عودة شخص إلى ديانة غير الإسلام





السؤال

الملخص:
رجل رأى مقطعًا لشخص كان قد ابتعد عن دينه النصراني، ولكنه عاد إلى النصرانية بعد رؤية بعض الأناجيل، ويسأل: لماذا قد يحصل مثل هذا الأمر لمن هو على ضلالة؟
التفاصيل:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كنتُ أشاهد مقطع فيديو لشخص وقع في الكبائر، وأصبحت حياته ضلالًا بسبب الذنوب، ابتعد تمامًا عن دينه النصراني لأنه ضد كل المعاصي التي يرتكبها – حسب قوله -، وقال إنه في يوم من الأيام ذهب إلى مقهى، فوجد على الطاولة المجاورة له مجموعة من الأناجيل، وقتها تعرَّف على قس، وبدأ يذهب إلى الكنيسة، وعندها أدرك مدى ذنبه، وبالطبع أنا أختلف مع معتقداتهم، لكن هذا ما حدث في الفيديو، وعندها بدأت حياته تتغير تمامًا، فقد ترك السلوك الشاذ، وبدأ باتباع تعاليم بدينه، وهذا بالطبع لا يُشعرني بالواقعية؛ ذلك أن هذا الرجل وقع في الإثم، لكنه مقتنع بأنه أخيرًا وجد بَرَّ السلام، والطريق إلى الجنة.


أنا مشتت جدًّا، فالعادة أني لا أُحب متابعة هذه الفيديوهات، لكنها تمر عليَّ، وسؤالي هو هل يُعَدُّ ما حدث لهذا الرجل علامة أو رسالة؟ فإذا كان في ضلالة فلماذا يضل وهو يعتقد أنه أخيرًا وجد السلام النفسي وترك المعاصي؟ لماذا تحدث هذه الأمور لشخص وهو على ضلالة؟


الجواب

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد:
فأولًا: مرحبًا بك أيها الأخ الفاضل، ونسأل الله لنا ولك الهداية والتوفيق، والتيسير والسداد.

ثانيًا: ما يهمني في الأمر أنت أيها الأخ الفاضل؛ لذا سوف أبدأ بما أنهيتَ به رسالتك، وهو قولك: (أنا مشتت جدًّا، فالعادة لا أحب متابعة هذه الفيديوهات)، وهذا هو الداء والدواء، ففضولك دون سلاح قوي أوقعك في هذا التشتت؛ فالواجب عليك أن تكف عن التعرض للفتن بالبحث عن أمور لا تعلم صحتها من بطلانها، وأن تتعلم عقيدتك جيدًا قبل أن تخوض غمار معرفة عقائد الآخرين الباطلة؛ كاليهود والنصارى.

ثالثًا: أما عن شُبهتك التي تسللتْ إلى قلبك من خلال مشاهدتك لهذا الفيديو، وهي مسألة إضلال الكافر وهداية المسلم، فهي من المسائل التي تعرَّض لها العلماء في طوايا كلامهم عن الإيمان بالقضاء والقدر، وهي سر من أسرار الله سبحانه وتعالى، فالله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، فالضالُّ المخذول المحروم من حرَمه الله التوفيق، والمهتدي الموفَّق مَن وفَّقه الله؛ قال الله تعالى: ﴿ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23]، وقال جل وعلا: ﴿ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الأنعام: 39]، وقال سبحانه: ﴿ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 178]، والمؤمن بالله واليوم الآخر لا يسأل: لِمَ؟ وكيف؟ فالله: ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23]؛ فالملك ملكه، والأمر أمره، والحكم حكمه، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره سبحانه وتعالى.

