بسم الله الرحمن الرحيم .
دراسات شرعية .أثر السياق في فهم النص (118).
حجاب المرأة المسلمة (28).
الدكتور متولى البراجيلى

مقالة الدكتور متولى البراجيلى بمجلة التوحيد عن شهر ربيع اول 1441ھ الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير المرسلين ،وبعد : ما زال حديثنا متصلا حول حجاب المرأة المسلمة - الدليل والاستدلال - وقد انتهيت بفضل الله تعالى من أدلة القران الكريم ثم انتقلت الى أدلة السنة ووصلت إلى الدليل الثامن والعشرين : عن أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنهما : كنا نغطى وجوهنا من الرجال ، وكنا نمتشط قبل ذلك فى الإحرام . ( صحيح ابن خزيمة ح 2690 وقال الأعظمى : إسناده صحيح ، مستدرك الحاكم ح 1668 ، وقال صحيح على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبى ، والألبانى فى إرواء الغليل ٢١٢/٤) .
ولاشك أن الحديث يدل على مشروعية النقاب للمرأة ، ولكن الخلاف ليس فى مشروعيته ، فهذا لانزاع فيه ، إنما الخلاف فى حكمه الفقهى ، هل هو على الوجوب أم على الاستحباب .
فقد استدل بالأثر من قال بوجوب تغطية وجه المرأة ، وإنما النهى عن تغطيته بالنقاب المفصل على قدر الوجه ، فوجه المرأة فى الإحرام كجسد الرجل ، فإنه مأمور أن لايلبس ما خيط على قدر جسده ، لكنه مأمور ان يستر جسده ولا يظهره ، وكذلك وجه المرأة . يقول ابن القيم عن المرأة المحرمة : فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يشرع لها كشف الوجه فى الإحرام وغيره ، وإنما جاء النص بالنهى عن النقاب خاصة ، كما جاء بالنهى عن القفازين ، وجاء النهى عن لبس القميص والسراويل ، ومعلوم أن نهيه عن لبس هذه الأشياء لم يرد أنها تكون مكشوفة لاتستر البتة ، بل قد أجمع الناس على أن المحرمة تستر بدنها بقميصها ودرعها ، وأن الرجل يستر بدنه بالرداء ، وأسافله بالإزار مع أن مخرج النهى عن النقاب والقفازين والقميص والسراويل واحد ، وكيف يزاد على موجب النص ، ويفهم منه أنه شرع لها كشف وجهها بين الملأ جهارا ، فأى نص اقتضى هذا أو مفهوم أو عموم أو قياس أو مصلحة ، بل وجه المرأة كبدن الرجل يحرم ستره بالمفصل على قدره كالنقاب والبرقع ، بل ويدها يحرم سترها بالمفصل على قدر اليد كالقفاز ، وأما سترها بالكم وستر الوجه بالملاءة والخمار والثوب فلم ينه عنه البتة... ثم قال : وقول من قال من السلف إحرام المرأة فى وجهها إنما أراد به هذا المعنى ، أى لايلزمها اجتناب اللباس كما يلزم الرجل ، بل يلزمها اجتناب النقاب ، فيكون وجهها كبدن الرجل .(انظر بدائع الفوائد 3/142).
وقد قال التويجرى عن هذا الأثر وعن نظائره ، كالأثر الذى ورد عن فاطمة بنت المنذر : كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات ، ونحن مع أسماء بنت أبى بكر الصديق رضى الله عنها ( أخرجه مالك فى الموطأ ح ١٦ ، وقال الألبانى فى الإرواء صحيح ، وكذلك الأرناؤط فى المسند ٢٣/٤٠)قال :وهذه الآثار تدل على أن احتجاب النساء عن الرجال الأجانب فى حال الإحرام وغيره ، كان هو المعروف المعمول به عند نساء الصحابة فمن بعدهم ( الصارم المشهور ص ١٠٥).
ويقول الشيخ ابن عثيمين عن أحاديث ستر الوجه للمحرمة : دليل على وجوب ستر الوجه ، لأن المشروع فى الإحرام كشفه ، فلولا وجود مانع قوى من كشفه حينئذ لوجب بقاؤه مكشوفا حتى للركبان ، وبيان ذلك أن كشف الوجه فى الإحرام واجب على النساء عند الأكثر من أهل العلم ، والواجب لايعارضه إلا ما هو واجب ، فلولا وجوب الاحتجاب وتغطية الوجه عن الأجانب ماساغ ترك الواجب من كشفه حال الاحرام ( انظر ثلاث وسائل فى الحجاب ص 34-35 ) .
