التراث والتاريخ واستشراف المستقبل في الأدب الإسلامي
أ. طاهر العتباني
من أهمِّ سمات الأدب الإسلامي أنَّه أدب ينتمي إلى ثقافة الأُمَّة، هذه الثقافة التي يرفدها الوعي التَّاريخي والوَعْي بالتُّراث الحضاري، الذي تَمتلكه الأمة، ومدى استشرافها لمستقبلها، وفي هذا المقال نركز على هاتين القضيتين، باعتبارهما من الإشكاليَّات التي يجب أن يوليها الأدب الإسلامي قَدْرًا كبيرًا من الاهتمام.
الوعي بالتاريخ والتراث
من القضايا التي أثارها الأدبُ المعاصر: قضيةُ استلهام التُّراث في الأعمال الأدبيَّة، وهي قضية نتعرض لها من حيثُ رُؤيةُ الأدب الإسلامي لمفهوم التُّراث ابتداءًا، ثم كيف نتعامل معه ونستلهمه في أعمالنا الأدبية؟
لقد نظر الحداثيُّون إلى أصول المنهج الإسلامي (القُرآن والسنة) نَظْرَتَهم إلى بقيَّة كتب التراث، والمنتج الثَّقافي والفكري، الذي أنتجته العُصُور الإسلامية السَّابقة؛ بل توسَّعوا في ذلك، فأدخلوا داخل كلمة التُّراث كلَّ ما أنتجته العُصُور السابقة للإسلام، التي انقطعت حضاريًّا عن العصر الذي نحيا فيه، بما أقامه الإسلامُ من حضارة، وبما جسَّده المنهج الإسلامي من واقع وتاريخ، ورغم التبايُن والاختلاف بين تُراث وآخر، وحضارة وأخرى.
ومما لا شَكَّ فيه - من وجهة النَّظر الإسلامية - أنَّ التأمُّل في سير الأمم السَّابقة، وتاريخها وأنماط مُجتمعاتها، والاستفادة بكُلِّ ذلك - أصل من أصول المنهج الإسلامي، ينطق به القُرآن، وتدعو إليه السنة؛ حيثُ ينصُّ القرآن على السير في الأَرْض؛ لننظر كيف بدأ الخلق.
وتروي لنا كتب السنة، وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وقائعَ وأحداثًا وقصصًا حول فترات تاريخيَّة سابقة للإسلام، كلُّ ذلك في إطار الهدف الإسلامي الكبير، الذي يأمر بالتدبُّر والتأمُّل والاتِّعاظ والتعرُّف على سنن الله في الأنفس والآفاق؛ ولكنَّ الذي وقع فيه المعاصرون من أصحاب تيار الحداثة أنَّهم نظروا لذلك كلِّه نظرة واحدة، وساوَوا بين أصول المنهج - القرآن والسنة - وما استنبط منهما من علوم، وفقه، وأبحاث في العقيدة والتشريع، والمعاملات والأخلاق والعبادات، على أيدي الثِّقات من العلماء والمفكرين المسلمين، وبين غيرها من كتب الشعر والأدب والتاريخ، وأخضعوا كل ذلك لرُؤية واحدة.
وهكذا أصبحت الأصول - القرآن، والسنة، والتراث العلمي والفقهي المأخوذ منهما - وقصيدة للمتنبي أو البحتري أو أبي تمام - توزن عند هؤلاء الحداثيِّين بميزان واحد، فكل ذلك - كما يرون ويدَّعون - تراثٌ يأخذ منه العصر، ويَدَعُ حسب أصول معينة اصطنعوها لذلك، وتشبّثوا بما يرونه منهجية علمية ونقدية.
ومن هنا وجدنا أمثال سلامة موسى، وطه حسين، ومحمد أحمد خلف الله، وزكي نجيب محمود، يُخضِعون نصوصَ القرآن والسنة للنقد التاريخي والبلاغي، دون تفريق بينهما، وبين غيرهما من النُّصوص، وكذلك النقد الفني أو الفلسفي، ودون الاعتماد على علوم القُرآن والسنة، التي تضبط التعامُل مع النُّصوص القرآنيَّة والنبويَّة.
فطه حسين في كتابه الشعر الجاهلي لا يعتمد النص القرآني أحَدَ أسس البحث التاريخي، بل يرى أن ذكر إبراهيم وإسماعيل في القرآن والتَّوراة لا يُعد دليلاً على وجودهما التاريخي، ويعتمد - في نفس الوقت - نتائجَ الدِّراسات الاستشراقية التي ذهبت إلى أنَّ الشعر الجاهلي أكثره منحول لشعرائه في العصور الإسلاميَّة.
