ليس دفاعا عن البخاري وصحيحه (5)

محمود بن أحمد أبو مسلّم


(هل همَّ النبي صلى الله عليه وآله بالانتحار؟)


ومِن هذه الأحاديث المنتقَدَة على الإمام البخاري ما قد نقله البعضُ بأسلوبٍ رخيص وخبيث، وهو - كما صوَّروا - أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم - حاشاه - حاول الانتحارَ في بداية الوحي والدَّعوة!وهذا الأسلوب رَخيص - أعني: في طريقة العرض والنَّقد - وله أغراضه؛ لأنَّ الباحث عن الحقيقة يجب أن يتحلَّى بالأدب والصَّبر، وإذا ما جاءه أمر مشكك فيه، وجب أن يتثبَّتَ ويسأل سؤالَ "المريض" عن الدَّواء ليَشْفى، لا سؤال اللَّئيم الباحث عن الجدل والمشكلات!ودخولاً في الموضوع سريعًا بدلاً من التعليق في كلِّ مرَّة على سلبيات المنتقدين:أولاً: هذه الرواية، كما سبق ونبَّهنا مرارًا، لم ينفرد البخاريُّ بإخراجها، وإنَّما أخرجها معه "متخصِّصو" الحديث في زمنه ومَن جمع كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلم وكتبوها في مصنَّفاتهم كما كتبها البخاريُّ، لكن لكلِّ "متخصص" طريقة في عَرضه ونقلِه كما سنبيِّن؛ فأخرج نفسَ هذه الرواية أحمد في مسنده (25427)، وابن حبَّان في صحيحه (33)، وعبدالرزاق في مصنَّفه (9719) وغيرهم.ثانيًا: وهذه الرواية أتَت من طريق الزُّهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، ورواها عن الزُّهري جمعٌ من أصحابه مثل: يونس بن يزيد الأيلي كما في مسلم (162)، وعقيل بن خالد كما عند البخاري (4955)، وصالح بن أبي الأخضر كما عند أبي داود الطيالسي (1572).ثالثًا: هذه القصَّة محفوظة ولا شك؛ أعني: قصَّة بداية الوحي وكيف كان، وهي كالآتي - كما رواها الزُّهري - :عن عائشة أُمِّ المُؤمنين، أنها، قالت: "أوَّل ما بُدئ به رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرُّؤيا الصَّالحة في النَّوم، فكان لا يرى رُؤيا إلاَّ جاءت مثل فلق الصُّبح، ثمَّ حُبِّب إليه الخلاءُ، وكان يخلُو بغار حراءٍ، فيتحنَّث فيه - وهو التعبُّد - اللَّيالي ذوات العدد قبل أن يَنزع إلى أهله ويتزوَّد لذلك، ثمَّ يرجعُ إلى خديجة فيتزوَّدُ لمثلها، حتَّى جاءه الحقُّ وهو في غار حراءٍ، فجاءه الملَكُ، فقال: اقرأ، قال: ((ما أنا بقارئٍ))، قال: فأخذَني فغطَّني حتى بلغ منِّي الجهد، ثمَّ أرسلني، فقال: اقرأ، قلتُ: ((ما أنا بقارئٍ))، فأخذني فغطَّني الثَّانية حتى بلغ منِّي الجهد، ثمَّ أرسلني، فقال: اقرأ، فقلتُ: ((ما أنا بقارئٍ))، فأخذني فغطَّني الثَّالثة، ثمَّ أرسلني فقال: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴾ [العلق: 1 - 3]، فرجع بها رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يرجُفُ فُؤادُه، فدخل على خديجة بنت خُويلدٍ رضي الله عنها، فقال: ((زمِّلُوني زمِّلوني))، فزمَّلُوه حتى ذهب عنه الرَّوعُ، فقال لخديجة، وأخبرها الخبر: ((لقد خشيتُ على نفسي))، فقالت خديجةُ: كلاَّ، واللهِ ما يُخزيك الله أبدًا؛ إنَّك لتصلُ الرَّحِم، وتحملُ الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدُوم، وتَقرِي الضَّيفَ، وتُعِين على نوائب الحقِّ، فانطلقَت به خديجةُ حتى أتَت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعُزَّى ابن عمِّ خديجة، وكان امرأً تنصَّر في الجاهليَّة، وكان يكتُبُ الكتابَ العبرانيَّ، فيكتُبُ من الإنجيل بالعبرانيَّة ما شاء الله أن يكتُب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت له خديجةُ: يا بن عمِّ، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقةُ: يا بن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم خبرَ ما رأى، فقال له ورقةُ: هذا النَّامُوسُ الذي نزَّل اللهُ على موسى صلى الله عليه وسلم، يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكُونُ حيًّا إذ يُخرِجك قومُك، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أوَمُخرجيَّ هم؟))، قال: نعم، لم يأت رجُلٌ قطُّ بمثل ما جِئتَ به إلا عُودي، وإن يُدركْني يومُك أنصُرْك نصرًا مُؤزَّرًا، ثمَّ لم يَنشَب ورقةُ أن تُوُفِّي وفتر الوحيُ".إلى ها هنا لم يختلف كلُّ الرواة عن الزُّهري في الوقوف عند قوله: "ثمَّ لم يَنشب ورقة أن توفِّي وفتر الوحي".لكن زاد "مَعْمر بن راشد الصنعاني" - ومعمر فقط الذي زاد هذه الزيادة - وهي الرواية التي أخرجها البخاريُّ في كتاب "التعبير":"وفتر الوحيُ فترةً، حتى حَزن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فيما بلَغنا حُزنًا غدَا مِنه مرارًا كي يتردَّى من رُؤوس شواهقِ الجبال، فكُلَّما أوفى بذروة جَبلٍ لكي يُلقي منه نفسَه تبدَّى له جبريلُ، فقال: يا محمَّد، إنَّك رسُولُ الله حقًّا، فيسكُنُ لذلك جأشُه، وتقرُّ نفسُه، فيرجعُ، فإذا طالَت عليه فترةُ الوحي، غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبلٍ، تبدَّى له جبريلُ، فقال له مثل ذلك".وهنا أول وقفة مع هذه الرواية، وهي قولة: "فيما بلَغَنا"، ومعنى البلاغ عند أهل الحديث: أن يروي الراوي حكايةً بلا إسناد، فيقول مثلاً: بلغني أنَّ رسول الله فعل كذا وكذا، فيكون السؤال البديهي للمحدِّثين: "مَن أبلَغك"؟! وتزداد هذه البلاغات ضعفًا كلما بَعُد المبلِّغ عن رسول الله.فالصحابة إذا قالوا: بلغَنا عن رسول الله، قُبل منهم؛ لأنَّهم كلهم عُدول في النقل، ومن زكَّاهم ومدَحهم هو الله جلَّ جلاله، كما اصطفاهم لصحبة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، فلا يصطفي ربُّنا إلاَّ الصادقين، وأمَّا مَن بَعدهم، فبلاغاتهم ومراسيلهم درجات، فيتوقَّف في بلاغاتهم إذا لم يكن لها شواهد مثلاً تدلُّ على صِحَّة هذه البلاغات؛ وذلك كأن يروي تابعيٌّ (وهو الجيل الثاني بعد الصحابة، ولم يرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم) رواية مثلاً، ثمَّ تأتي مثل روايته من طريق آخر، يرويها صحابيٌّ مثلاً، أو تابعيٌّ مثله لكنه أوثق منه، فربما شدَّ ذلك من روايته وقوَّاها نوعًا ما.