(عشرون وجها من وجوه الرد على النظرية النسبية في دلالة الألفاظ)
.....
الوجه الأول- فيها إبطال للعمل بقواعد اللغة العربية ودلالاتها عند العرب في تفسير النصوص، وهم الذين نزل القرآن الكريم بلغتهمن كما قال سبحانه: (وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين) وقال: (كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون)، وما دام أن القرآن والسنة جاءا بلغة العرب فلا يجوز الخروج عن قواعدها ودلالاتها المعروفة في اللغة.
..
الوجه الثاني- أنها تسلتزم الخروج عن طاعة الله ورسوله التي فرضها الله في كتابه بقوله (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول)، وقوله: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، وأجمع على ذلك المسلمون جميعا.
..
الوجه الثالث- أنها مخالفة لمنهج الصحابة والتابعين في تفسير النصوص؛ حيث كانوا يعتمدون في تفسيرها على القرآن والسنة ولغة العرب.
..
الوجه الرابع-أنها إنكار لدلالة اللفظ أصلا، وغبطال لها؛ فليس هناك – حسب قولهم – دلالة حقيقية معينة أرادها الله أو رسوله، وإنما هي ألفاظ مهملة لا دلالة فيها ولا معنى لها، بل هي حشو وزيادة.
..
الوجه الخامس- أنها تفتح الباب لتفسير النصوص بالأهواء والآراء المجردة، ويلزم منها جل نصوص الوحي العوبة بيد الناس والجهلة يتشكل معناها بعدد عقول القارئين لها.
..
الوجه السادس- أن الله تعالى ةصف كتابه الكريم بالهداية والنور والبيان والفرقان، فقال سبحانه: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)، وقال سبحانه: (كتاب أنزله إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور)، وقال: (وأنزلنا إليكم نورا مبينا)، وقال سبحانه: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء).
ولا يكون كذلك غلا بالقول بأن له دلالة محدد يفهمها العارفون بلغة العرب، وأما على القول بالنسبية فلا يكون القرآن كذلك؛ لأنه لا دلافلة له ثابتة.
..
الوجه السابع- أن الله تعالى جعل الحجة في وحيع، وقطع الأعذار عمن بلغته حجة الرسالة، فقال سبحانه: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)، وقال سبحانه: (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)، وقال سبحانه (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون).
ولو لم تكن لهذه النصوص دلالات ثابتة محدد لما قامت الحجة الرسالية على الخلق، وكيف يكون حجة عليهم وهم لا يفهمون لخطابه معنى محددا، ولا تفسيرا معينا.
..
الوجه الثامن- أن الله تعالى أمر المختلفين في شيء بالرد إلى نصوص الوحي والاحتكام إليها، ورد التنازع لمدلولاتها، فقال سبحانه: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول)، وقال سبحانه: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله).
ولا تكون نصوص الوحي حاكمة بين المختلفين وفاصلة بين المتنازعين، إلا إذا كانت لها دلالة ثابتة محددة لا تتغير.
..
الوجه التاسع- أن الله تعالى وضع اللغة للإهام وحصول البيان عن النفس، فقال سبحانه: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم)، وقال سبحانه: (الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان) .
والقول بنسبية الدلالة في النصوص الشرعية بناقض مقصود الوضع اللغوين وهو الإهام والبيان عن مراد المتكلم؛ لأن هذه الألفاظ في زعمهم ليس لها دلالة محددة مفهومة من النص نفسه.
..
الوجه العاشر- أن النبي – صلى الله عليه وسلم بين أن اجتهاد المجتهد قد يكون صوابا، وقد يكون خطأ ... وهذا يناقض نظرية النسبية، فإنه لا مجال فيها لصواب ولا خطأ؛ بل كل تفسير هو صواب عند صاحبه.
والصحابة – رضي اله عنهم – أيضا – أخبروا الناس بأن فهمهم للقرآن واجتهادهم في الشرع يحتمل الخطأ والصواب، وتبرؤوا من نسبة الخطأ إلى الله – تعالى - .
فدل ذلك على أن الله – تعالى – له مراد محدد ومقصود معين من وراء النصن قد يصيبه المفسر، وقد لا يصيبه.
..
الوجه الحادي عشر- قال عبد الله بن عباس – رضي الله عنه - حبر الأمة وترجمان القرآن: "لتفسير على أربعة أنحاء؛ فتفسير لا يعذر أحد بجهله، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلا الله"، وروي مرفوعا بسند ضعيف.
وهذا الأثر الذي ذكره علماء التفسير يدلنا على أن أكثر دلات القرآن معلومة عند العامة أو الخاصة، وأن الأقل منها من لمتشابه الذي له معنى، ولكن لا يعلمه إلا الله، فالقرآن كله له دلالة معلومة عند الخلق والخالق، فمن نفى الدلالة المعلومة وقال: ليست لهذه الألفاظ دلالة ثابتى"، فهو مخالف لحبر القرآن، وأمة القرآن.
