تكوين الملكة الفقهية ( 1 )
محمد عثمان شبير
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد.. فإن تكوين الملكة الفقهية لدى الدارسين للفقه الإسلامي من الموضوعات المهمة في تدريس علم الفقه، لأنه الهدف الأساس من ذلك التدريس، ولأن الفقهاء ذوي الملكات الفقهية الراسخة هم غرس الله الذين يغرسهم في الأمة الإسلامية لضبط مسيرتها ووضع السياسات العامة التي توجه طريقها في الحياة. وقد أصبحت عودة هؤلاء الفقهاء مما يشغل بال قادة الفكر والتربية والدعوة الإسلامية في هذا العصر، لما ينتظر هؤلاء الفقهاء من دور كبير في نهضة الأمة الإسلامية واستئناف الحياة الإسلامية في المجتمع، هذا بالإضافة لترشيد الصحوة الإسلامية، وترشيد المؤسسات المالية الإسلامية من مصارف وشركات تأمين، والتي يزيد عددها على مائتي مؤسسة.
ومما يزيد هذا الموضوع أهمية أن مؤتمر (علم الفقه الإسلامي في الجامعات.. الواقع والطموح)، الذي دعت إليه جامعة الزرقاء الأهلية في الأردن، بالتعاون مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي وجمعية الدراسات والبحوث الإسلامية، في ربيع الآخر 1420هـ الموافق آب/أغسطس 1999م، جعل هذا الموضوع ضمن المحور الأول من محاور المؤتمر، حيث نص على: (إيجاد الملكة الفقهية الاجتهادية القادرة على التوصل للأحكام الشرعية ومواجهة المستجدات والنوازل التي لم تكن من قبل).
فما حقيقة هذه الملكة ? وما مقومات تكوينها لدى الفقيه ? وكيف نعمل على رعايتها وتقويتها وترسيخها ? للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها كتبت هذا البحث وسميته: (تكوين الملكة الفقهية).
وقد اعتمدت في إعداد هذا البحث على كتب ومراجع أصيـلة في الفقه وأصوله وكتب العلوم الشرعية وطريقة تدريسها، وغير ذلك مما له علاقة بموضوع البحث.
وقسمت البحث إلى ثلاثة فصول وخاتمة، وهي:
الفصل الأول: حقيقة الملكة الفقهية.
الفصل الثاني: مقومات الملكة الفقهية.
الفصل الثالث: رعاية الملكة الفقهية.
الخاتمة: لخصت فيها أهم نتائج البحث.
والله أسأل أن يتقبل مني هذا الجهد المتواضع، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وهو - سبحانه - ولي التوفيق، عليه توكلت وإليه أنيب.
الفصل الأول حقيقة الملكة الفقهية:
المبحث الأول: معنى الملكة الفقهية والألفاظ ذات الصلة:
قبل تحديد المقومات التي تتكون منها الملكة الفقهية، لا بد من بيان معنى الملكة الفقهية، والألفاظ ذات الصلة بها، وأنواعها، والحكم التكليفي لتكوينها، وفضلها، وأهميتها، لأن بيان هذه الأمور يعين الباحث على تحديد مكوناتها. ولذا سيشتمل هذا الفصل على المباحث التالية:
1- معنى الملكة الفقهية والألفاظ ذات الصلة.
2- أنواع الملكة الفقهية.
3- الحكم التكليفي لتكوين الملكة الفقهية وفضلها وأهميتها.
وفيما يلي بيان تلك المباحث:
المبحث الأول: معنى الملكة الفقهية والألفاظ ذات الصلة.
يشتمل هذا المبحث على مطلبين، الأول: في معنى الملكة الفقهية، والثاني: في الألفاظ ذات الصلة.
المطلب الأول: معنى الملكة الفقهية:
قبل بيان معنى الملكة الفقهيـة باعتبارها لقبًا على صفة معيــنة، لا بد من بيان جزأيها اللذين تركبت منهما، وهما (الملكة) و(الفقهية)، لأن معناها اللقبي ليس معزل عن معاني ما تركبت منه.
أولاً: تعريف الملكة الفقهية باعتبارها مركبًا إضافيًا:
1- تعريف الملكة:
الملكة في اللغة: مأخوذة من ملك، وهو -كما قال ابن فارس- أصل صحيح يدل على قوة في الشيء وصحة، فيقال: ملك الشيء ملكًا: حازه وانفرد بالتصرف فيه، فهو مالك.. ويقال: أملك العجين ملكًا: قوى عجنه وشده.. ويقال: هو يملك نفسه عند شهوتها: أي يقدر على حبسها.. وهو أملك لنفسه: أي أقدر على منعها من السقوط في شهواتها.