• ويُرَدُّ هذا البلاغ لو كان هناك ما هو أصحُّ منه وأقوى؛ فمثلاً لو جاءت رواية صحيحة عن صحابي تُعارِض رواية البلاغ عن التابعي هذا، فلا شك أنَّنا سنقبل روايةَ الصحابي ونردُّ رواية التابعي، وكذلك نردُّ رواية التابعي ردًّا تامًّا لو صحَّت رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تُعارِض بلاغَ هذا التابعي.وهذا الأمر لا يدخل في باب الجمعِ بين الروايات المتعارضة؛ لأنَّ الجمع لا يكون إلاَّ بين روايات متساوية في القوَّة أو متقاربة، ولا يُجمع بين روايات قوية وضعيفة إلاَّ على سبيل التنزُّل في الكلام.المهم الآن.. هذا الجزء من الرِّواية بلاغ.. إمَّا من الزُّهري محمد بن مسلم بن شهاب، وإمَّا من مَعمر بن راشد الصنعاني الراوي عنه، ومراسيل الزهري وبلاغاته ضَعَّفها كثيرٌ من أهل العلم.وهذه رِواية بلاغ ليس لها إسناد، ولا يُعرف مَن رواها ومن بلَّغها للزهري، وغالبًا سيكون من بلغها ورواها للزهري رجلٌ ضعيف في الرواية؛ لأنَّه لو كان رجلاً ثِقة ما تورَّع الزهري عن ذِكره بلا شك، فلمَّا أبهمه وأرسَل الكلام، وحكى حكايةً بلغَته، دلَّ على أنَّ راويها ليس بذاك المعتمد.رابعًا: لماذا إذًا ذَكر البخاريُّ وغيره ممَّن أخرج هذه الرواية - هذا البلاغ - على ضعفها وإرسالها، ولم يَكتف بذكر ما صحَّ من القصَّة كما فعل سائر الرواة؟!وهذا سؤال وجيه، والردُّ عليه من وجوه - وهي فوائد - :1 - أنَّ الراوي يؤدِّي أمانة ما سمع غالبًا، ولا يقتص منه شيئًا، طالما رواه بإسناده، وبيَّن فيه صحَّته أو ضعفه أو ما به من عِلَّة، وهذه كانت حال أغلب المحدِّثين، يَروي كما سمع، وهي من دلائل الصِّدق في النَّقل.2 - البخاريُّ وغيره أدَّوا الأمانة في ذِكر أنَّ هذه القصة "بَلاغ" من الزهري، وليست ممَّا اتَّصل من رواية مَعمر عنه، وذلك من فائدته ألا يأتي أحد بعد (وهو ما حدَث في هذا الزمان وحدث أيضًا في زمن المحدِّثين وشرَّاح البخاري) فيجعل القصَّة مترابطة، وكأنَّها قصَّة واحدة، ولا يبيِّن أنَّ هذا الجزء مُنقطع ومرسل وضعيف الإسناد، وليس كسائر القصة!3 - بالنسبة للبخاري، فإنَّه أخرج هذه القصة في عِدَّة مواضع من صحيحه، لم يذكر هذه الرِّواية إلاَّ في آخر موضع، وهو كتاب "التعبير"، ولم يذكره في باب بدء الوحي أوَّل الكتاب مثلاً، وذلك لفائدة هامَّة جدًّا، سنذكرها بعد قليل، وهي الفائدة والردُّ القاطِع على هذا البلاغ وهذه الزيادة الضَّعيفة!خامسًا: وهل فتر الوحيُ - يعني: انقطع - بالفعل عن رسول الله بعد أن جاءه في غار حِراء؟والجواب أن نعم، والدَّليل: رواية عائشة التي مَعنا، وجاء ذلك من مراسيل الشعبي أنَّ الوحي انقطع سنتين، وجاء في رواية ابن عباس في الطَّبقات، وسأذكرها ها هنا على الرغم أنَّ في إسنادها رواة متَّهمين، وهي رواية تالفة، لكنها تعتبر كشاهد "ضعيف" لبلاغ الزهري، وهي كما قال ابن سعد (1/ 94):أخبرنا محمدُ بن عمر، قال: حدثني إبراهيم بن محمد بن أبي موسى، عن داود بن الحصين، عن أبي غطفان بن طريفٍ، عن ابن عبَّاسٍ: "أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا نزل عليه الوحيُ بحراء مكث أيَّامًا لا يرى