بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه، أما بعد:
فكثير من المسلمين - إلا من رحم ربي - ممن يتبعون الجنائز تَرْجُح عندهم نية اتباعهم للجنازة مكافأة، أو مجاملة، أو مخافة أن يذموا من أهل الميت على تركهم اتباع الجنازة، وكل هذا مما يكون سببًا في عدم حصول الأجر المترتب على اتباع الجنازة إيمانًا واحتسابًا.
ولا أعني: عدم جواز الجمع بين النوايا، كأن يتبع الجنازة إيمانًا واحتسابًا ويجمع إلى ذلك نية مواساة أهل الميت وتعزيتهم، فإن هذا الجمع لا بأس به.
ولكن المقصود؛ أن لا يقدم نية المواساة على نية الإيمان والاحتساب، وضابط ذلك أن لا يستوي عنده ترك أصل العمل - وهو الاتباع - وترك تعزية أهل الميت ومواساتهم عند الدفن إذا تعذر الجمع بينهما لأي سبب، وأن لا يترك - إذا رجح عنده عدم حصول الأمرين جميعًا - أصلَ العمل لإمكان حصول التعزية والمواساة - المراد حصولها منه عند الدفن - في أي وقت آخر.
كالذي يتخلف عن الجنازة لتمكنه من تعزية أهل الميت بعد الفراغ من دفنها في أي وقت بعد، فلما ضاق عليه وقته في جنازةٍ ما عن تعزية أهل الميت بعد الفراغ من دفنها في أي وقت بعد - للحوقه بسفر أو ما شابهه في الوقت الذي كان يأتي فيه أهل الميت للتعزية بعد - فاتَّبع الجنازة مغلِّبًا نية التعزية على نية اتباعها، ولو تمكن من تعزيتهم في غير وقت الجنازة لكانت تعزيته لهم على ما جرت به عادته من التعزية بعد الفراغ من الدفن في أي وقتٍ كان، فهذا ليس له أجر اتباعِ الجنازة على هذه النية - وإن أُجِر على التعزية والمواساة - إلا أن يصحح نيته بعدم ترجيح نية عمل آخر على نية اتباعه الجنازة إيمانًا بأمر الله سبحانه، واحتسابًا للأجر الذي وعد الله عز وجل به على هذا الاتباع.
وذلك بأنه لو نوى الجمع بين النيتين فتعذر عليه ما كان ينويه من المواساة والتعزية لأهل الميت لعدم تمكنه من ذلك قبل دفنها - لأي سبب كان - فلا يحسبن أن تركه لتعزية أهل الميت بعد الدفن على ما أحدثه الناس من وقوفهم على المقابر لتلقي العزاء من المشيعين مما ينقص أجر الاتباع، أو يوجب ذمًا.
والتعزية والمواساة عند دفن الجنازة لا يُخرَج إليها أصلاً وقصدًا، إنما يُخرَج إليها فرعًا وتبعًا، فإن لم يحصل لك في خروجك من بيتك إلا اتباع الجنازة فحسب؛ فبها ونعمت، وهذا الذي من أجله خرجت يا عبد الله من بيتك قاصدًا إياه، وهو الأجر والثواب على الانتظار والصلاة والاتباع والدعاء، وإن وُفِّقْتَ لأداء التعزية والمواساة لأهل الميت قبل أو بعد الدفن بغير مخالفة شرعية فقد حصل لك الخيران، والحمد لله رب العالمين.
قال عمر بن علي الشافعي المعروف بابن الملقِن (ت ٨٠٤ هـ) - رحمه الله تعالى - في التوضيح لشرح الجامع الصحيح (١٥٢/٣) وفي الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (٥٣٨:٥٣٧/٤):
الحديث دالٌّ على أن الثواب المذكور إنما يحصل لمن تبعها إيمانًا واحتسابًا، فإنّ حضورها على ثلاثة أقسام: احتساب، ومكافاة، ومخافة.
والأول: هو الذي يجازى عليه الأجر ويحط الوزر، كما هو ظاهر هذا الحديث.
والثاني: لا يبعد ذَلِكَ في حقه.
والثالث: الله أعلم بما فيه.
ونقله عنه محمودُ بن أحمد بدر الدين العيني (ت ٨٥٥ هـ) - رحمه الله تعالى - في عمدة القاري (٢٧٣/١) مقِرًّا به.
قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت ٨٥٢ هـ) - رحمه الله تعالى - في فتح الباري (١٩٧/٣):
وَأَمَّا التَّقْيِيدُ بِالْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ فَلَا بُدَّ مِنْهُ، لِأَنَّ تَرَتُّبَ الثَّوَابِ عَلَى الْعَمَلِ يَسْتَدْعِي سَبْقَ النِّيَّةِ فِيهِ، فَيَخْرُجُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُكَافَأَةِ الْمُجَرَّدَةِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْمُحَابَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قال محمد بن عبد اللطيف الرومي الحنفي المعروف بابن الملَك (ت ٨٥٤ هـ) - رحمه الله تعالى - في شرح المصابيح (٣٥٠/٢):
"وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من اتبع جنازة مسلم إيمانًا»" بالله ورسوله، لا للرياء ولتطييب قلب أحد.
"واحتساباً"؛ أي: طلبًا للثواب من الله.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله تعالى - في شرحه لرياض الصالحين (٥٣٣/٤):
فإذا شهدت الجنازة حتى يصلى عليها فلك قيراط، وإن استمررت معها حتى تدفن فلك قيراطان، لكن في رواية البخاري اشترط أن يكون ذلك إيمانًا واحتسابًا، يعني: إيمانًا بالله وتصديقًا بوعده واحتسابًا لثوابه، وليس قصدك المجاملة لأهل الميت، لأن المجاملة لأهل الميت ثواب عاجل في الدنيا فقط، وقد يؤجر الإنسان على مجاملة إخوانه، لكن الأجر الذي هو قيراطان فهو لمن تبعها إيمانًا واحتسابًا، وإيمانًا بالله وثقةً.
نسأل الله عز وجل الإخلاص في العمل كله.
والحمد لله رب العالمين.