الحمد لله الرب الكريم، العليم الحكيم، فتح لعباده أبواب القربات، ودلهم على سبل الطاعات، وأخبرهم بما يكون لهم ذخرًا بعد الممات، وأمرهم بفعل الخيرات، ﴿ وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج: 77]، أحمده حمدًا كثيرًا، وأشكره شكرًا مزيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، استخلف عباده في الأرض، ورفع بعضهم فوق بعض درجات؛ ليبلوهم فيما آتاهم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، كان أَحْسَنَ الناس، وأَجْوَدَ الناس، وأَشْجَعَ الناس، وما كان يمسك شيئًا من ماله، ولا يرد أحدًا سأله، ولا يحابي ولده وأهله، أنفق الأودية من النَّعَم، ومات ودرعه مرهونة في شيء من شعير، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله، اعلموا أن خير الأعمال أدومها وإن قل، وليست النفقة المقطوعة - مع ما فيها من خير - كالدائمة؛ فإن أثر المقطوعة لا يبقى، وكثير من الناس سخية يده بها؛ والله تعالى يقول: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ [يس: 12]، فما أحسن أن يكون للمؤمن أثر يبقى له بعد موته حتى يكتب له!
أيها الإخوة، سأتحدث اليوم عن موضوع مهم جدًّا لم يُطرح من قبل إلا قليلًا مع أهميته البالغة، فقد يراه بعض الناس ليس مهمًّا، ولكنه في الحقيقة من أهم الكنوز التي ينبغي أن نحرص عليها ونعتني بأمرها غاية الاعتناء، وهو حق لله وهبه بعض الأجداد والآباء وضيعه الأبناء، فرأيتُ من واجبي ومسؤوليتي أن أنبه عليه، ألا وهو: الوقف، وما أدراك ما الوقف؟ الوقف كنز من أثمن الكنوز لوارثه في الآخرة، يكون منفعة ينتفع بها مستحقها في الدنيا، وثوابها لمُوقِفها في الآخرة، فما هو الوقف يا عباد الله؟
الوقف هو: حبس الأصل وتسبيل المنفعة.
مثال: رجل أوقف أرضًا أو عمارة أو مدرسة أو غيرها على جهة معينة في سبيل الله، فهذه الأرض أو العمارة أو غيرها أصبحت وقفًا محبوسة الأصل لله، فأصبحت لا تُباع ولا توهب ولا تورث، وتسبيل المنفعة وهي: ما يستفاد من هذه الأرض أو البنيان من ثمار أو مال أو غير ذلك، فهذه المنفعة تكون سبيل لله؛ يعني: صدقة جارية لمن هي له، وهذا أجره عظيم لا يعلمه إلا الله؛ فهي صدقة لا تنقطع بموت صاحبها، واسمعوا هذه القصة التي يتضح بها المقال:
لما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة، بحث عن أرض يشتريها ليبني عليها مسجده فوجد أرضًا لبني النجار، فماذا فعل معهم؟ قال أنس رضي الله عنه: ((قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأمر ببناء المسجد، فقال: يا بني النجار ثامنوني - يعني: بكم ثمن الأرض؟ - فقالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله))؛ رواه الشيخان، فأوقف بنو النجار أرضهم على مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبُني المسجد وتم بحمد الله، فبالله عليكم كم لهم من الأجور المستمرة على أرضهم منذ بُني المسجد النبوي إلى يومنا هذا، بل إلى آخر الزمان؟! كم صلى فيه المسلمون من صلاة الصلاة الواحدة بألف صلاة؟ وكم اعتكف فيه المعتكفون؟ وكم زاروا قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وسلموا عليه؟ وكم قرؤوا فيه من القرآن؟ وكم تعلموا فيه العلم؟ وكم تخرج فيه من علماء ومن حملة للعلم والقرآن؟! أجيال خلف أجيال خلال أربعة عشر قرنًا وأكثر، ولا يزال كذلك إلى ما يشاء الله تعالى، لا يحصي أجورهم على أرضهم تلك إلا الله تعالى، كمٌّ من الحسنات العظيمة تُصب كل يوم في ميزان بني النجار، مات بنو النجار وذهبت أجسامهم، ولكن أرضهم ما زالت حية باقية عليها مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبها قبره الشريف وقبر صاحبيه، والحسنات تصب في موازينهم كل يوم بالملايين، وربما أكثر بعدد لا يحصيه إلا الله، كل هذا ببركة الوقف.
