لقد حظيت مقدمة القصيدة العربية القديمة بعناية بالغة من قِبل الشعراء والنقاد القدماء والمعاصرين على حد سواء، أولَوْها عناية كبيرة، وخصوها بقدر غير يسير من الدراسة والبحث والاهتمام؛ وذلك نظرًا لما تكتسيه من مكانة كبيرة في البناء الشعري لموضوع القصيدة، ولما تضفيه أيضًا من جمالية فنية، وما تضفيه من حسن ورونق على النظم؛ ذلك أنها المدخل الرئيس إلى غرض الشاعر المقصود من إبداعه، والباب الأول والأوسع الذي يمكِّن الناقد من معرفة مسعاه وغايته ورسالته من شعريته، والتمهيد الذي يهيئ من خلاله المتلقي لما هو آتٍ من أبيات شعرية، ومضمون فني وبلاغي، وهي أيضًا البداية والافتتاحية التي إن صلحت وحسنت وتمكنت في ذهن القارئ وذوقه - صلح ما تلاها وما جاء بعدها.
ولم يثبت أن الشاعر العربي في القديم قد افتتح قوله الشعري متبعًا شكلًا واحدًا أو نهجًا خاصًّا؛ ذلك أن مقدمة القصيدة العربية القديمة متعددة الأنواع والأشكال، وإن كان أكثر ما اشتهر منها وتداوله الشعراء بقوة: المقدمة الطللية، والمقدمة الغزلية؛ إذ بالعودة إلى النصوص الشعرية وعمل قراءة في افتتاحاتها، يتأكد لنا بالملموس أن الشعراء الجاهليين سلكوا مسالك عدة، واستهلوا قصائدهم إما بالمقدمة الطللية، وإما بالمقدمة الغزلية، وإما بمقدمة الشباب والشيب، وإما بمقدمة وصف الطيف، أما مقدمة وصف الظعن، ومقدمة الفروسية، ومقدمة وصف الليل، فهي أشكال لم يلتفت القدماء إليها كثيرًا، كما أن المحدثين الذين تحدثوا عن المقدمات الجاهلية لم يشيروا إليها، سوى الدكتور يوسف خليف، الذي كشف عن مقدمة الفروسية، كما كشف عن المقدمة الطللية، والمقدمة الغزلية، ومقدمة الشباب والشيب، ومقدمة وصف الطيف، والمقدمة الخمرية[1].
ومن أجل الوقوف وقفة نقدية على هذا العنصر المهم والمحور الأساس من بناء القصيدة العربية القديمة، سنرصد في هذا الموضوع المقتضب مواقف وتصورات بعض نقاد الشعر العربي القدماء المشهورين من هذه المقدمات الشعرية، أو ما يسميه البعض "الافتتاحات".
المقدمة الشعرية عند ابن الأثير من خلال كتابه "المثل السائر":
لقد أجاد الشعراء القدماء في مقدمات قصائدهم الشعرية، وأبدعوا إبداعًا لا تغفله عين ناقدة أو أذن مصغية، وشدوا انتباه المتلقي والسامع وأسروا قلبه وذوقه، وذلك بما ذكروه في مطالع أشعارهم ومقدمات مقطوعاتهم من معاني الشوق والحنين، والبكاء على فراق الأحبة والأصحاب وغير ذلك، وقد كانت عناية هؤلاء الشعراء بهذه الافتتاحات والابتداءات بالغة وكبيرة؛ وذلك إدراكًا منهم لأثرها العميق ووقعها الهائل على النفوس والعقول، وفي هذا الباب يقول ابن الأثير صاحب كتاب "المثل السائر":
"وإنما خُصت الابتداءات بالاختيار؛ لأنها أول ما يطرق السمع من الكلام، فإذا كان الابتداء لائقًا بالمعنى الوارد بعده، توفرت الدواعي لسماعه"[2].
ومما لا شك فيه أن ابن الأثير قد قصد بلفظ "الابتداءات" في قوله هذا: المطالع ومقدمات القصائد بشكل عام، التي يرى جازمًا أن أصحابها إذا أحسنوا فيها اختيار الألفاظ والعبارات والمعاني اللائقة، تمكنوا بيسر من لفت انتباه السامع وشده، وصنعوا لديه التشوق والرغبة في سماع المزيد من الكلام، والتلهف لاستقبال الآتي من الأفكار الشعرية.