والملكة في الاصطلاح: (صفة راسخة في النفس)، وبعبارة أخرى: (الهيئة الراسخة في النفس) حيث تحصل في النفس هيئة بسبب فعل من الأفعال، يقال لها (كيفية) أو (حالة)، فإذا كانت تلك الهيئة سريعة الزوال سميت كيفية أو حالة، أما إذا تكررت تلك الهيئة ومارستها النفس حتى رسخت فيها، وصارت متعذرة الزوال، أصبحت ملكة: كملكة الحساب، وملكة اللغة، وملكة الكتابة وغير ذلك.
يظهر مما سبق أن الملكة تختص بثلاث خصائص، هي:
الخاصية الأولى: الملكة صفة في النفس، تطلق على مقابلة العدم. وهي تعين الشخص على سرعة البديهة في فهم الموضوع وإعطاء الحكم الخاص به، والتمييز بين المتشابهات بإبداء الفروق والموانع، والجمع بينها بالعلل والأشباه والنظائر وغير ذلك.
الخاصية الثانية: الملكة صفة مكتسبة وموهوبة، تتحقق للشخص بالاكتساب والموهبة، فاكتسابها يتحقق بالإحاطة بمبادئ العلم وقواعده، كما يرى ابن خلدون، حيث قال: (إن الحذق في العلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله، وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفن). في حين يــــرى بعضــهم أنـــها ليســت مكتســـــبة، وإنمــا هي هــــبـة مــوروثــة لا تكتسب ولا تعلم، فمن وهبه الله ملكة الحفظ كان حافظًا، ومن وهبه الله ملكة التخيل كان شاعرًا.
والحقيقة أن الملكة تجمع بين الأمرين، فهي هبة من الله - تعالى -: تنمو وتزداد بالاكتساب، فقد روي عن الإمام مالك أنه قال: (ليس الفقه بكثرة المسائل ولكن الفقه نور يؤتيه الله من يشاء من خلقه)، وقال الإمام مالك للإمام الشافعي وهو غلام يطلب العلم: (إن الله ألقى على قلبك نورًا فلا تطفئه بالمعصية).
الخاصية الثالثة: الملكة صفة راسخة كالنبتة التي تظهر في الأرض تنمو وتتجذر بالرعاية والعناية، وكذلك الملكة تبدأ ضعيفة، ثم تتقوى وتترسخ في النفس، فإذا ألقى المدرس على التلميذ أصول مسائل العلم وقواعده العامة حصلت له ملكة لكنها ضعيفة. فإذا توسع في الشرح وذكر الآراء المختلفة تجود ملكته وتقوى، فإذا أصبح قادرًا على إدراك العويص المستغلق، وأصبح المدرس لا يترك خفيًا إلا وضحه وفتح مغلقه وأعانه على إدراكه، فقد تهيأت لطالب العلم ملكة راسخة، يقول ابن خلدون: (اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدًا إذا كان على التدريج شيئًا فشيئًا وقليلاً فقليلاً، يلقى عليه أولاً مسائل من كل باب من الفن، هي أصول ذلك الباب، ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن، وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية ضعيفة، وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله، ثم يرجع به إلى الفن ثانية، فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف.. فتجود ملكته، ثم يرجــع به وقد شــذا فلا يترك عويصًا ولا مهمًا ولا مغلقًا إلا وضحه، وفتح له مقفله، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته...).
2- تعريف الفقهية:
الفقهية قيد في الملكة لإخراج ما ليس بفقهية: كالملكة النحوية، والملكة الحسابية، والملكة الكتابية.
والفقهية في اللغة: نسبة إلى الفقه وهو مأخوذ من فقه، وهو يطلق على الفهم والعلم والفطانة.
وقيل: إن الفقه مشتق من (الفقء) وهو الشق والفتح، كما ذكر ابن الأثير لأن الهمزة تتعاقب مع الهاء لاتحاد مخرجهما، وقد أيد هذا الحكيم الترمذي، وقرر أن الفقه هو معرفة بواطن الأمور والوصول إلى أعماقها، فمن لم يعرف من الأمور إلا ظواهرها لا يسمى فقيهًا، حيث قال: (والفقه مشتق من تفقؤ الشيء، يقال في اللغة: فقأ الشيء إذا انفتح، وفقأ الجرح إذا انفرج عمّا اندمل، والاسم فقئ والهاء والهمزة تبدلان، تجزي إحداهما عن الأخرى، فقيل: فقيء وفقيه.. والفهم هو العارض الذي يعرض في القلب من النور، فإذا عرض انفتح بصر القلب فرأى صورة ذلك الشيء. فالانفتاح هو الفقه، والعارض هو الفهم). ولا مانع من اعتبار الاشتقاقين لما في الثاني من أثر في الالتزام بالأحكام الشرعية.
