منهج نشر العقيدة 1/2
د. لطف الله ملا عبدالعظيم خوجة

المنهج يُبنى على أدلة ظاهرة، قاطعة، محكمة، ليست خفية ولا مظنونة أو متشابهة، فلا يتخذ المرء دليلا مشتبها، ولا خطة غامضة، فالسائر محتاج إلى الطمأنينة في سيره، فآية المنهج ألا يكثر الخلاف عليه، بين المؤمنين بمصدره ومرجعه؛ فالمؤمنون بالإسلام، لا يختلفون على ما هو من منهج الإسلام.. والمؤمنون بالسنة، لا يختلفون على ما هو من منهج السنة..
المنهج هو الفارق بين الفرق والملل، ومن لم يلحظ اختلاف المناهج، فلم يتخذ له منهجاً، فهو كالشاة العائرة، تسير مع هذه تارة، ومع هذه تارة، ليس له وجهة واحدة، بل وجهات، فهو دليل الخلط والتخبط، أو التلون والتقلب.
وبعد تأمل.. فالمنهج إما أن يكون علميا أو عمليا:
- فالعلمي هو الذهني، والعملي هو التطبيق.
- العلمي يقابل الخطة المرسومة، والعملي يقابل المرشد الدال في السير..
- العلمي هو القواعد التي يُبنى عليها معرفة الأحكام، وتحديد أصول المسائل وفروعها، والعملي هو الكيفية المختارة لنشر العقيدة، وتطبيق أحكامها.

فهذان قسمان، وهذا تفصيل كل منهما:
المنهج العلمي لنشر العقيدة:
المقصود بهذا المنهج: أن يكون هذا العلم حاضرا عند قصد نشر العقيدة وتعليمها للناس، فهو الضامن لقصر الخلاف، وقطع التردد في الجواب على المسائل المشكلة، أو المتنازع عليها عند المتأخرين عن القرون المفضلة، فهذا العلم يرجع إليه لحل الخلاف، فهو ميزان وحكم يفصل.
أولاً: العقيدة المراد نشرها، هي عقيدة الصحابة أولاً، ثم بقية أهل القرون المفضلة، من تابعين ومن تبعهم.
والمقصود من عقيدتهم: ما اتفقوا عليه، ثم ما قرره وذهب إليه كبارهم الأربعة الخلفاء، ثم ما رآه جمهورهم، لا ما انفرد به بعضهم، إلا أن يكون فعله مما يمكن الاطلاع عليه، ولم يعلم له مخالف، فهو حجة بهذين الشرطين. وكل ذلك عليه دليل من الوحي.

ثانياً: إذا لم يكن لأهل القرون المفضلة كلام في المسألة، فيرجع إلى من تبنى مذهبهم من الأئمة بعدهم، فيؤخذ بإجماعهم إن تيسر، أو جمهورهم، فإن اختلفوا على فريقين متقاربين، لم يكن بعضهم حجة على بعض، ولا يجوز تخطي مذهب القرون المفضلة إلا في هذه الحال.
ثالثاً: ما شذ به أحد المنتسبين إلى القرون المفضلة، فكان قولاً له دون غيره، فلا يُنسب إليهم قول، بل يطرح، ولا أحد معصوم سوى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كانت الحجة في القرون المفضلة بالنظر إلى مجموعهم أو جمهورهم، كما دلت النصوص، أما أفرادهم ففضلهم في ذات أنفسهم متحقق، لكن أقوالهم وأفعالهم فضلها متحقق بشرط ألا يخالَفوا من بعضهم.
رابعاً: مسائل الاعتقاد لا تقتصر على الغيبيات، وإن كانت هي الأصل، وهي أمور الإيمان الستة، لكن يلحق بها كذلك الشريعة نفسها، من أحكام العبادات والمعاملات والجنايات، فكل هذه لها جانب عقائدي، من جهة الإيمان بأنها من عند الله، والتسليم لها.
خامساً: تحرير أصول العقيدة وفروعها واجب، لمعرفة ما لا يجوز فيه الخلاف، وما يسوغ، فالأصول ما أجمع القرون المفضلة عليها، أو هو قول جمهورهم، وهذا لا يجوز الخلاف عليه؛ فمن خالف فهو ضال.
والفروع ما اختلفوا فيه على قولين متكافئين، فهذا يسوغ الخلاف فيه، ومن ضيق فيه فهو مخطئ ليس بفقيه، وربما ضال أيضا.
سادساً: كل ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخاصة الأقوال، فالأصل أنه شريعة تتبع، إلا أن يأتي ما يستثني؛ لأن النصوص أخبرت: أنه لا ينطق إلا عن الوحي، وأنه لا يخرج منه إلا حق. فما كان أصلا فلا يمنع من وقوع الاستثناء فيه، ووقوع الاستثناء لا يلغي الأصل.
سابعاً: الشريعة المحمدية شاملة للحياة كلها، ناسخة لما قبلها من الرسالة، عامة لجميع البشر، باقية إلى يوم الدين.
وعليه: فلا يصح قصر حكمها على مجال دون مجال، أو على أمة دون أمة، ولا على مكان أو زمان، ولا يساوى بينها وبين غيرها، فضلا أن يُفضّل غيرُها.