المقدمة الشعرية عند أبي هلال العسكري من خلال كتاب "الصناعتين":
لا يخفى على أحد من الباحثين المتخصصين أن أبا هلال العسكري صاحب كتاب "الصناعتين"، يعد من أبرز النقاد القدماء الذين أسسوا لأصول الكتابة والتأليف، ومن أحد أهم واضعي مقومات القول الشعري والنثري السليم، وقد ذكر في معرض نقده للموروث الأدبي العربي القديم من الشعر والنثر، أن الابتداءات والمقدمات تحظى بأهمية كبيرة؛ لذلك يحسن تجويدها والاهتمام بها، وقد جاء في كتابه قوله: "قال بعض الكتَّاب: أحسنوا معاشر الكتَّاب الابتداءات؛ فإنهن دلائل البيان"[3].
ويقول أيضًا: "والابتداء أول ما يقع في السمع من كلامك، والمقطع آخر ما يبقى في النفس من قولك، فينبغي أن يكونا جميعًا مونقين"[4]؛ أي: ينبغي أن يبذل المبدع الكاتب سواء أكان شاعرًا أم ناثرًا كاملَ وسعه، وأن يفرغ كل جهده في تنميق مقدمته ومبتدأ كلامه؛ فهي المنطلق والافتتاح، وأول ما يُقذف في أذن المتلقي ويصل إلى سمعه وقلبه؛ لذلك تجب العناية بها وتقديمها في أجمل حلة وأحسن رونق.
المقدمة الشعرية عند حازم القرطاجني من خلال كتاب "منهاج البلغاء وسراج الأدباء":
لقد ركز النقاد القدماء ومنهم حازم القرطاجني على مطلع القصيدة كثيرًا، بل إنهم كانوا يعدونه أحسن شيء في نظم الشعر وقوله، وبإتقانه والإجادة في صناعته تتحقق شعرية الشاعر، ويصل إلى ما يصبو إليه من فنية وإبداعية وشهرة.
يقول حازم: "وتحسين الاستهلالات والمطالع من أحسن شيء في هذه الصناعة؛ إذ هي الطليعة الدالة على ما بعدها، المتنزلة من القصيدة منزلة الوجه والغرة، تزيد النفس بحسنها ابتهاجًا ونشاطًا لتلقي ما بعدها ..."[5]، بهذا لم يشذ حازم عن القاعدة ولم يخالف غيره من النقاد، الذين تكلموا في المقدمات والاستهلالات، وفي أهميتها كركن ركين ينبغي الاعتناء به والمحافظة عليه؛ حيث أكد على أهمية الإجادة فيها والإبداع في صوغ معانيها وأفكارها المشكلة لها؛ ذلك أن منزلتها من القصيدة هي منزلة الوجه والغرة، إذا حسنت زادت نفس السامع ابتهاجًا، وتولد لديه الشوق لسماع المزيد.
لقد شكل الربط بين غاية الشاعر من نظمه، والمقدمة التي يفتتح بها قوله قضيةً مركزية في الحكم على قيمة العمل الفنية وعلى إبداعيته؛ ذلك أن الانسجام الموضوعي بين الافتتاح ورسالة القصيدة التي يتوخى الشاعر إيصالها يظل أمرًا بالغ الأهمية والقيمة، وعلاقة بهذا ألفينا حازم القرطاجني يذكر في كتابه المنهاج قائلًا: "وملاك الأمر في جميع ذلك أن يكون المفتتح مناسبًا لمقصد المتكلم من جميع جهاته، فإذا كان مقصده الفخر كان الوجه أن يعتمد من الألفاظ والمعاني والأسلوب ما يكون فيه بهاء وتفخيمًا، وإذا كان المقصد النسيب كان الوجه أن يعتمد منها ما يكون فيه رقة وعذوبة من جميع ذلك، وكذلك سائر المقاصد ..."[6].
ويقول أيضًا: "ومما تحسن به المبادئ أن يصدر الكلام بما يكون فيه من تنبيه وإيقاظ لنفس السامع، أو أن يشرب ما يؤثر فيها انفعالًا، ويثير لها حالًا من تعجيب أو تهويل أو تشويق أو غير ذلك ..."[7].
------------------
[1] مقدمة القصيدة العربية في الشعر الجاهلي، ص: 114.
[2] المثل السائر، القسم الثالث، المبادئ والافتتاحات، ص: 98.
[3] كتاب الصناعتين، ص: 331.
[4] الصناعتين، ص: 335.
[5] منهاج البلغاء، ص: 309.
[6] منهاج البلغاء، ص: 310.
[7] منهاج البلغاء، ص: 310.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/literature_la...#ixzz63k7SttMg