تاريخ تشريعِ الحجاب والسترِ


مِن إحكامِ الله لشريعتِه: أنه يبدأُ بتحريمِ الغاياتِ قبلَ تحريمِ الوسائلِ الموصلةِ إليها؛ لأنَّ المقصدَ مِن العبوديةِ يظهَرُ في الغاياتِ أكثَرَ منه في الوسائلِ، فجاء تحريمُ الوسائلِ تبغاً، وقد كانت أكثرُ الوسائلِ مباحةً، ثم حُرِّمت بعدَ رسوخِ تحريمِ غاياتِها في النفوسِ.
ولهذا يُمكِنُ أن تُباحَ الوسائلُ الموصلةُ للزنى في أحوالٍ نادرةٍ وخاصةٍ، لكنْ لا يمكنُ أن يُحَلَّ الزنى أبداً؛ لأنَّه محرَّمٌ لذاتِه؛ قال الله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] فالنظرُ للمرأةِ يجوزُ للعجوزِ، وللمخطوبةِ، وأن يَمَسَّ الرجلُ المرأةَ، والمرأةُ الرجلَ؛ للضرورةِ الشديدةِ للتطبيبِ والعلاجِ، ولكنَّ الزنى لا يُمكِنُ أن تُبيحَه أيُّ ضرورةٍ.
ولما كانتِ الوسائلُ الموصلةُ إلى الزنى كثيرةً، وكان تحريمُها جملةً شاقّاً على نفوسٍ حديثةِ عهدٍ بجاهليةٍ وضلالٍ؛ كطوافٍ للعُرَاةِ حولَ الكعبةِ، وشِعْرٍ فاحشٍ، وغَزَلٍ ماجِنٍ، وتساهُلٍ بزنى الإماءِ والتكسُّبِ منهنَّ: تدرَّجَتِ الأحكامُ بتحريمِ الغايةِ أولاً، وهي الزنى، قبلَ وسائِلِها الكثيرةِ؛ جذباً للنفوسِ، وتأليفاً لها، فلما حرَّم اللهُ الزنى، وشدَّد في أمرِه، وقوَّم الفِطَرَ المنحرِفةَ بجاهليةٍ سابقةٍ، ناسَبَ فحرَّم وسائلَ الزنى، بحسبِ ما يجتمِعُ فيها مِن قوَّةٍ، وسرعةٍ، وقُرْبٍ مِن فاحشةِ الزنى، ومِن هذه الوسائلِ شريعةُ الحجابِ للمرأةِ وجلبابِها وخمارِها، فشَرَعَه اللهُ في السَّنَةِ الخامسةِ، وقيلَ: قريباً منها.
وقد جاء في ذكرِ أحوالِ النساءِ أحاديثُ كثيرةٌ؛ في حجابِهِنَّ، ولباسِهِنَّ، وخروجِهِنَّ قبلَ فرضِ الحجابِ، ومَن لم يَعْرِفْ تواريخَ الحوادثِ والنوازلِ، اضطربتْ عليه الأدلَّةُ؛ خاصَّةً إنْ كان في النفوسِ هَوىً، تشبَّثَتْ بأدنَى دليلٍ لا تعرِفُ إحكامَه ونَسْخَه، ويستطيعُ كلُّ واحدٍ أنْ يأخُذَ بنصوصِ الوحيَيْنِ المنسوخةِ، فيحتجَّ بها على ما يَهْوَى، حتى في أركانِ الإسلامِ، فإنَّ الصحابةَ كانوا يصلُّون ركعتَيْنِ ركعتَيْنِ، ولم تُفْرَضْ أكثرَ مِن ذلك، حتى زِيدَتِ الظُّهْرُ والعصرُ والمغرِبُ والعشاءُ.


وقد رأيتُ مِن الكُتَّابِ مَن يستدِلُّ بأحاديثَ قبلَ فرضِ الحجابِ على تهوينِ الحجابِ، والعلماءُ كانوا يَعْرِفُون هذه الأحاديثَ، وَيمُرُّون عليها مرورَ العارِفِين لمنازِلِها ومواضِعِها في الدِّينِ، ولم يَخطُرْ بالبالِ أن يَحتَجَّ بها محتجٌّ على رأيٍ خطأٍ، أو هوىً وضلالةٍ، والجهلُ بتواريخِ نزولِ الوحيَيْنِ، بابٌ لكلِّ صاحبِ هوىً، يدخُلُ منه ليأخُذَ ما يريدُ، حتى الخمرُ فالأحاديثُ والأخبارُ في شربِ الناسِ لها قبلَ تحريمِها كثيرةٌ!

ولم يكنْ تشريعُ الحجابِ والسترِ باللباسِ فُرِضَ جملةً واحدةً بجميعِ تفاصيلِه؛ وإنما جاءَ متدرِّجاً.