قال شيخ الاسلام بن تيمية رحمه الله -وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعَثَ رُسُلَهُ بِإِثْبَاتٍ مُفَصَّلٍ، وَنَفْيٍ مُجْمَلٍ فَأَثْبَتُوا لَهُ الصِّفَاتِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ، وَنَفَوْا عَنْهُ مَا لاَ يَصْلُحُ لَهُ مِنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ( فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) أَيْ: نَظِيرًا يَسْتَحِقُّ مِثله.

قال بن عثيمين رحمه الله

والجمْعُ بينَ النَّفيِ والإثباتِ في بابِ الصِّفاتِ هوَ حقيقةُ التَّوحيدِ فيهِ وذلكَ لأنَّ التَّوحيدَ مصدرُ وَحَّدَ يُوَحِّدُ. وَلاَ يُمْكِنُ صدْقُ حقيقتِهِ إلاّ بنفيٍ وإثباتٍ، لأنَّ الاقتصارَ على النَّفيِ المحْضِ تعطيلٌ محْضٌ. والاقتصارَ على الإثباتِ المحْضِ لا يَمنعُ المشاركةَ.
مثالُ ذلكَ: لوْ قلتَ: ما زيدٌ بشجاعٍ فقدْ نَفيتَ عنهُ صفةَ الشَّجاعةِ وعطَّلْتَهُ منْهَا.
ولوْ قلتَ: زيدٌ شجاعٌ فقدْ أَثبتَّ لهُ صِفةَ الشَّجاعةِ لكنَّ ذلكَ لاَ يَمنعُ أنْ يكونَ غيرُهُ شجاعاً أيضاً.
ولوْ قلتَ: لا شُجاعَ إلا زيدٌ فقدْ أثْبَتَّ لهُ صفةَ الشجاعةِ، ونَفيْتَ أنْ يُشاركَهُ غيرُهُ فيهَا فكنتَ موحِّداً لهُ في صفةِ الشَّجاعةِ.
إذنْ لاَ يُمكِنُ توحيدُ أحدٍ بشيءٍ إلا بالجمْعِ بينَ النَّفيِ والإثباتِ.
واعلمْ أنَّ الصِّفاتِ الثُّبوتيَّةَ الّتي وَصفَ اللهُ بها نفسَهُ كلَّها صفاتُ كمالٍ، والغالِبُ فيها التفصيلُ، لأنّهُ كلَّما كثُرَ الإِخبارُ عنْهَا وتَنوَّعتْ دلالتُها ظهَرَ منْ كمالِ الموصوفِ بهَا ما لمْ يكنْ معلوماً منْ قَبْلُ، ولهذَا كانت الصِّفاتُ الثُّبوتيَّةُ الّتي أَخبرَ اللهُ بهَا عنْ نفسِهِ أكثرُ منَ الصِّفاتِ المنفيَّةِ الّتي نفاها اللهُ عنْ نفسِهِ.
وأما الصِّفاتُ المنفيَّةُ الّتي نَفاها اللهُ عنْ نفسِهِ فكلُّها صفاتُ نقصٍ ولاَ تليقُ بِهِ كالعجْزِ، والتَّعَبِ، والظُّلْمِ، ومماثلةِ المخلوقينَ، والغالبُ فيهَا الإِجمالُ لأنَّ ذلكَ أبلغُ في تعظيمِ الموصوفِ وأكملُ في التَّنزيهِ فإنَّ تفصيلَها لغيرِ سببٍ يَقتضيهِ فيهِ سُخريةٌ وتَنقُّصٌ للموصوفِ، ألا ترى أنكَ لوْ مدَحْتَ ملِكاً فقلتَ لهُ: أنتَ كريمٌ، شجاعٌ محنَّكٌ، قويُّ الحكْمِ، قاهرٌ لأعدائِكَ إلى غيرِ ذلكَ منْ صفاتِ المدْحِ لكانَ هذَا منْ أعظمِ الثَّناءِ عليْهِ، وكانَ منْ زيادةِ مدحِهِ وإظهارِ محاسنِهِ ما يَجعلُهُ محبوباً محتَرَماً لأنَّكَ فصَّلْتَ في الإِثباتِ.
ولوْ قلتَ: أنتَ ملِكٌ لا يُسامِيكَ أحدٌ من ملوكِ الدُّنيَا في عصْرِكَ لكانَ ذلكَ مدْحاً بالغاً لأنّكَ أجْمَلتَ في النَّفْيِ.
ولوْ قلتَ: أنتَ ملِكٌ غيرُ بخيلٍ، ولا جبانٍ، ولا فقيرٍ، ولا بقَّالٍ، ولا كنَّاسٍ ولا بَيْطارٍ، ولا حجَّامٍ، وما أشبَهَ ذلكَ منَ التَّفصيلِ في نفيِ العيوبِ التي لا تَليقُ بِهِ لعُدَّ ذلكَ استهزاءً بهِ وتَنَقُّصاً لحقِّهِ.
وقدْ يأتي الإِجمالُ في أسماءِ اللهِ تعالى وصفاتِهِ الثُّبوتيِّةِ كقولِهِ تعالى في الأسماءِ: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا). وقولِهِ في الصِّفاتِ: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى). أي الوصفُ الأعلى.

وقدْ يأتي التفصيلُ في الصِّفاتِ المنفيَّةِ لأسْبابٍ منْهَا:
1- نفيُ ما ادَّعاهُ في حقِّهِ الكاذبونَ المفْتَرونَ كقولِهِ تعالى: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ)
2- دفْعُ توهُّمِ نقْصٍ في كمالِهِ كقولِهِ تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ)

الأمثلةُ على التفصيلِ في الإِثباتِ كثيرةٌ جدًّا فمنْهَا:
قولُهُ تعالى في سورةِ الحشْرِ الآية: 22: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ). إلى آخِرِ السُّورةِ فقدْ تَضمَّنَتْ هذهِ الآياتُ أكثرَ منْ خمسةَ عشرَ اسماً، وكلُّ اسمٍ منْها قدْ تَضمَّنَ صفةً، أو صفتينِ، أو أكثَرَ.
ومنها قوْلُه تعالى في سورةِ الحجِّ: (لَيُدْخِلَنَّهُ مْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ). إلى قولِهِ: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ). فهذِهِ سبعُ آياتٍ متواليةٌ خُتِمَتْ كلُّ آيةٍ منْهَا باسميْنِ منْ أسماءِ اللهِ – عزَّ وجلَّ – وكلُّ اسمْ منْهَا متضَمِّنٌ لصفةٍ، أو صفتينِ، أو أكثَرَ.
وأمَّا أمثلةُ الإِجمالِ في النفيِ فمنْها قولُهُ تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). وقولُهُ تعالى: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا). وقولُهُ: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) ----------------------------------[
تقريب التدمرية - للشيخ محمد بن صالح العثيمين]