ومن قال بكشف الوجه لم ينازع فى الحديث ، فهو يدل عنده على مشروعية تغطية الوجه ، وهناك فارق بين المشروعية والوجوب . ويستدل بحديث عائشة رضى الله عنها : المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت إلا ثوبا مسه ورس أو زعفران ، ولا تتبرقع ، ولا تتلثم ، وتسدل الثوب على وجهها إن شاءت ( أخرجه البيهقى فى الكبرى ح ٩٠٥٠ ، قال الألبانى صحيح ، إرواء الغليل ٢١٢/٤ ، وكذلك صححه الأرناؤط فى المسند ٢٢/٤٠ ) .
قال الخطابى : قد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه نهى المحرمة عن النقاب ، فأما سدل الثوب على وجهها من رأسها ، فقد رخص فيه غير واحد من الفقهاء ، ومنعوها أن تلف الثوب أو الخمار على وجهها أو تشد النقاب أو تتلثم أو تتبرقع . ومن قال بأن للمرأة أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها عطاء ومالك وسفيان الثورى وأحمد بن حنبل وإسحاق وهو قول محمد بن الحسن ، وقد علق الشافعى القول فيه ( معالم السنن ١٧٩/٢ ) .
لكن قول عائشة رضى الله عنها : إن شاءت لايدل على الإلزام وهذا ما ذهب إليه الألبانى ، ونقل أقوال الأئمة الأربعة فى هذه المسألة، فقال : أولا : مذهب أبى حنيفة : قال الإمام محمد بن الحسن فى الموطأ ( ص ٢٠٥ بشرح التعليق الممجد -هندية ) ولا ينبغى للمرأة المحرمة أن تنتقب ، فإن أرادت أن تغطى وجهها فلتسدل الثوب سدلا من فوق خمارها ، وهو قول أبى حنيفة والعامة من فقهائنا. وقال أبو جعفر الطحاوى ( شرح المعانى ٣٩٢/٢-٣٩٣): أبيح للناس أن ينظروا إلى ما ليس بمحرم عليهم من النساء إلى وجوههن وأكفهن ، وحرم ذلك عليهم من أزواج النبى صلى الله عليه وسلم ، وهو قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد رحمه الله تعالى. ثانيا : مذهب مالك : روى عنه صاحبه عبدالرحمن بن القاسم المصرى فى المدونة ( ٢٢١/٢) نحو قول الإمام محمد فى المحرمة إذا أرادت أن تسدل على وجهها ، وزاد فى البيان فقال ؛ فإن كانت لاتريد سترا فلا تسدل . ونقله ابن عبد البر فى التمهيد ( ١١١/١٥) وارتضاه ....
ثالثا مذهب الشافعى : قال فى كتابه " الأم " (١٨٥/٢) : المحرمة لاتخمر وجهها إلا أن تريد أن تستر وجهها فتجافى ....
رابعا : مذهب أحمد : روى ابن صالح في مسائله ٣١٩/١ عنه قال : المحرمة لاتخمر وجهها ولا تنتقب ، والسدل ليس به بأس تسدل على وجهها .
قلت ( الألبانى ) فقوله : ليس به بأس ، يدل على جواز السدل ( الرد المفحم ٣٦/١).
وفى الموسوعة الفقهية : اتفق العلماء على أنه يحرم على المرأة فى الإحرام ستر وجهها ، لاخلاف بينهم فى ذلك ، والدليل عليه من النقل ما سبق فى الحديث : ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين . ..... وإذا أرادت أن تحتجب بستر وجهها عن الرجال ، جاز لها ذلك اتفاقا بين العلماء ، إلا إذا خشيت الفتنة أو ظنت ( أى الفتنة ) فإنه يكون واجبا ( انظر الموسوعة الكويتية ١٥٧/٢ ) .