كما أن هذا الثر المتفق على مضمونه عند العلماء يبطل دعوى شيوع الحق في تفسير النص لكل أحد، ويبطل تهمة احتار الحق التي رددها هؤلاء الليبراليون، وشنعوا بها على علماء الإسلام.
ووجه ذلك: أن الأثر يدلنا دلالة صريحة على أن من التفسير ما لا يعرفه إلا العلماء، أو العرفون بلغة العرب، دون العامة الذين لا علم لهم به، وهذا ليس احتكارا، ولكنه اختصاص يستحقه كل من توافرت فيه شروط المفسر، بينما هؤلاء يزعمون أن كل أحد يمكنه أن يفسر النص القرآني دون الحاجة إلى العلماء، دون الرجوع إلى لغة العرب.
وقد تقرر عند أهل القانون أن سلطة التفسير للنص الوضعي القانون لا تكون إلا للجهة التشريعية الواضعة للنظام، ولا يملك كل أحد حق تفسير نصوص النظام حسب رأيه، وهكذا كل سلطة إدارية تختص بتفسير ما نضعه من لوائح، وهذا كله ليس احتكارا، لكنه اختصاص، وتنظيم روعيت فيه مصلة حماية النظام، وسد باب العبث بنصوص.
..
الوجه الثاني عشر-أن الأصوليين أجمعوا على أن اللفظ المستعمل لا يخرج عن كونه نصا أو ظاهرا أو مجملا – على تفصيل شكلي عند الحنفية – فالنص والظاهر يجب العمل بهما اتفاقا كما حكاه الجويني وغيره، والمجمل لا يجوز العمل به حتى يرد البيان، وإذا فسره راويه بمعنى يحتمله اللفظ وجب حمله عليه.... وعلى ذه النظرية لا يجب العمب بالنص ولا بالظاهر؛ لأن دلالتهما نسبية، وأن جميع النصوص من قبيل المجمل – على أحسن تقدير – فلا يعمل بها، وإن قلنا تكون من قبيل المهمل – وهو الصواب – فلا يعمل بها – ايضا -؛ لعدم وجود دلالة أصلية للكلمة، وهذا إسقاط للنصوص وإبطالب للعمل بها.
..
الوجه الثالث عشر- أن القرآن الكريم عندما حكى مقلات الكفار في الدين حكم عليها بالفساد والبطلان والكفر، وتعود أصحابها باللعن والعذاب مثل قوله تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون)، وقوله تعالى: (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا)، وقوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة)، ولو كانت الحقائق ودلالات الألفاظ نسبية تاريخية؛ لما حكم عليها بذلك؛ لأنها – سن النظرية – ليست لها دلالة موضوعية ثابتة، وهي حق بالنسبة لهم، ويحتمل أن تكون حقيقة في المستقبل.
..
الوجه الرابع عشر- أن هذه النظرية الفاسدة تستلزم لازما فاسدا وهو أن الحاكم والفيصل في تفسير النصوص هو الفهم البشري، وليس النص الشرعي، ففهم المفسر هو الحاكم، والنص هو المحكوم عليهن وهذا قلب للوضع الصحيح حتى عند المعتزلة الذين لا يخالفون في كون الحاكم والمشرع هو الله – تعالى – من خلال نصوص الوحي، واللازم الفاسد يدل على فساد الملزوم.
..
الوجه الخامس عشر- أن هذه النظرية تسلتزم أن افسلام في نصوصه هو ديت بشري، وليس دينا إلهيا؛ لأنه عبارة عن نصوص يفسرها الناس بحسب آرائهم ورغباتهم وأرضيتهم المعرفية، وهذا يناقض صرائح النصوص الدالة على أن الإسلام هو دين الله تعالى الذي ارتضاه للناس: (إن الدين عند الله الإسلام)، (ورضيت لكم الإسلام دينا)، و(ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه).
كما تستلزم أن تكون نصوص الشريعة مثل نصوص القانون الوضعي باعتبار أنها خاضعة وتابعة لتفسيرات الإنسان، ولا تختلف عنها إلا من حيث اللفظ والنسبة.
وهذه هي القداسة التي يريد الليبراليون غسقاطها عن النصوص الشرعية بالمراوغة الفكرية واختراع النظريات الفاسدةن وقولهم في ألفاظ القرآن كقول الوليد بن المغيرة : (إن هذا إلا قول البشر)؛ لأن النتيجة واحدة؛ فالقرآن عند أصحاب هذه النظرية مقدس من حيث اللفظ، ولكنه غير مقدس من حيث المعنى والمضمون!!"
..
الوجه السادس عشر- أن هذه النظرية تفتح باب الزندقة واستحلال الخروج على الأحكام الشرعية؛ لأن كل شيء نسبي، فما قاله رسول الله والسابقون كان حقا في زمنهم وبالنسبة إليهم، ولا يلزم أن يكون كذلك في عصرنا وبالنسة إلينا، وبالتالي لا يلزمنا العمل بهذه النصوص على ما فهمه المسلمون، وهذا عين الزندقةن وهذا كما قال افسفرائيني عن مذهب تصويب المجتهدين: "هذا مذهب أوله سفسطة وآخره زندقة".