وهل في هذا ظلم للكافر الذي لم يوفقه الله للإسلام؟
فالجواب: قطعًا لا، فربك ليس بظلام للعبيد، وإنما الهداية من الله والأسباب من العباد، فالله خلق الخلق وأودع فيهم أسباب الهداية وأسباب التوفيق، فقد وهبه الله عز وجل عقلًا منيرًا، وإرادة حرة، يختار بها الخير من الشر والهدى من الضلال، فإذا بذل الأسباب الحقيقية، وحرص على أن يرزقه الله الهداية التامة، جاءه التوفيق من الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾ [الأنعام: 53]
فيهدي من استحق الهداية بعلمه وفضله، ويضل من يستحق الضلال بعلمه وعدله، وقد ردَّ الشيخ ابن عثيمين هذا الإشكال بأحسن بيان فقال: "إذا كان الأمر راجعًا إلى مشيئة الله تبارك وتعالى، وأن الأمر كله بيده،
فما طريق الإنسان إذًا؟
وما حيلة الإنسان إذا كان الله تعالى قد قَدَّر عليه أن يضل ولا يهتدي؟ فنقول: الجواب عن ذلك أن الله تبارك وتعالى إنما يهدي من كان أهلًا للهداية، ويضل من كان أهلًا للضلالة؛ ويقول الله تبارك وتعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [الصف: 5]
ويقول تعالى: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ﴾ [المائدة: 13]
فبيَّن الله تبارك وتعالى أن أسباب إضلاله لمن ضل، إنما هو بسبب من العبد نفسه، والعبد لا يدري ما قَدَّر الله تعالى له؛ لأنه لا يعلم بالقدر إلا بعد وقوع المقدور، فهو لا يدري هل قدر الله له أن يكون ضالًّا أم أن يكون مهتديًا، فما باله يسلك طريق الضلال، ثم يحتج بأن الله تعالى قد أراد له ذلك؟ أفلا يجدر به أن يسلك طريق الهداية، ثم يقول: إن الله تعالى قد هداني للصراط المستقيم؟ أيجدر به أن يكون جبريًّا عند الضلالة، وقدريًّا عند الطاعة؟ كلَّا، لا يليق بالإنسان أن يكون جبريًّا عند الضلالة والمعصية، فإذا ضل أو عصى الله قال: هذا أمر قد كُتب عليَّ وقُدِّر عليَّ، ولا يمكنني أن أخرج عما قضى الله تعالى، فالإنسان في الحقيقة له قدرة وله اختيار، وليس باب الهداية بأخفى من باب الرزق، والإنسان كما هو معلوم لدى الجميع قد قُدِّر له ما قُدِّر من الرزق، ومع ذلك هو يسعى في أسباب الرزق في بلده وخارج بلده يمينًا وشمالًا، لا يجلس في بيته ويقول: إن قُدِّر لي رزق فإنه يأتيني، بل يسعى في أسباب الزرق مع أن الرزق نفسه مقرون بالعمل؛ كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الرزق أيضًا مكتوب، كما أن العمل من صالح أو سيئ مكتوب، فما بالك تذهب يمينًا وشمالًا وتجوب الأرض والفيافي - الصحراء - طلبًا لرزق الدنيا، ولا تعمل عملًا صالحًا لطلب رزق الآخرة، والفوز بدار النعيم؟