الدليل التاسع والعشرين : عن عائشة رضى الله عنها فى حادثة الإفك ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين أزواجه .... وفيه : فبينما أنا جالسة غلبتنى عيناى فنمت ، وكان صفوان بن المعطل السلمى ثم الذكوانى من وراء الجيش ، فأصبح عند منزلى ، فرأى سواد إنسان نائم ، فأتانى ، فعرفنى حين رآنى ، وكان يرانى قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفنى ، فخمرت وجههى بجلبابى .. ( أخرجه البخارى ح ٢٦٦١، ٤١٤١، ٤٧٥٠ ، ومواطن أخرى ، ومسلم ح ٢٧٧٠ ، ومسند أحمد ح ٢٥٦٢٣ ، وغيرهم ) .( فرأى سواد إنسان: أى شخصه)
. الشاهد فى الحديث : فخمرت وجههى : أى غطيته بجلبابى . قال فى طرح التثريب : وفيه -أى الحديث - تغطية المرأة وجهها عن نظر الأجنبى سواء كان صالحا أو غيره ( طرح التثريب لزيد الدين العراقي ٥٣/٨ )
. يقول السندى : فى هذا الحديث شاهد قوى ، ودليل واضح على أن الوجه عورة وزينة ، ولذا خمرت الصديقة بنت الصديق وجهها ( انظر ثلاث رسائل فى الحجاب ص 96 ) . قلت : وهذا يعود بنا إلى مسألة سبق أن تكلمت عنها وهى هل النقاب فرض على كل النساء كما هو فرض على أمهات المؤمنين ؟
لا شك أن النقاب فرض على أمهات المؤمنين اتفاقا -لا خلاف فى ذلك . إنما الخلاف فى دخول غير أمهات المؤمنين من النساء فى فرضية النقاب عليهن ، ففريق ذهب إلى أن الأمر بالنقاب يشمل أمهات المؤمنين وغيرهن من النساء ، وفريق قصر الأمر على أمهات المؤمنين ، ويدخل غيرهن من النساء استحبابا وتقليدا لأمهات المؤمنين ( ارجع إلى كلامى عن آيات الحجاب فى الأعداد من ١ الى ٨ فى المجلة ) .
قلت : الحديث ليس قطعى الدلالة فى وجوب النقاب على غير أمهات المؤمنين ، لأنه خاص بأم المؤمنين عائشة رضى الله عنها . وإنما قد يصلح للاستدلال على فضل النقاب وعلى فضل التأسي بأمهات المؤمنين .
الدليل الثلاثين : عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى تفسير قول الله تعالى : ( فجاءته إحداهما تمشى على استحياء ) ( القصص : ٢٥ ) قال : ليست بسلفع من النساء خراجة ولاجة ، ولكن جاءت مستترة قد وضعت كم درعها على وجهها استحياء . ( السلفع من النساء : هى الجريئة على الرجال : قال ابن كثير بعد ذكر الأثر : هذا إسناد صحيح ٢٢٨/٦ ) وفى تفسير مجاهد قال :واضعة ثوبها على وجهها . ( انظر تفسير مجاهد ص ٥٢٦ ). وفى تفسير يحيى بن سلام : واضعة يديها على وجهها ( انظر تفسير يحيى بن سليمان ٥٨٧/٢ ) .وفى تفسير الطبرى : فجاءت موسى إحدى المرأتين اللتين سقى لهما ، تمشى على استحياء من موسى عليه السلام قد سترت وجهها بثوبها . ونقل عن عمر رضى الله عنه قال : مستترة بكم درعها أو بكم قميصها . ونقل عنه أيضا . واضعة يدها على وجهها مستترة . وذكر عن الحسن فى قوله تعالى : تمشى على استحياء " قال بعيدة من البذاء ، وعن السدى قال : أتته تمشى على استحياء منه ( انظر تفسير الطبرى ٥٥٩/١٩).
وفى تفسير الماتريدى :" تمشى على استحياء " مشى من لم يعتد الخروج أو : تمشى مشى من لم يخالط الناس ( انظر تفسير الماتريدى ١٦١/٨). وفى تفسير الجلالين : أى واضعة كم درعها على وجهها حياء منه ( تفسير الجلالين ص 511 ) .
ويقول السعدى عن الآية : وهذا يدل على كرم عضدها ، وخلقها الحسن ، فإن الحياء من الأخلاق الفاضلة ، وخصوصا فى النساء ( تفسير السعدى ص ٦١٤ ).
والأثر أورده التويجرى فى جملة أدلة وجوب النقاب .
قلت : يستدل بالآية على حياء المرأة وخجلها من التعامل مع الرجال ، على أنه فيما أوردت من أقوال المفسرين ، أنها لم تكن تضع شيئا خاصا مفصلا على قدر وجهها كالنقاب لستره . إنما سترته بثوبها أو بكمها أو بيديها . والله أعلم وللحديث بقية والحمد لله رب العالمين .