جبريل، فحزن حُزنًا شديدًا حتى كان يغدُو إلى ثَبِيرٍ مرَّةً، وإلى حراء مرَّةً يُريدُ أن يُلقي نفسَه منه، فبينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كذلك عامدًا لبعض تلك الجبال إلى أن سمع صوتًا من السَّماء، فوقف رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم صعقًا للصوت، ثمَّ رفع رأسَه، فإذا جبريلُ على كُرسيٍّ بين السَّماء والأرض مُتربِّعًا عليه، يقولُ: يا محمد، أنت رسولُ الله حقًّا، وأنا جبريلُ، قال: فانصرف رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وقد أقرَّ الله عينَه، وربط جأشه، ثمَّ تتابَع الوحيُ بعدُ وحَمِي".وإبراهيم بن محمد هذا، أغلب أهل العلم بالحديث كذَّبوه أو تركوه، والعجب من الشَّافعي ولا يزال كيف وثَّقه؟ ومحمد بن عمر الواقدي، متَّهم أيضًا، لكن على أي حال تبقى هذه الرواية شاهدًا لبلاغ الزهري، وذلك تنزُّلاً، وإنما سُقت لفظَها ها هنا لحكمة سأذكرها بعد قليل.وهناك شاهدٌ آخر لهذه القصة ذكره الطبري في تاريخه (1/ 532) ولكنَّه تالف الإسناد والمتن.والشاهد من هذا كلِّه أنَّ الوحي انقطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن جاءه بحراء.. لكن ماذا حدث في فترة الانقطاع هذه؟ وهذا:سادسًا: هل بالفعل همَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقتل نفسه؟والجواب أن لا، وحاشاه صلَّى الله عليه وآله ومن والاه، وها هنا نذكر الردَّ القاطع، والقولَ الفصل، في هذه القضيَّة، فنقول ومن الله التوفيق والمدد:1 - لم يهمَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك قط، ولم يَثبت ذلك في رواية قطُّ، ومجرد ذِكر هذه الرواية "المرسلة" في الصحيح لا يعني أنَّها صحيحة؛ وذلك لأنَّ البخاريَّ اكتفى بكون الراوي صرَّح أنَّها بلاغ، ولو لم يصرِّح لبيَّن البخاريُّ ضعفَها كما فعل ذلك في مواضع من صحيحه، فعلى سبيل المثال قال في حديث شُعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: اشتريتُ بريرة، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((اشترِيها فإنَّ الولاء لمن أعتق))، وأُهدي لها شاةٌ، فقال: ((هو لها صدقةٌ، ولنا هديَّةٌ))، قال الحكمُ: وكان زوجُها حُرًّا، وقولُ الحكم: مُرسلٌ، وقال ابن عبَّاسٍ: رأيتُه عبدًا، انتهى؛ فبيَّن البخاريُّ أنَّ قول الحكم في مُغيث زوج بريرة: إنَّه كان حرًّا وليس عبدًا، أنَّه مُرسل، والصحيح قول ابن عباس المسند: إنَّه كان عبدًا، فلا يُعارِض قول الحكم "المرسل" مثل قول ابن عباس "الصحيح".2 - فإن قلتَ: فلماذا لم يشِر البخاريُّ لذلك في هذه القصَّة؟ قلنا: بل أشار وفَعل، لكن كما ذكرنا في المقال الأول من هذه السلسلة أنَّ صحيح البخاري لا يصح أن يَخوض فيه إلاَّ الكبار من أهل العلم، ليس الصغار حتى؛ لأنَّهم لا يعرفون فنونَ أو منهج تصنيفه لصحيحه، وكيف رتَّب أحاديثَه، بل وكيف رتَّب المكرَّر من الأحاديث "كما معنا هذا الحديث" في صحيحه، فكيف أشار البخاريُّ إلى ذلك إذًا؟