فقد بين الحكيم الترمذي أثر ذلك الاشتقاق على التزام المسلم بالأحكام الشرعية; حيث قال: (... إن الذي يؤمر بالشيء فلا يرى زين ذلك الأمر، ويُنهى عن الشيء فلا يرى شينه، هو في عمى من أمره.. فإذا رأى زين ما أمر به وشين ما نهي عنه عمل على بصيرة، وكان قلبه عليه أقوى، ونفسه به أسخى، وحمد على ذلك وشكر.. والذي يعمى عن ذلك فهو جامد القلب، كسلان الجوارح، ثقيل النفس، بطيء التصرف).. وقال في موضع آخر: (... فمن فقه أسباب هذه الأمور التي أمر ونهي، بماذا أمر ونهي، ورأى زين ما أمر وبهاءه، وشين ما نهي، تعاظم ذلك عنده، وكبر في صدره شأنه، فكان أشد تسارعًا فيما أمر، وأشد هربًا وامتناعًا مما نهي.. فالفقه في الدين جند عظيم يؤيد الله - تعالى - به أهل اليقين، الذين عاينوا محاسن الأمور ومشاينها، ومقدار الأشياء وحسن تدبير الله - عز وجل - لهم من ذلك بنور يقينهم ليعبدوه على يسر.. ومن حُرِم ذلك عبده على مكابدة وعسر; لأن القلب -وإن أطاع وانقاد لأمر الله - عز وجل - فالنفس إنما تخف وتنقاد إذا رأى نفع شيء أو ضرر شيء، والنفس جندها الشهوات وصاحبها محتاج إلى أضدادها من الجنود حتى يقهرها، وهي الفقه).
ومما يؤيد الأخذ بالاشتقاقين أن عمل الفقيه لا يقتصر على العلم بالأحكام الفقهية وفهمها، وإنما يتعدى ذلك إلى الكشف عن علل الأحكام ومآخذها ومقاصدها، وغير ذلك مما يساعد في عملية استنباط الأحكام الشرعية، ولذلك عرف الفقه بأنه: (الإصابة والوقوف على المعنى الخفي الذي تعلق به الحكم).
والفقه في الاصطلاح: (العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية) وزاده ابن خلدون توضيحًا حين قال: (معرفة أحكام الله في أفعال المكلفين بالوجوب والحظر والندب والكراهية والإباحة، وهي متلقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة، فإذا استخرجت تلك الأحكام من الأدلة قيل لها فقه).
ولم يرتض الآمدي إطلاق الفقه على العلم. فقال: (الأشبه أن الفهم مغاير للعلم; إذ الفهم عبارة عن جودة الذهن من جهة تهيئه لاقتناص كل ما يرد عليه من المطالب، وإن لم يكن المتصف بها عالمًا، كالعامي الفطن).
ولا مانع من إطلاق الفقه على العلم والفهم والفطنة، والكشف عن المعاني الخفية.. والفقيه هو من اتصف بعلم الفقه أو بالاجتهاد، وعرفه البغدادي بأنه: (الضابط لما روى، الفاهم للمعاني، المحسن لرد ما اختلف فيه إلى الكتاب والسنة).
ثانيًا: تعريف الملكة الفقهية باعتبارها لقبًا:
الملكة الفقهية: (صفة يقتدر بها على استنتاج الأحكام من مآخذها).. وعرفها ابن النجار الفتوحي بقوله: (أن يكون الفقه عنده سجية وقوة يقتدر بها على التصرف بالجمع والتفريق والترتيب والتصحيح والإفساد)، ثم قال: (فإن ذلك ملاك الفقه).. وقد فصل القول فيها بعض المعاصرين حينما قال: (القدرة على النظر في الأدلة، وكيفية استنباط الأحكام منها، حتى لا تكاد تعرض عليه حادثة من الحوادث إلا أمكن أن يعطيها ما يليق بها من الأحكام، فضــلاً عن أنه بعد ذلك تطمــئن نفسه إلى ما يعــمل به من أحكام أو يفتي به غيـــره، أو يقضي به بين النــاس، إذ لا يقـــدم على ذلك إلا وهو يعلم الدليل على ما أقدم عليه).
يلاحظ على التعريف الثاني أنه غير شامل، لأنه يقتصر على تخريج الأحكام على الأصول، والترجيح بين الأقوال في المذهب. ويلاحظ على التعريف الثالث أنه شرح تفصيلي لبعض مفردات الملكة الفقهية.. وأما التعريف الأول فهو غير شامل لجميع مفردات الملكة الفقهية، لأنه يقتصر على استنباط الأحكام من الأدلة.
يتبع