أي الرجال المهذّب ؟
فهد بن عبد الله الملا



ما مِن أحدٍ مِن الناس إلاَّ وقد اتَّخذ له صديقًا، وصاحَب رفيقًا، وبمضيِّ الزمن ومرور الأعوام يكثُر الصِّحاب، ويتبدَّل الأصدقاء، ويعتري هذه الصُّحْبة ما يعتري غيرَها مِن أمور الدنيا، فبينا تقوى حينًا تفترُ حينًا آخَر، وما أنْ تتوثَّق يومًا حتى تضعُف في آخَر؛ وما ذاك إلا لما يقَع بين الإخوان والأصحاب مِن قُربٍ وبُعد، ومودةٍ وجفاء، وما يكون بينهم مِن هفوات وزلاَّت، فتفتر الصُّحْبة، أو يسوء الظن، والعاقِل مَن حافظ على صديقِه بإقالةِ العثرة، والعفو عن الزلَّة، وقَّلة المعاتبة.
إِذَا كُنْتَ فِي كُلِّ الأُمُورِ مُعَاتِبًا *** صَدِيقَكَ لَمْ تَلْقَ الَّذِي لاَ تُعَاتِبُهْ
فَعِشْ وَاحِدًا أَوْ صِلْ أَخَاكَ فَإِنَّهُ *** مُقَارِفُ ذَنْبٍ مَرَّةً وَمُجَانِبُهْ
ويُوشك مَن وقَف عند كلِّ زلَّة، وعاتب على كلِّ هفوة أنْ يعيش بلا صاحِب ولا صديق.
وَكُنْتُ إِذَا الصَّدِيقُ نَبَا بِأَمْرِي *** وَأَشْرَقَنِي عَلَى حَنَقٍ بِرِيقِي
غَفَرْتُ ذُنُوبَهُ وَكَظَمْتُ غَيْظِي *** مَخَافَةَ أَنْ أَعِيشَ بِلاَ صَدِيقِ
ومَن للإنسان بمهذَّب لا عيبَ فيه؟! وقد قال الأول:
وَلَسْتَ بِمُسْتَبْقٍ أَخًا لاَ تَلُمُّهُ *** عَلَى شَعَثٍ أَيُّ الرِّجَالِ المُهَذَّبُ
وحسبك مِن أخيك أنْ تُعدَّ سقطاته، وبحسبك أن يكون لكَ مِن أخيك أكثره.
وقد قيل: كلُّ صارمٍ يَنْبو، وكلُّ جوادٍ يَكْبو.
وإنَّ نفسك التي هي أخصُّ النفوس بك، وأقربها إليك لا تُعطيك المقادَة في كلِّ ما تريد، فكيف بنفْس غيرك؟!
وَإِنْ كُنْتَ لَمْ تَصْحَبْ سِوَى ذِي كَمَالَةٍ *** فَأَيْنَ مِنَ الإِخْوَانِ مَنْ هُوَ كَامِلُ؟
وهل أنت مبرَّأٌ من العيوب، خالٍ مِن النقائص لتطلبَ كمالَ الآخرين؟!
وَمِنْ قِلَّةِ الْإِنْصَافِ أَنَّكَ تَبْتَغِي *** مُهَذَّبَ أَخْلاَقٍ وَلَسْتَ مُهَذَّبَا
فالصُّحبة لا تدوم إلا بالإغضاء عنِ الهفوات، والتجاوز عن الزلاَّت، والمعاتبة بالحُسْنى، واستحضار الفضائلِ والحسنات، قبلَ المحاسبة على النقائِص والهنَات.
والمروءة تستوجِب على المرء العفوَ والصفح، والتجاوزَ عمَّن أساء، ولا أحقَّ بذلك مِن الإخوان والأصحاب.
ومَن رام في الناس الكمال، فقد طلب المُحال، ومَن أفرط في اللَّوم والعتاب، لم يستبْقِ أحدًا من الإخوان والصِّحاب.
وَمَنْ ذَا الَّذِي تُرْضَى سَجَايَاهُ كُلُّهَا *** كَفَى الْمَرْءَ نُبْلاً أَنْ تُعَدَّ مَعَايِبُهْ