إن البابين واحد، ليس بينهما فرق، فكما أنك تسعى لرزقك وتسعى لحياتك وامتداد أجلك، فإذا مرضتَ بمرض ذهبتَ إلى أقطار الدنيا تريد الطبيب الماهر الذي يداوي مرضك، ومع ذلك فإن لك ما قُدِّر من الأجل لا يزيد ولا ينقص، ولست تعتمد على هذا وتقول: أبقى في بيتي مريضًا طريحًا، وإن قدِّر الله لي أن يمتد الأجل امتد، بل نجدك تسعى بكل ما تستطيع من قوة وبحث؛ لتبحث عن الطبيب الذي ترى أنه أقرب الناس أن يُقَدِّر الله الشفاء على يديه، فلماذا لا يكون عملك في طريق الآخرة وفي العمل الصالح كطريقك فيما تعمل للدنيا؟
وقد سبق أن قلنا: إن القضاء سر مكتوم لا يمكن أن تعلم عنه، فأنت الآن بين طريقين: طريق يؤدي بك إلى السلامة وإلى الفوز والسعادة والكرامة، وطريق يؤدي بك إلى الهلاك والندامة والمهانة، وأنت الآن واقف بينهما ومخير، ليس أمامك من يمنعك من سلوك طريق اليمين، ولا من سلوك طريق الشمال، إذا شئت ذهبتَ إلى هذا، وإذا شئتَ ذهبت إلى هذا، بهذا تبيَّن لنا أن الإنسان يسير في عمله الاختياري سيرًا اختياريًّا، وأنه كما يسير لعمل دنياه سيرًا اختياريًّا، فكذلك أيضًا هو في سيره إلى الآخرة يسير سيرًا اختياريًّا، بل إن طرق الآخرة أبْيَن بكثير من طرق الدنيا؛ لأن مبيِّنُ طرق الآخرة هو الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن تكون طرق الآخرة أكثر بيانًا وأجلى وضوحًا من طرق الدنيا، ومع ذلك فإن الإنسان يسير في طرق الدنيا التي ليس ضامنًا لنتائجها، ولكنه يدع طرق الآخرة التي نتائجها مضمونة معلومة؛ لأنها ثابتة بوعد الله، والله تبارك وتعالى لا يخلف الميعاد، بعد هذا نقول: إن أهل السنة والجماعة قرروا هذا، وجعلوا عقيدتهم ومذهبهم أن الإنسان يفعل باختياره، وأنه يقول كما يريد، لكنَّ إرادته واختياره تابعان لإرادة الله تبارك وتعالى ومشيئته، ثم يؤمن أهل السنة والجماعة بأن مشيئة الله تعالى تابعة لحكمته، وأنه سبحانه وتعالى ليس مشيئته مطلقة مجردة، ولكنها مشيئة تابعة لحكمته؛ لأن من أسماء الله تعالى الحكيم، والحكيم هو الحاكم المحكم الذي يحكم الأشياء كونًا وشرعًا، ويحكمها عملًا وصنعًا، والله تعالى بحكمته يقَدِّر الهداية لمن أرادها، لمن يعلم سبحانه وتعالى أنه يريد الحق، وأن قلبه على الاستقامة، ويقَدِّر الضلالة لمن لم يكن كذلك، لمن إذا عرض عليه الإسلام يضيق صدره كأنما يصَّعَّد في السماء، فإن حكمة الله تبارك وتعالى تأبى أن يكون هذا من المهتدين، إلا أن يجدد الله له عزمًا، ويقلب إرادته إلى إرادة أخرى، والله تعالى على كل شيء قدير، ولكن حكمة الله تأبى إلا أن تكون الأسباب مربوطة بها مسبباتها"؛ [انتهى باختصار من: رسالة في القضاء والقدر، (ص: 14 - 21)، للشيخ ابن عثيمين].

أما كون صاحب الفيديو بحث ووجد الطريق غير الصحيحة، فذلك لوجود مانع عنده؛ إما لأنه لم يسلك الأسباب الحقيقية في البحث عن الحقيقة، وقد سمع بالإسلام، والسبل الآن متوفرة ومتاحة، ولا سيما مع انتشار وسائل التواصل، وإما لأنه لم يبحث من الأصل عن الإسلام، وإنما بحث عن طريق يسعده في الدنيا فقط، وليس للبحث عن طريق الحق وسعادة الآخرة، ولا شك أن هذا تفريط منه؛ قال ابن تيمية: "كثير من خطأ بني آدم من تفريطهم في طلب الحق لا من العجز التام"؛ [جامع الرسائل، (1/ 241)]
وقال في موضع آخر: "إذا أُلهم العبد أن يسأل الله الهداية ويستعينه على طاعته، أعانه وهداه، وكان ذلك سبب سعادته في الدنيا والآخرة، وإذا خُذل العبد فلم يعبد الله، ولم يستعن به، ولم يتوكل عليه، وُكل إلى حوله وقوته، فيوليه الشيطان، وصُدَّ عن السبيل، وشقي في الدنيا والآخرة، وكل ما يكون في الوجود هو بقضاء الله وقدره، لا يخرج أحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خُطَّ له في اللوح المحفوظ، وليس لأحد على الله حجة، بل: ﴿ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الأنعام: 149]، كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل"؛ [مجموع الفتاوى، (8/ 236 - 237)]
فلو أراد الله بهذا الرجل خيرًا، لوفقه للإسلام.


والنصيحة لك أيها الأخ الفاضل: أن تتعلم العقيدة الصحيحة المبنية على الكتاب والسنة بفَهم سلف الأمة من الصحابة، والتابعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، فالفتنة فتنتان: فتنة شهوات، وعلاجها: تقوى الله، وفتنة شبهات، وعلاجها: العلم.

فاللهم يا مقلِّب القلوب، ثبت قلوبنا على دينك، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
رابط الموضوع:
https://www.alukah.net/fatawa_counsels/0/136727/#ixzz62cRRyGPR