التأصيل التربويّ ضرورة الدعوة وصلاح الأمّة
د. عبد المجيد البيانوني






إنّ أكبر عقبة ومعضلة تواجه الدعاة إلى الله تعالى هي الجهل بالإسلام خصوصاً ، وقد عمّ الجهل بالإسلام العالم الإسلاميّ من أقصاه إلى أقصاه ، بعد احتلاله والقضاء على مؤسّساته التربويّة والتعليميّة ، أو إضعافها ومحاولات تعويقها عن أداء رسالتها ([1]) .

ومن هنا فإننا نجد كلّ المصلحين والدعاة الربّانيّين خلال تاريخ هذه الأمّة يتّخذون التربية منهجاً ووسيلة لتحقيق التغيير الاجتماعيّ ، الذي يريده الله منهم ، لتكون الأمّة وفق ما يرضي الله عنها ، تحمل الرسالة ، وتؤدّي الأمانة ، وتكون خير أمّة أخرجت للناس ، لأنّ الله تعالى يقول في محكم تنزيله : ( ..إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"11" ) الرعد . وعلى ذلك فإنّ التربية في مفهوم الإسلام ليست محصورة في جانب اجتماعيّ أو اقتصاديّ بل هي قبل ذلك ضرورة عقديّة وأخلاقيّة ، وحضاريّة وإنسانيّة ، بمعناها الواسع الرحب .

والحاجة إلى الحديث عن التربية لا تتوقّف ، لأنّها لا تعدو أن تكون ذكرى لما ينسى ، أو تأصيلاً وترسيخاً لما يعرف ، أو تشخيصاً لظواهر أدواء وعلل ، تختلف وجهات النظر في تشخيص أسبابها ، ويتّخذ الناس مناحي شتّى في تقديم الحلول ، واقتراح العلاج ، ويسيرون في اتّجاهات متعدّدة تبعاً لذلك ، أو قد تدفع إلى الحديث عن التربية الحاجة إلى مواكبة ما يستجدّ من حاجات ، وعلاج ما يطفو في حياتنا من مشكلات ، نتيجة ما يحيط بحياتنا الفرديّة والأسريّة والاجتماعيّة من ظروف متغيّرة ، تجعل ما نؤمن به من حقائق ومبادئ وقيم ، يتعرّض إلى هزّات عنيفة ، وتشكيك خطير ، منها ما يكون بصورة عفويّة ، وكثير منها مقصود هادف ، يرمي إلى زعزعة الثقة بالقيم الأصيلة ، التي تبنى عليها حياتنا الإسلاميّة ، وتقوم على أسسها وقواعدها .

وإذا كان بعض الناس يطيب لهم أن ينظروا إلى قضيّة التربية نظرة سطحيّة ساذجة ، ويتجاهلوا كثيراً من مداخلاتها الشائكة المعقّدة ، فإن ذلك الموقف لا يخفّف كثيراً من أزماتنا الراهنة ، بله أن يلغيها ، ويجتثّ جذورها ، وهو لا يعدو أن يكون على حدّ منطق القائل :
إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيعُ
وهو منطق إن صلح في بعض أمور المعاش ، فلن يصلح ولن تصلح به الحياة في صراع الحقّ مع الباطل ، وتنازع المبادئ في قيادة الناس ، وبسط سلطان الحقّ في الأرض .

وإذا كان بعض الناس يحلو لهم أن يعدّوا الحديث عن بعض الأمور غدا ضرباً من الترف الفكريّ ، وباباً من أبواب المتعة العقليّة ، قد كثر فيه القول ، وسئم منه التكرار ، فإن قضيّة التربية في حياتنا الإسلاميّة قضيّة أساسيّة ملحّة ، إذ إنها كما تتوقّف عليها استقامة حياة الإنسان العاجلة ، ونيل السعادة الآجلة ، فهي تنبني عليها مفاهيم وتصوّرات ، وقيم ومبادئ ، هي أصل لما يقوم عليها من مناهج ، وما يتّخذ من مواقف ، أو يختار من اتّجاهات في الحياة .

ومن ثمّ فإن قضيّة التربية لا تزال القضيّة المركزيّة ، التي ينبغي أن يهتمّ بها دعاة الإسلام في كلّ مكان ، ولا تزال المهمّة الأولى التي تنتظر العلماء والدعاة ، والمتجرّدين لها الأكفاء .

وإنه بدون التربية الإسلاميّة الأصيلة المتوازنة ، لا نجد المسلم الصالح المصلح ، الذي يصاغ الصياغة الإسلاميّة المتميّزة ، ويهيّأ لأداء مسئوليّاته في الحياة ، ولا نجد الأسرة المسلمة التي هي محضن الطفل الفطريّ ، وسرّ نشأته السويّة ، وتكوينه القويم ، ولا نجد المجتمع الإيمانيّ ، والجماعة القويّة ، الراسخة المتماسكة ، التي أراد الله تعالى لأمّة الإسلام أن تكون إيّاها ، لتتنزّل عليها رحمة الله ورضوانه ، وتأييده ورعايته ، وهي محلّ عونه وفتحه ، ونصرته وتمكينه .

وإن مثل التربية في الحياة الإسلاميّة ، ومن يمثّلها ، ويقوم بها ، كمثل مركز الدائرة من الدائرة ، وما يتّصل بها من حقائقها الخاصّة ، من المحيط والوتر ، والقطر ونصف القطر ، وكما أن مركز الدائرة يحقّق وجود الدائرة بحقيقتها ، فكذلك لابدّ في الحياة الإسلاميّة من مركز لها ، يتحقّق عنده وبه وجودها : إنّه العالم الداعية الربّانيّ ، أو المعلّم المرشد المربّي .

--------
([1]) ـ ينظر : مشكلات تربويّة في البلاد الإسلاميّة ، للدكتور الشيخ عباسي مدني ، ص/224/ .