أدركتم يا عباد الله الآن معنى الوقف وفائدة الوقف، بليت الأجسام والحسنات ما زالت تجري عليهم، هذا هو الخير الحقيقي الذي عرف قيمته أهل البصيرة فوضعوا أموالهم فيه.
أحبتي في الله، هذا هو فقه الصدقة، فمن أراد أن يستمر عمله بعد مماته، فعليه بالوقف أو يساهم في الأوقاف، سواء كان الوقف أرضًا أو حفر بئر، أو بناء أوقاف لجمعيات البر والتحفيظ، أو مكاتب الدعوة، أو بناء المساجد، فكم من الأموال التي تضيع في سفرياتنا وفي طعامنا ولهونا ولعبنا، ولا نحرص على إنفاق وقف ينفعنا عند الله بعد الممات.
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتخيرون أَنْفَسَ أموالهم وأغلاها فينخلعون منها لله تعالى يرجون عوضها في الآخرة؛ كما روى أنس رضي الله عنه قال: ((كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالًا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بَيْرُحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، فحركت هذه الآية الشوق في قلب أبي طلحة، فقام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه))؛ متفق عليه.
الله أكبر، أبو طلحة يتعب ويكد على مزرعة طوال حياته بها مئات النخل وأعذب المياه، فيتخلى عنها في لحظة بسبب سماع آية، ويبذلها لأقاربه صدقة جارية؛ لينال أعظم البر عند الله، والبستان في المدينة ليس كالبستان في غيرها، وهو في ذلك الوقت غير هذا الوقت حيث معيشة الناس على بساتينهم، فرضي الله تعالى عن أبي طلحة، تدعوه الآية لينفق المحبوب من ماله فيوقف أحب المحبوب إليه.
ومن هذه القصة نستفيد أن من أراد أن يوقف وقفًا في منفعة، فأولى الناس به هم أقرباؤه؛ لأن فيه صدقة وصلة وهذا من فقه الوقف والصدقة، بعض الناس يوقف وقفًا على فقراء بعيدون عنه، وأقرباؤه أولى بالمعروف فالأقربون أولى بالمعروف.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
عباد الله، لقد سمعنا كيف كان الصحابة حريصين على إنفاق بعض أموالهم وقفًا في سبيل الله، وكذلك كان أجدادنا وآباؤنا مع فقرهم إلا إنهم أوقفوا كثيرًا من مزارعهم في سبيل الله، ولكن أين هي الآن؟ ضاعت معظم الأوقاف بضياع حدودها، ومن هذا المنبر أدعو نفسي وإياكم أيها الأحبة أن كل من لديه أوقاف خاصة في الأراضي الزراعية فليحفظ حدودها؛ لأنه كانت هذه الأراضي في زمن آبائنا محفوظة ومعلومة حدودها، والآن اندثرت حدود معظم الأوقاف وضاعت معالمها على الأبناء، فكل من يعلم حدود أي وقف، فعليه أن يبينه لناظره، وأن توثق بوثائق خطية وبشهود عليها إن لم تكن موثقة من قبل؛ لتُحفظ من الاعتداء عليها؛ لأن هذه حقوق لله وأجرها لواقفها عظيم، فمن استطاع أن يحييها فجزاه الله خيرًا، ومن عجز عنها فعليه أن يسلمها للأوقاف وتتحمل هي مسؤوليتها.
أنفقوا يُنفَق عليكم، وأبقوا من أموالكم أثرًا يستمر لكم بعد موتكم، وعمِّروا آخرتكم بأيديكم، وأوقفوا لأنفسكم بأيديكم من أموالكم، ولا تنتظروا ورثتكم يتصدقون عنكم؛ فقد ينسونكم من أول يوم تدفنون فيه في قبوركم، ويقتسمون أموالكم وربما يتشاجرون ويتقاطعون بسببها، ولا يتصدقون عنكم ولو بريال واحد؛ فقدموا لأنفسكم ما تجدونه أمامكم ﴿ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المزمل: 20][1].
فاتقوا الله عباد الله.
--------------------------
[1] لقد تم الاستفادة من بعض المواضيع المنشورة.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/136886/#ixzz63YptHpES