الوقت الضائع في حياة المسلمين بين سوء التقدير وسوء التدبير من واقع المسلمين
عدنان علي رضا النحوي
وإنها مسئولية البيت والمعهد ومؤسسات الأمة، وكذلك الدعوة الإسلامية ودعاتها وجنودها، هؤلاء كلهم مسئولون عن إعداد المسلم وتدريبه على احترام الوقت وتنظيمه، ووضع نهجه وخطته لذلك.
إن التدريب جزء أساسي رئيس في الإعداد والبناء، إنه جزء رئيس في تربية الناشئة والأطفال، والفتيان، والشباب، على النهج والتخطيط لأمور حياتهم ومسئولياتهم، ومن أهم هذه الأمور احترام الوقت وتنظيمه.
إنها قضية تقدير أولاً، ثم هي قضية تدبير بعد ذلك، والتقدير علم وإيمان، والتدبير نهج وتخطيط، فإذا وعى المسلم منهاج الله وواقعه وضع خطته على أساس من ذلك، على أساس الركنين الأساسيين في النظرية العامة للدعوة الإسلامية: المنهاج الرباني والواقع.
وانظر إلى هذا التوجيه الرباني في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فعن أبي هريرة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بورك لأمتي في بكورها)) [أخرجه الطبراني في الأوسط] (2).
وعن صخر بن وداعة الغامدي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم بارك لأمتي في بكورها)) [رواه أبو داود والترمذي والدارمي وابن ماجه] (3).
ونظم الإسلام أوقات الصلاة، وأوقات الصيام والإفطار والحج، ونظم وقت العمل والراحة، وربط ذلك كله بالإيمان والتوحيد وبمنهاج الله.
ولكن إذا غلب الهوى وهاجت الأماني فأنى يكون تنظيم الوقت عندئذ، وكيف يعتدل الميزان؟!.
لذلك على الدعوة الإسلامية أن تجعل التدريب على الاستفادة من الوقت وتنظيمه عملاً هاماً من أعمالها ومسئولياتها.
ولقد راعينا خطورة هذه القضية بإثارتها وطرحها في حياة المسلمين، وكذلك بوضع أسس التدريب عليها، فهي مراعاة في خطة (المنهاج الفردي)، وخطة: (منهج لقاء المؤمنين)، وفي النظام الإداري وقواعده، وفي المتابعة والتوجيه والإشراف، ويجب أن تظل هذه القضية هامة وخطيرة في حياة المسلم وحياة الأمة كلها.
إن جهداً كبيراً في حياة الأمة يُهدر فيما لا طائل تحته، في فوضى ولهو وعبث، وسوء إدارة ونظام، ولقد نشرت دراسات حول طاقة الإنتاج في دول متعددة حول أساس ساعات عمل واحدة، فكانت دول العالم الثالث والعالم العربي الأضعف إنتاجاً، فلو فرضناً أن ساعات العمل ثماني ساعات كانت الإحصائية تشير إلى ساعات الإنتاج واحدة، والساعات الضائعة سبع وأما لدى الدول الأخرى فكانت ساعات الإنتاج قرابة ضعف ساعات العمل أو أقل من ذلك قليلاً، نرى من ذلك الوقت الكبير الذي يهدر في حياة المسلمين، والجهود الكثيرة التي تتبعثر وتضيع، وأثر ذلك في جميع نواحي حياة المسلمين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها.
إن المذاهب البشرية تقدر الوقت بميزان مادي دنيوي هابط، ولكنه يوفر الحافز المادي للإنتاج، ولعل المثل الشائع يوضح وجهة نظرهم وتقديرهم للوقت، فهم يقولون: "الوقت مال، الوقت من ذهب".
أما الإسلام فينظر للوقت نظرة أخرى، نظرة أسمى وأصدق وأعدل، إن المال الذي يضيع منك قد ييسر الله لك استعادته بفضله وعونه، وأما الدقيقة التي تمر فلن تعود ولن تستعاد، فهذه سنة الله في الزمن في الحياة الدنيا، وأما قضاؤه فيه في الآخرة فهو أول ما يحاسب عليه العبد بين يدي ربه: فعن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تزولا قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبـه وفيم أنفقـه، ومـا ذا عـمل فيما علم)) (4).
ولا يريد الإسلام من أبنائه أن يهدر الوقت في اللهو والسمر الضائع، كما يحدث في واقعنا اليوم، حتى درج على الألسنة أن يقول الرجل لصاحبه: "تعال نقتل الوقت أو نضيع الوقت"! ويقتل الوقت فعلاً بالنرد ولعب الورق وغيرها مما لا يقدم للأمة خيراً وهي في أسوأ مراحل تاريخها، إنهم لا يقتلون الوقت، ولكنهم يقتلون الأمة ويقتلون أنفسهم.
إن الإسلام يريد من أبنائه أن يروحوا عن أنفسهم بين الحين والآخر، حتى يستعيد المسلم نشاطه وقوته، دون أن يبالغ في الترويح عن النفس حتى يضيع الوقت أو يقع في الإثم.
فعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب)) (5).