3 - والجواب: حين أراد البخاريُّ الكلام على فتور الوحي في أول صحيحه، حديث رقم (4) جاء برواية عائشة التي معنا، لكن من طريق اللَّيث، عن عقيلٍ، عن ابن شهابٍ، عن عُروة بن الزُّبير، عن عائشة، والتي آخرها: "وإن يُدرِكني يومُك أنصُرك نصرًا مُؤزَّرًا، ثمَّ لم يَنشب ورقةُ أن تُوُفِّي، وفتر الوحيُ"، ثمَّ ذَكر هذا العبقريُّ روايةَ الفتور الصحيحة والتي لا يوجد أصحُّ منها، وهي من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسِه عن هذه الفترة، فقال البخاريُّ:4 - ".... ثمَّ لم يَنشب ورقةُ أن تُوُفِّي وفتر الوحيُ"، قال ابن شهابٍ: وأخبرني أبُو سلمة بن عبدالرحمن، أنَّ جابر بن عبدالله الأنصاري، قال وهو يُحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: بينا أنا أمشي إذ سمعتُ صوتًا من السَّماء فرفعتُ بصري، فإذا الملَكُ الذي جاءني بحراء جالسٌ على كُرسيٍّ بين السَّماء والأرض، فرُعبتُ منه، فرجعتُ فقُلتُ: زمِّلُوني، فأنزل الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ [المدثر: 1، 2]، فحميَ الوحيُ وتتابع، تابعه عبدالله بن يُوسُف، وأبو صالحٍ، وتابعه هلالُ بن ردَّادٍ، عن الزُّهري، وقال يُونُسُ، ومَعمر: بوادرُه.5 - فانظر رحمك الله إلى هذه العبقريَّة في الأداء، أتى البخاريُّ برواية جابر الصحيحة في نفس مقامِ ومكان زيادة الزُّهري الضعيفة في رواية مَعمر التي هي محلُّ بحثنا، وكأنَّ البخاريَّ يقول: "بعد أن فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى جبريلَ بين السماء والأرض وهو يمشي"، ولم يهمَّ بإلقاء نفسه من فوق الجبال، فرأى جبريلَ أمامه فرجع عن فِكرة الانتحار، ولا يصح ذلك أبدًا؛ لأنَّ سياق رواية جابر يؤكِّد خلافَ ذلك تمامًا؛ إذ إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجع من رؤيته خائفًا من هول ما رأى، لا أنَّه كان يشتاق إليه فيذهب ليرمي بنفسه من شَواهق الجبال!والعقل يؤيِّد هذا، فما حدَث له في حراء كان ثقيلاً شديدًا، خاف على نفسه صلى الله عليه وسلم أن يكون به جُنون، ثمَّ لما مرَّت فترة، وحدَث الأمر ثانية فرآه جالسًا على كرسيٍّ بين السماء والأرض، خاف ثانية، وهذه طَبيعة النفس السويَّة السليمة، تخاف ما تَجهل ولا تألفه، حتى تعتاد عليه مرَّة بعد مرة، لا أن تألَف مثل هذه الخوارق من أوَّل وَهلة، ثمَّ تشتاق إليها! ثمَّ تريد أن تموت من أجل أن تراها ثانية!هذا نادر، والغالب خلافه..المهمُّ.. أنَّ هذه اللَّطيفة في ترتيب الروايات خفيَت على كثير ممَّن أجاب عن رواية مَعمر، ولم يتعرَّض لها، وأنا أتبجَّح بذلك أن أكون أوَّل من أشار إليها، إلاَّ رجلاً لا أعرفه، فللَّه الحمد على مَنِّه وفضله وكرمه.