غُـــــرَبــاء ( د . أيمن الجندي )






أمسك بالفأس ورفعه فى عزم. لم يكن قد أمسك فأساً من قبل، ولا اعتادت يده الناعمة ملمسه الخشن البدائى، ولكنه تحامل على نفسه ومضى يهوى به فى قوة على جذع الشجرة. وامتزج صوت لهاثه مع صوت تهشيم الشجرة مع أصداء أصوات غاضبة تقترب من بعيد.



الحكاية كما يرويها العجوز .....


كان مساء أغبر لم تشرق بعده شمس.

عمرى سبعون عاماً. قضيتها بالكامل منحنياً على أرضى. فلاح أنا بكل ما تعنيه الكلمة من معان. فلاح يؤمن بأن الحياة مقدسة وأن المساس بها جريمة يستحيل الإغضاء عنها.

لذلك يجب أن تتفهموا مشاعر الغضب الجامح الذى اجتاحنى حينما أبصرت ذلك المأفون يتسلل كاللص فى ظلام الليل ليهشم شجرتى الثمينة التى لا نظير لها فى بر مصر كلها.

لم أكن أعرفه حينما اصطحبه ولدى إلى قريتنا الهادئة، رحبت به فى حرارة كما تقتضى التقاليد ودعوته إلى جولة فى الحديقة. هذه الحديقة التى هى - بالنسبة لى - بمثابة البصر من العين والروح من الجسد.

خذ عندك هذه الشجرة مثلا. إنها لا نظير لها فى بر مصر كله. زرعتها بيدى منذ خمسين عاماً.

هى شجرة نادرة من أشجار الهند لإحدى ثمار الفاكهة غير المألوفة فى مصر. أتى بها باشا مصرى فى إحدى زياراته للهند فى الأربعينيات، ولكنه لم يفلح قط فى زراعتها. يقولون إن مناخ مصر غير ملائم لها. وتنقلت من يد إلى يد حتى استطاع والدى أن يظفر بها. لكنه لم يفلح هو الآخر فى زراعتها.

ولكنكم ترونها أمامكم الآن مستوية قائمة، فهل تراكم تعلمون من الذى أفلح فى ذلك؟

حتماً إنه أنا.

مئات الليالى أنفقتها فى محاولات مضنية حتى اهتديت إلى الوسيلة المثلى لاستنباتها ذات ليلة يستحيل أن أستطيع وصفها.

هل أسهب فى الحديث عن مدى فرحتى بذلك أم أن الأمر مفهوم حتما؟. هل أكون مبالغاً إذا قلت إن هذه الشجرة بمثابة ابنتى التى أنجبتها منذ خمسين عاماً. ابنتى الضعيفة المنهكة التى لم تثمر أبداً!.

هل تخمنون الشىء الذى أتطلع لمرآه بشغف كل صباح قبيل صلاة الفجر فى مسجد القرية؟. هل تعرفون الشىء الذى يثير هواجسى فى سفرى؟، الذى أهرع إليه فور عودتى متملصاً من عناق الأهل والأحباب؟

هل تعرفون كل ذلك وأكثر؟

هكذا مضيت أقص تلك الحكاية الأثيرة وكأنى أفلحت تواً فى زراعتها.

ولكن ....

كيف غفلت عن ذلك الشحوب الذى عراه وهو يصغى إلى حكاية الشجرة إياها ؟. كم كنت ساذجاً حين لم انتبه إلى عزوفه عن تناول طعام الريف الشهى الطازج!. كيف طاوعتنى نفسى على النوم الهادئ المطمئن حتى انتبهت على صوت مكتوم لم يكن ممكناً - كفلاح - ألا أعرف كنهه ؟.

هو صوت فأس يهوى على جذع شجرة ما فى منتصف الليل ولم يكن ممكناً إلا أن أستطلع جلية الأمر.

وهكذا رأيت..

ويا لهول ما رأيت ....


الحكاية كما يرويها الابن .....


ماذا تفعل لو أبصرت عزيزاً عليك يدير ظهره للشاطئ ويتجه صوب أعماق البحر الغادر صاماً أذنيه عن صيحات التحذير؟

ألن تسعى لإنقاذه؟ ألن تتمزق من أجله؟

كان هذا هو حالى.

صديق عزيز هو. بنفسه المرهفة وشفافيته التى تشبه الزجاج النقى الرقيق. الزجاج الذى يتهشم بمجرد اللمس.