ونهى الإسلام عن كل ما يضيع وقت المسلم: نهى عن الجدل والقيل والقال، والشقاق والتدابر والشحناء، ودعا الإسلام إلى كل ما يجمع الجهود ويصون الوقت: دعا إلى التعاون والحب الصادق في الله والنصيحة والموازنة وغير ذلك من قواعد الإسلام، بل إن قواعد الإسلام كلها تدعو إلى الاستفادة من الوقت في طاعة الله: فعن عبد الله بن بسر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا يزال لسانك رطباً بذكر الله)) (6).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه، كانت عليه من الله تِرَة، ومن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله فيه، كانت عليه من الله ترة)) (7).
وذكر الله هو العمل الصالح الذي يخلص الإنسان فيه لله رب العالمين، وهو الكلمة الطيبة والتوبة والاستغفار والدعاء كله، وأداء الشعائر والسعي الصالح في الأرض، والدعوة إلى الله ورسوله، والتعهد والتربية، كل ذلك هو من ذكر الله.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكره النوم بعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر وقبل صلاة العشاء، وكان يكره الحديث بعد صلاة العشاء إلا لحاجة وخير، وكان يقوم الليل حتى تتورم قدماه.
حين حرص المسلمون على الوقت، ونظموا حياتهم كما يأمرهم الإسلام أنجزوا ما لم تنجزه أمة في التاريخ، ففي حدود عشرين عاماً منذ بدء الدعوة الإسلامية دانت الجزيرة العربية كلها للإسلام، وأخذ المسلمون يستعدون للتصدي للظالمين المعتدين من الرومان والفرس، ثم امتدت الدعوة في الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً خلال فترة قصيرة توالت الانتصارات فيها.
لقد كان من جملة ما تميز به الصف المؤمن آنذاك الإدارة والنظام، وتنظيم الوقت والجهد، فالإدارة والنظام عامل رئيس لاحترام الوقت والاستفادة منه، والإدارة والنظام قاعدة رئيسية في الإسلام ومنهجه فالشعائر كلها مرتبة عل أساس ذلك، وعلى أساس تنظيم الوقت في حياة المسلمين.
إذا نظرنا في واقعنا اليوم نجد الجهد الضائع والوقت الضائع في حياة المسلمين يمثل حجماً كبيراً، تجد العدد الكبير من الناس جالساً في كثير من الدوائر ينتظر إنهاء معاملته، وتجد الموظفين الذين يقتلون وقتهم بقراءة الصحف والاسترخاء والعبث دون المبالاة بالوقت الضائع منهم ومن أصحاب الحاجات.
ثم تجد الارتجال والسلوك غير الواعي في تعطيل أنشطة الأمة ومصالحها تحت شعارات الوطنية، لقد بلغ عدد أيام الدراسة في بعض الأقطار خمسة وأربعين يوماً فقط خلال السنة كلها، وباقي الأيام ذهبت في المظاهرات واللهو والصخب والعبث، دون أن يعود ذلك على الأمة بشيء من الخير، ونحن اليوم نحصد ما نلقاه من هزائم وهوان، لم يكن إلا حصاد سنين طويلة مرت بنا ضاع فيها الجهد وضاع فيها الوقت.
لقد أصبحت بعض الكلمات لا تحمل في ذهن المسلم اليوم معناها الحق، فالخير والعمل الصالح والإحسان وغير ذلك أصبح يعني العمل الارتجالي المقطوع عن سائر أعمال المسلم، المنعزل عما قبله وعما بعده، فقد الهدف والنهج، وانحصر في حياة الفرد معزولاً عن الأمة.
إن العمل الصالح هو عمل منهجي مرتبط بحياة الفرد كلها، مرتبط بالأمة، يتكامل من خلال النهج لتعظم بركته بفضل الله، يعرف الهدف الممتد من الدنيا للآخرة، إن العمل الصالح يحرص على الوقت والإدارة والنظام على أساس من صدق الإيمان وصدق العلم بمنهاج الله والعلم بالواقع.
إن الأمة التي تنظم نفسها من خلال إدارة واعية ذكية يرتبط عمل الفرد فيها بالأمة ومنهجها وأهدافها، ولا يبقى عملاً فردياً معزولاً، فتترابط الجهود كلها وتنمو البركة ويعم الخير.
لذلك نعيد وتؤكد أهمية الوقت في الإسلام وأهمية تنظيمه في حياة الأمة، ونؤكد مسئولية الدعوة الإسلامية على تدريب أبنائها على احترام الوقت، والاستفادة منه على أحسن وجه ممكن من خلال الإدارة والنظام والنهج والتخطيط.
ـــــــــــــــ ـــــ
(1) صحيح الجامع الصغير وزيادته (الفتح الكبير)، ط3 (4 / 183/ 4445)، أحمد: الفتح (23 / 17)، مسلم (33 / 5 / 1829)، وأخرجه البخاري في كتب الجمعة والوصايا وغيرهما، والترمذي في الجهاد.
(2) صحيح الجامع الصغير وزيادته حديث رقم (2838).
(3) صحيح الجامع الصغير وزيادته حديث رقم (1311).
(4) صحيح الجامع الصغير وزيادته. رقم (7176).
(5) صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم (7312).
(6) صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم (7700).
(7) صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم (6477)