• واللَّطيفة الثانية، والجواب عن ذِكري لرواية ابن سعد في طبقاته، وهي قصة ابن عباس رضي الله عنهما التي ذكرتُها آنفًا، هي أنَّ هذه القصَّة ذَكرَت أيضًا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريلَ على كرسيٍّ بين السماء والأرض لمَّا أراد إلقاءَ نفسه، بينما رواية بلاغ الزُّهري لم تذكر ذلك؛ وهذا دليل على تخليط الرواة "الضُّعفاء" لقصَّة انقطاع الوحي وما حدث فيها، فلفَّقوا بين ما صحَّ منها؛ وهو أنَّ الوحي انقطع، وبين ما لم يصح؛ وهو أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم همَّ بإلقاء نفسه من الجبال، وبين ظهور جبريل على كرسيٍّ بين السماء والأرض، وبين مجرَّد ظهوره لرسول الله صلى الله عليه وسلم من دون ذكر حاله!ولم يَضبط رواية الفتور وما حدث فيها إلاَّ جابرُ بن عبدالله رضي الله عنه، كما أخرجها البخاريُّ، وكذلك أخرجها مسلم والترمذي وخَلْق، بل أكثر من ذلك.رواية ابن عباس سالِفة الذِّكر موجودة أيضًا في الطبقات (1/ 93)، من طريق محمد بن عمر الواقدي، لكن ليست هذه المرَّة عن إبراهيم بن محمد، لكن عن طريق راوٍ آخر، اسمه إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، وهو ما بين مضعِّف له وموثِّق، لكنَّه على أي حال أوثَق وأحسن حالاً من إبراهيم بن محمد هذا، ونذكر الروايةَ ها هنا، لنبيِّن أنَّ الرواية الأخرى خطأ، ولم يَضبطها إبراهيم بن محمد، وضبطها ابنُ أبي حبيبة قريبًا من رواية جابر بن عبدالله، فقال في الطبقات:أخبرنا محمدُ بن عمر، قال: حدَّثني إبراهيمُ بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن داود بن الحُصين، عن عكرمة، عن ابن عبَّاسٍ، قال: فبينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وهو بأجيادٍ، إذ رأى ملَكًا واضعًا إحدى رجليه على الأُخرى في أُفُق السَّماء يصيحُ: يا محمد أنا جبريلُ، يا محمد أنا جبريلُ، فذُعر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، وجعل يراه كُلَّما رفع رأسه إلى السَّماء، فرجع سريعًا إلى خديجة فأخبرها خبرَه، وقال: ((يا خديجةُ، والله ما أبغضتُ بُغض هذه الأصنام شيئًا قطُّ ولا الكُهَّان،
وإنِّي لأخشى أن أكُون كاهنًا))، قالت: كلاَّ يا بن عمِّ لا تقُل ذلك؛ فإنَّ الله لا يفعلُ ذلك بك أبدًا؛ إنَّك لتصلُ الرَّحِم، وتصدُقُ الحديثَ، وتُؤدِّي الأمانة، وإنَّ خُلُقك لكريمٌ، ثمَّ انطلقَت إلى ورقة بن نوفلٍ - وهي أوَّلُ مرَّةٍ أتَته - فأخبرَته ما أخبرها به رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال ورقةُ: والله إنَّ ابن عمِّك لصادقٌ، وإنَّ هذا لبدءُ نبوَّةٍ، وإنَّه ليأتيه النَّاموسُ الأكبرُ، فمُريه أن لا يجعل في نفسه إلاَّ خيرًا".وهذه الرواية جيدة، تشهد لرواية عائشة وروايةِ جابر، وتُشعر أنَّها ملفَّقة بين الروايتين، دليل على عدم حفظ الراوي، أمَّا الزهري، أستاذ الرواية وشيخ الحفَّاظ، ففصل قصَّة عائشة عن قصة جابر، كما بيَّن البخاريُّ، فسياق كلٍّ منهما مرتبط بالآخر ارتباطًا مسلسلاً، أوَّله نزول الوحي في الغار ابتداء، ثمَّ ذهاب النبيِّ إلى ورقة، ثمَّ فتور الوحي، ثمَّ رؤية جبريل ثانية بين السماء والأرض، ثمَّ تتابع الوحي بعد ذلك..