطلق رائحة القميص إلى يعقوب، وتتجاوز حدود المكان والزمان ويقول: (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ)[يوسف: 94] يا الله، أي شوق مثل هذا؟!.
106 - (فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)[يوسف: 96] نعم جاء البشير، وألقى قميص يوسف، وعاد بصر يعقوب، وانطلقت الأسرة إلى يوسف بكل شوق، فما أجمل الشوق قبل اللقاء، فكيف إذا حصل اللقاء؟
107 - جاء الأبناء لأبيهم يعقوب - عليه السلام - معتذرين (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ)[يوسف: 97] فما ظنكم بأخلاق الأنبياء؟ (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي)[يوسف: 98].
108- وأريدك أن تتذكر معي العفو الذي مارسه يوسف عن إخوته ودعائه لهم (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ)[يوسف: 92] ثم تأمل عفو يعقوب واستغفاره لهم، وسيظهر لك جمال العفو وأنه خلق عند الأب يعقوب والابن يوسف - عليهما السلام -.
109 - ثم وصلت الأسرة إلى مصر وخرج يوسف لاستقبالهم من عناء الطريق، ثم كانت لحظة اللقاء عجيبة (آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ)[يوسف: 99] وهنا نسبح في خيال واسع.
110 - ولك أن تتخيل كيف كان اللقاء بين يعقوب ويوسف بعد هذا الغياب الطويل. هنا نقف، لنتخيل تلك الدموع والعبارات العاطفية والعناق العجيب.
111- ثم قال يوسف لأسرته: (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)[يوسف: 99] وأبشروا بالراحة والسعادة والأمان، ثم أدخلهم قصره: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ)[يوسف: 100].
112- (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا)[يوسف: 100] أي: سجد الوالدان والإخوة ليوسف من باب التحية والتقدير ليوسف، وهذا كان جائزاً في شرعهم، وأما في شرعنا فلا نسجد إلا لله.
113- (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا)[يوسف: 100] أي: أن الرؤيا في أول السورة (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)[يوسف: 4] ها هي تتحقق.
114- وفي مشهد إيماني عجيب من يوسف يعترف يوسف بفضل الله عليه بأن أخرجه من السجن: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ)[يوسف: 100].
115 - ثم يبدع يوسف بلمسة تربوية ساحرة حيث أخبر أن الشيطان هو الذي نزغ بينه وبين إخوته، ولم يذكر أي تفاصيل من هموم تلك المعاناة.
116- وهنا نكتشف خلق التغافل وعدم تذكير صاحب الخطأ بخطئه، بل نعفو عنه ونتجاوز عنه بدون أي تفاصيل وقصص.
117- وفي ختام السورة يدعو يوسف ربه بأن يميته على الإسلام: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ )[يوسف: 101] وفي هذا: إشارة لنا بأن الثبات بيد الله وحده.
وفي نهاية سورة يوسف يقول ربنا: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ)[يوسف: 111] أي: أن حكاية قصة يوسف فيها العبر والاعتبار، ولكن أين من يعتبر؟