ثامناً: إعادة النظر في المسائل العقدية المحسومة عند فئة، جائز بشرط: أن تكون للتوثق من صحة نسبتها إلى الصحابة والتابعين ومن تبعهم، لمن شك في ذلك.
وليس لمن علم صحة النسبة، ثم أراد معارضتها بالعقل، أو آراء الفرق المخالفة، فذلك يُعد انقلاباً على المنهج العلمي السلفي المتبع؛ لأنه شك في وجوب اتباع الصدر الأول وتقديمه، والشك أو المعارضة أو الرفض خروج عن مذهب السنة والجماعة؛ لأن أساس الانتساب لهذا المذهب هو: القبول والاتباع لفقه الصحابة ثم التابعين ومن تبعهم. فمن رفض خرج.
والاتباع يكون بحسب القواعد المرسومة في: (أولاً، وثانيا، وثالثا).

تاسعاً: الحق واحد لا متعدد، هو ما كان عليه أهل القرون المفضلة، وهم الحجة على من بعدهم، والحق تمثل فيهم على التفصيل المتقدم في (أولاً)، والميزان يكون بالرجوع إليهم، فلا يدعي أحد أن الحق مختلط لا يُعرف، أو نسبي بحسب كل شخص، فالله تعالى أراد هداية الناس، و لا يكون ذلك إلا بمعرفة مراد الله تعالى من كلامه، والقول بنسبية الحق وتعدده يقضي بالجهل بمراد الله.
عاشراً: الحق - الذي هو مدار اليقين، ومن حصله حصل اليقين - يقابله أربعة أنواع:
- فحق هو الإيمان يقابله الكفر.
- وحق هو السنة يقابله البدعة.
- وحق هو الصواب يقابله الخطأ.
- وحق هو السداد يقاربه المقاربة.

هذا الحق بكافة مراتبه غير ممتنع التحصيل؛ لأنه لو كان ممتنعا لما حصلت الهداية، وهو محال، فالهداية مبناها على الحق وتحصيله، فمن حصل الحق حصل الهداية، ومن لم فلا، فإذا ما قيل: إن تحصيل الحق متعذر. فذلك مؤداه الحتمي تعذر الهداية، وهو باطل؛ لأن الله تعالى أراد لخلقه الهداية، وهذا مقطوع.
الحادي عشر: عندنا مرتبتان للحق، كلاهما يقين وقطعي: الإيمان يقابله الكفر، والسنة تقابل البدعة.
فالإيمان بالله الذي هو الإسلام، يقين مطلق وقطعي؛ بمعنى أن ما عداه باطل بلا ريب، والسنة التي عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقين مطلق وقطعي كذلك.
ينتج عن ذلك أنه لا مجال هنا للاجتهاد بتعدد الآراء، واعتبارها جميعا مقبولة؛ لأن معناه تصحيح ما سوى الإسلام من الملل، وتصحيح البدع.

الثاني عشر: لدينا مرتبتان من الحق، قابلتان للاجتهاد وتعدد الآراء، هما: الصواب، والسداد. فأمرهما أسهل، فمن أخطأ أو قارب سداد الحق، فيحتمل منه ذلك؛ فلا يسوغ المنع هنا بدعوى اليقين والقطعية، فليس شيء من ذلك هاهنا.
الثالث عشر: ثمة طائفة – بوصفها لا بعينها - باقية إلى قيام الساعة هي على الحق؛ أي على ما كان عليه الصحابة من الفقه في الدين علما وعملا، ليسوا كمثلهم، لكنهم على ذات المنهج، وعلى هذا دلّ الدليل النقلي والعقلي؛ ذلك أن الرسالة المحمدية خاتمة، ناسخة، باقية، وبقاؤها لن يكون إلا بحملة، فنفي وجود طائفة تمثل الحق، نفي لبقاء الرسالة، وهو من التكذيب للوحي.
الرابع عشر: ليس من طائفة معينة لها الحق أن تدعي أنها هي الممثلة لهذا الحق تمثيلا مطلقا. فذلك يعني تزكية مطلقة لكل من انتسب إليها، وهذا خلاف المنقول والمعقول والحال، بل كل فئة تعرض نفسها وأقوالها وأعمالها على ذلك الميزان، ثم الحكم بعد، فقريب ومتباعد، والعرض يكون بالشمول والعموم، عرض في: الأقوال، والأعمال. ليس في شيء دون شيء.