• الشاهد أنَّ هذه الرواية لابن عباس تُعتبر شاهدًا جيدًا لرواية جابر، وهذا يقوِّي قصَّة جابر "مع أنَّها وحدها كافية"، لكن هذه الرواية تقضي على بلاغ الزُّهري هذا تمامًا، وتبيِّن مدى وَهنه، وأنَّه غالبًا ممَّا تحدَّث به الناس وتناقلوه كالقصص فيما بينهم، وليس له أصلٌ صحيح، كما يفعل الناس في هذا الزَّمان وفي كلِّ وقت، يكون للبعض خيالٌ خصب، أو غرَض خبيث، يختلِق له رواية، وينشرها، فتنتشر، والعجب من الزُّهري كيف يبلغها، مع أنَّه رَوى ما هو أصح منها؟والعجَب أيضًا من مَعمر، لماذا ذَكرها عن الزهري، مع أنَّه روى عن الزهري قصَّة جابر أيضًا كما في البخاري (4925)؟!لكنْ هذه نفوسٌ بشريَّة تخطئ وتصيب..ولا يزال الأنبياء عامَّة، ومحمَّد صلى الله عليه وسلم خاصَّة، في مكانتهم الرفيعة، التي تعلو فوق مقام ارتكاب الكبائر واقترافِ الآثام، ولا يزال معتقدُنا في نبيِّنا صلوات ربِّي وسلامه عليه أنَّه أعقل البشر، وخير البريَّة، وما كان ليفكِّر في قتل نفسه، صلَّى الله عليه، كيف ذلك وهو القائل كما في الصحيحين وغيرهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((مَن تردَّى من جَبلٍ فقتل نفسَه، فهو في نار جهنَّم يتردَّى فيه خالدًا مُخلَّدًا فيها أبدًا، ومن تحسَّى سُمًّا فقتل نفسه، فسُمُّه في يده يتحسَّاه في نار جهنَّم خالدًا مُخلَّدًا فيها أبدًا، ومن قتَل نفسه بحديدةٍ، فحديدتُه في يده يجأُ بها في بطنه في نار جهنَّم خالدًا مُخلَّدًا فيها أبدًا))؟هذا ما قاله، فهل يُعقل أن يروي ذلك وقد أَقدم في يوم على أن يفعل ما نَهى عنه؟!وختامًا:أمَّا انتقاد البخاري في إخراجه هذه "اللَّفظة أو الزيادة"، فينبغي أن يكون على سبيل لوم المحبِّ، لا على سبيل النَّقض والسبِّ، فالبخاري كان يمكن أن يُعرض عن هذه الزيادة كما فعل في مواضع من صحيحه، لكننا أجبنا عن إخراجه لها، وإعراضه عنها في قصَّة بدء الوحي، وأحسن إجابة عن إخراج البخاري لهذه اللَّفظة، هي بيانه أنَّها "بلاغ" من الزهري، وليسَت متَّصلة، حتى لا يأتي أحد بعد ويجعلها قصَّة واحدة، وهو ما فعله بالفعل بعضُ الرواة، كما فعل ابن حبَّان في ثِقاته (1/ 23)، فأخرج القصَّة دون قوله: "فيما بلغنا"، وكأنَّها قصَّة واحدة من رواية الزهري عن عروة عن عائشة متَّصلة صحيحة، وهي ليست كذلك، فظهرَت ها هنا فائدة إخراج البخاري لما صحَّ ولما لم يصح من هذه القصَّة، كما أسلفنا، ولله الحمد والمنَّة.وأما إجابة بعض الشرَّاح والفضلاء عن روايةِ همِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ هذا من أجل حزنه الشديد واشتياقه، وأنَّ هذا أمر طبيعي في النفس البشرية، فأجوبة غير سديدة، ولا منطقية، وكان الأولى بهم الإعراض عن الرواية بالكليَّة مع بيان ضَعفها، والاكتفاء بما صحَّ منها، لكن غفر الله لنا ولهم، فهم ما فعلوا ذلك إلاَّ تنزُّلاً في الجدال، والإجابة عن احتمالية الثبوت، وغيرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.هذا، ونسأل اللهَ أن يعلِّمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علَّمَنا، وصلِّ اللهمَّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.




رابط الموضوع:
https://www.alukah.net/sharia/0/90804/#ixzz667Aeq64e