ومحمد أحمد خلف الله يعامِلُ نصوصَ القرآن، كما يُعامِل أبيات الشعر، من حيث إخضاعُها للنَّقد الفني دون تعظيم لنُصُوص القرآن، الذي هو أصلٌ من أصولِ البحث في النصوص القرآنية والنبوية، ويُجرِّئ طلابه بالجامعة على الخَوْض في هذا المجال، وبنفس هذه الطريقة.
وزكي نجيب محمود يتعامَلُ مع نصوص القرآن والسنة مفسِّرًا لها في إطار رُؤى الفلسفة الغربيَّة، ودون اعتماد على أصول التفسير المعتمدة لدى علماء الإسلام، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نجد أكثر الباحثين في التاريخ والتراث لا يفرِّقون بين نواحي التُّراث المختلفة، فلا يرون فارقًا من نوع ما بين التُّراث الفقهي والتَّشريعي من جانب، وبين التراث الأدبي من جانب آخر.
فينظرون مثلاً إلى المدونات الفقهيَّة والتشريعيَّة، والتراث التشريعي، كفتاوى ابن تيمية وفتح الباري لابن حجر، كنظرتهم إلى دواوين الشِّعر العربي، فيتعاملون معها بنفس منهجيَّتهم التي تنظر لكل ذلك نظرة واحدة، قوامها أنَّ ذلك تراث يُؤخذ منه ويترك.
وإذا كان الحق أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلاَّ المعصوم - صلى الله عليه وسلم - إلا أنَّنا يجب أن ننظر إلى كل جانب من جوانب التُّراث، بحسب هذا الجانب، فلكل جانب منهجية في التعامُل معه تختلف عن الأخرى، التي نتعامل بها مع جانب آخر.
وإذا كان للفقيه المعاصر الذي ضبط الأصولَ من القرآن والسنة ومناهج البحث فيها - أن يجتهد في إطار عصره، فيأخذ من التُّراث الفقهي الإسلامي ويدع، في إطار الدَّوران مع النص القرآني، أو النبوي، وعدم خرق الإجماع الثابت، والتواؤم مع متطلبات العصر واحتياجاته - فليس للأديب المعاصر - شاعرًا كان أو مسرحيًّا أو روائيًّا - أنْ يتعامَلَ مع هذا التراث الفقهي والتشريعي مثلاً بناءً على مناهج البحث الأدبي والنَّقدي، التي ربَّما أتقنهما في مجال الأدب، فلكل جانب من جوانب هذا التراث رجاله وعلماؤه ومتخصصوه، ولكن ما حدث بالفعل أنَّنا وجدنا شُدَاةَ الأدب المعاصرين - شعراءَ وكتابًا ومسرحيين - يتهجمون على ذلك كله دون منهجية موضوعية، فظهرت الكُفريات في النصوص الشِّعرية والأدبيَّة، وعدم الضبط التعبيري، الذي يُؤدِّي إلى قولِ جُمَلٍ وتعبيرات تصلُ أحيانًا بالبعض بالخروج عن أبسط قواعد الدين، وأوضح مبادئ العقيدة.
من هنا؛ فإنَّ نظرية الأدب الإسلامي - وهي تنظر إلى التُّراث - لا بُدَّ أن تفرق بين ما هو أصل من أصول المنهج الإسلامي - كنصوص القرآن والسنة - وبين ما يُمكن تسميته تراثًا بالفعل، ثم إنَّ عليها أبعد من ذلك أنْ تَضَعَ فواصلَ وحدودًا بين جوانب التُّراث المختلفة، فهناك التُّراث الفقهي، والتراث العلمي، والتراث الشعري، والتراث النقدي، والتراث اللُّغوي، والتراث التَّاريخي، والنَّظرة إلى كل نوع من أنواع التُّراث هذه لا بُدَّ أن تختلف، وأن نتعامل مع كلٍّ منها بالمنهجية التي تناسبه، والتي تنبثق من طبيعته؛ حتَّى لا تتحطم الفواصل، وتضيع الحدود، ويحدث الاضطراب والفَوْضى، تلك التي تملأ كتابات المعاصرين اليومَ، والتي تنتشر في صحف ومجلات عالمنا العربي من مُحيطه إلى خليجه.
بل لقد وصل الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك، لقد اتَّسع مفهومُ التُّراث، فظهر مفهوم التراث بمعناه الإنساني، فأصبحَ كلُّ ما ينسب إلى أي حَضارة من أيِّ نوع وفي أيِّ بقعة من العالم تراثًا، يتساوى في ذلك التُّراث الإسلامي والفِرْعوني والآشوري واليُوناني والرُّوماني دون تمييز.