..
الوجه السابع عشر- يلزم على هذه النظرية أن فهم الدين الحق غير معلوم، ولا ثابت حتى عند النبي – صلى الله عليه وسلم – واصحابه؛ لأن فهمهم اجتهادي نسبي، وقد يستجد لنا فهم مختلف في عصرنا هو أعمق واصح مما فهمه رسول الله واصحابه!! وكفى بهذا فسادا أن يظن إنسان جاهل مغرور جاء في آخر الزمن أنه أعلم بالين والقرآن من رسول الله وأصحابه!!
فهذه النظرية تستلزم تضليل الأمة والسلف الصالح من الصحابة والتابعبن من جهة أن هذه التفسيرات المعاصرة التي قالها النسبيون لم يعرفها علماء الأمة في العصور السابقة.
..
الوجه الثامن عشر- يلزم من هذه النظرية التسوية بين افيمان والكفرن والحق والباطل، والخير والشر، والمصلحة والمفسدة؛ لأنها سواء أمام دلالة النص، وكلها نسبية وثابتة في اعتقاد المفسر، ويس في واقع الأر، وهذا نقيض ما جاء به الوحي وجميع الرسالات السماوية، كما قال تعالى: (قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور)، وقال سبحانه: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تحكمون)، وقال: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) .
..
الوجه التاسع عشر- أن هذه النظرية تناقض التجديد الذي يدعونه؛ لأن التجديد في غالب استعماله اللغوي يقتضي لمحافظة على البناء الساسي الأصلي، ولكنك تجدد الأشياء البالية فيه، تقول العرب : "جدد الشيء اي: صيره جديدا"، كقولنا: جدد فلان غيمانه وعهده، أي: صيرهما جديدا دون أن ينقضهما أصلا، لكن هؤلاء نادوا بهدم البناء كله، والإتيان ببناء جديد اساسا منقطع النسب عن دين المسلمين.
..
الوجه العشرون- أنه يلزم على نظريتهم أن تكون هذه النظرية النسبية نسبية أيضا، وليست لها حقيقة موضوعية ثابتة، وأنها في عصر قادم يمكن أن تكون باطلة؛ بناء على نظرية التطور والتاريخية، ونظرية بهذا التهافت لا ينبغي للعاقل الأخذ بها.
ولو طبقنا نظريتهم على كلامهم وألفاظهم وحملناها على كل ما يفهمه القارئ والسامع دون المعنى الذي يريدونه، وعلى أساس الدلالة اللغوية ومقاصد المتكلم؛ لرفضوا هذا واعتبروه جهى وتقولا عليهم، ولكنهم رضوا بذلك في كلام الله ورسوله!!
وهذا الأسلوب سماه الغزالي بالمعرضة، واستعمله في نقض مقالة الباطنية بأن ظاهر القرآن لعله رمز لأمر باطن لا نفهمه!! فرد الغزالي بأن ظاهر قول الإمام المعصوم أيضا لعل له باطنا غير ما فهمتموهح فينتقض المذهب بنفس المذهب.
وهذا يذكرني باقتراح طريف ذكره عبد القاهر البغدادي في التعامل مع السوفسطائية الذين ينكرون ثبوت الحقائق بدعوى النسبية، وهو أن يضربوا ضربا مبرحا، وتؤخذ أموالهم، فغذا اشتكوا من ألم الضرب، وفقد المال، قيل لهم: لماذا تشتكون غذا كان الألم والمال ليست لهما حقيقة!! وأكثر العلماء على ترك مناظرتهم لعدم الفائدة.
والخلاصة في الحكم على نظرية النسبية والتطور في الألفاظ أنها نظرية فوضوية متمردة على الشرع والغة، أولها مراوغة وسفسطة، وآخرها إلحاد وزندقة.
إن أصحاب هذه النظرية يشتركون مع الفرق الباطنية في بعض المقدمات وفي النتيجة، أما المقدمات فمثل التأويل والطعن والتشكيك في تفسير الفقهاء، والخوض بغير علم وإثارة الشبه حول النص الشرعي، وأما النتيجية فهي الانسلاخ من الدين وهدم قوانين الشرع وأحكامه.
لكنهم يختلفون معهم في بعض المقمات مثل العقل، فالباطنية يرفضون لعقل، ويأمرون أتباهم بالتقليد الأعمى، وأما التأويليون المعاصرون فيمجدون العقل ويقدسونه ويجعلونه حكما على كل شيء.
كما يختلفون في أن الباطنية حددوا معاني معينة زعموا أنها المراد بالنص، وأن حق التفسير مخصوص بالأئمة المعصومين، لكن القائلين بالنسبية نفوا وجود معنى محدد مقصود من لنص، وأعطوا ق التفسير لكل أحد.
انتهى باختصار يسير من كتاب (نظرية النسبية في دلالة الألفاظ: دراسة أصولية نقدية) ص (62-94) .