فى البدء لم أفطن إلى تغيره، تصورت أن إيثاره الصمت وعزوفه عن رفقة الأصدقاء هو أمر عارض لن يلبث أن يزول.

وبرغم ذلك لم أقف ساكناً إزاء أحزانه. ألححت عليه أن نمضى عطلة قصيرة بالقرية وكلى أمل أن يصارحنى بما يزعجه. تصورت أنه سيرفض، لكنه – لدهشتى - وافق على الفور!.

عندما دعاه أبى إلى مشاهدة حديقته لم يبد عليه الملل بل كان يصغى إليه فى شغف حقيقى، ثم قص أبى حكايته المشهورة عن الشجرة النادرة التى لا نظير لها فى مصر كما يزعم، وعلى الفور وجدت وجهه يشحب. يتغير . يمتقع.

لم أفهم بالطبع، وكيف يتسنى لى أن أُلمّ ساعتها بغرابة أطواره؟

وفى النهاية مضينا سوياً إلى غرفتى لننام. حاولت أن أسامره إلا أنه تظاهر بالنوم ليتجنب الحديث فلم أشأ الإثقال عليه. وبينما كنت أتفكر فى غرابة أطواره غلبنى النوم.

استيقظت على أصوات بعيدة غامضة، ورنوت إلى صديقى محاذراً إزعاجه إلا أننى لدهشتى لم أجده. هرولت مسرعاً مع والدى الذى جاء هو الآخر يستطلع الخبر.

وهناك تحققت أسوأ مخاوفى.

وجدت صديقى يحطم بالفأس - دون سبب مفهوم - شجرة أبى الثمينة النادرة.

لا ريب أنه جنّ، وإلا فلماذا يتسلل فى ظلام الليل كاللصوص لتهشيم شجرة نادرة لأناس كانوا فى غاية الود معه؟

لكن هذه التحليلات يمكن تأجيلها قليلا لإنقاذه من براثن أبى الذى جن جنونه وأوشك أن يهشم عنقه بذات الفأس. عبثاً ما حاولت تهدئة الشيخ العجوز الثائر الذى تهدجت أنفاسه وتناثر لعابه وجمحت عيناه.

بالكاد أنقذت حياته.


الحكاية كما يرويها الصديق ....


أفهم الآن لماذا أطعت ذلك النداء الغامض الذى ألح بى فى الذهاب إلى ذلك المكان البعيد رغم عزوفى عن الرفقة والاختلاط.. أعرف الآن لماذا أطعت صديقى كالمسحور!!.

غريب أنا عن عالمى. غريب عن نفسى. غريب بين غرباء.

كان الرجل العجوز يثرثر. وكانت الحديقة تنفث السلام النفسى الذى أتوق إليه، وأوشكت لوهلة أن أنعم بذلك الود، وتصورت أننى نزعت عنى رداء اللحم والدم التى تعكر صفوى وتؤخر لحاقى بالعالم الذى أريد.

كانت الدموع تتدافع فى عينى. أكاد لا أسمع حديث العجوز وإن كنت أتظاهر بذلك تأدباً، وبدأت انتبه إلى حديثه عن شجرة معينة بالذات.

يقيناً كانت تختلف عن سائر أشجار الحديقة. لم أعرف نوعها ولكنى أدركت أنها مختلفة. كانت وحيدة منزوية غريبة. كانت خائفة، خائفة.

لم أعد أصغى إليه بل إليها!!. إلى الشجرة!!.

كانت تستغيث بى. شىء كالإلهام انطبع فى وعيى بجلاء.

كانت تقول:

«غريبة أنا فى هذه الأرض..

انتزعونى من بين صديقاتى..

قسراً فى أرض غريبة صلبونى..

الأشجار حولى تتحدث لغة لا أعرفها

ولا أريد أن أعرفها

يتبادلون نكات لا أفهمها

وحين امتنعت عن الثمار لم يفهموا

أن الشجرة غير المثمرة

تعلن على الملأ رغبتها الصريحة فى الموت

هذه استغاثة من أعماق وجعى

من يرحمنى بقطع جذعى؟

من يفعل؟»

……

كانت الاستغاثة تنتشر فى الأثير لكنها لم تصل أحدا سواى.

من يفعل؟

أنا سأفعل ...


منـــــــــــقـ ــول