وإذا كان مفهوم التراث الإنساني صحيحًا، من حيثُ دلالتُه على كل ما أنتجه الفكر والعقل الإنساني على مدار التَّاريخ الإنساني بشكل عام، إلاَّ أنَ نظرتنا ونحن نتبنَّى قضية الأدب الإسلامي، وندعو إليها، ونبشِّر بها، يَجب أن تفرق بين التراث الإسلامي والعربي، وبين التراث الفرعوني والبابلي والآشوري، والإغريقي والروماني والغربي المسيحي، وأن يكون معيارنا في هذا التفريق هو أصولَ المنهج الإسلامي، فضلاً عن عدم ضياع الحدود والفواصل التي يجب النظر إليها بعين الاعتبار بين جوانب ذلك التراث؛ حيث لكلٍّ منها منهجيَّته المختلفة في التناول والطرح.
ومن ذلك فقد وجدنا من أعمال المعاصرين - شعراءَ وكتَّابًا - من الذين يُحاولون استلهام ذلك كله في أعمالهم الأدبية دون تفريق؛ بل إنَّ إغراقهم في غير تُراثنا الحقيقي - وهو التراث الإسلامي - أكثر، واستلهامهم له أوسع.
وإذا كان القرآن والسنة وتصوُّراتُهما ومفاهيمها يَجب أنْ تُشكِّل وَعْيَ الأديب المسلم، وفكره، وأسس رؤياه الفنية، فإنَّ عليه كذلك أن يمد بصره وبصيرته إلى تراثه الإسلامي والعربي، فيستلهمه في شعره ونثره، ويعتمدُ في استلهامه لذلك على الأسس القرآنية والنبوية، ولا عليه أن يستلهم في عمله الأدبي أو الشعري أيَّ فترة من فترات ذلك التاريخ وذلك التراث، ولكن الذي عليه هو أن يَقِفَ من ذلك كله موقفًا إسلاميًّا يبحث فيه عن الحق والصدق.
وإذا كُنَّا ألمحنا - في غير هذا الموضع - إلى موقف الحداثيِّين من ذلك التُّراث، وقَصْرِ استلهامهم له على المواقف الشَّاذة، والشخصيات الخارجة عن مفاهيم الأدب الإسلامي وسياقه الحضاري، فإنَّ على الأديب المسلم أنْ تكونَ الفترات التاريخيَّة المشرقة، ومَواقف التُّراث التي كانت مُتوافقة مع أصول المنهج الإسلامي، عليه أنْ تكونَ هي مواطن الاستلهام، ويُمكن من خلالها إنتاج أعمال أدبية وفنية ذات أصالة وعمق ووعي، ترسم لأجيالنا اليومَ طريق الخلاص ومعالم المجد والحق والخير، الذي خطَّه لنا أوائلنا من خلال تَمسُّكهم بهذا المنهج.
لقد حاول الحداثيُّون في كل ما استلهموه من مواقف التَّاريخ والتراث الإسلامي - أن يجعلوا فترات التشرذُم والرُّكود هي التي يسلط عليها الضوء، حتَّى وصل الأمر "بأدونيس" في آخر دواوينه، والمعنون بعنوان: "الكتاب" أنْ يَجْمَعَ أشد الشخصيات عداءً لمفاهيم الإسلام ورؤاه في كتاب واحد، ويطلق عليه هذا العنوان المموَّه؛ مما جعل ناقدًا ممن يتابع كتابات الحداثيين على صفحات في مجلة: "إبداع" المصرية يقف موقفًا مغايرًا لكثير من مواقفه السَّابقة في حديثه عن هذه المجموعة الشِّعرية الأخيرة "لأدونيس"، والتي تضمَّنت شططًا، وغُلُوًّا غير مسبوق في كتابات أمثاله.
والعجيب أنَّ بعضًا من شُدَاةِ الشعر ممن كتبوا حول هذه المجموعة الشعرية "لأدونيس"، جعل رُؤية الشاعر هي المقياس والحُكم، دون مجرد الرُّجوع إلى المصادر ومقارنة رؤية "أدونيس" بحقائق التاريخ الثابتة، فضلاً عن حقائق الدين والعقيدة، وهو ما كشف عنه مقال ذلك الناقد في العدد التالي مُباشرة.
من هنا؛ فإن على الأديبِ المسلم إذا سلط الضَّوء على فترات التشرذُم والرُّكود في تاريخنا وتُراثنا - أن يقف موقف المصحح والمصوب والمحقق لذلك كله، ويفسر الأحداث والشخصيات في إطار الرُّؤية والتصور الإسلامي، وألاَّ يقع فيما وقع فيه الحداثيُّون من ارتكازهم على النَّظرات الاستشراقية والغربيَّة لذلك التُّراث.
يتبع