حديث عن التعليم والمعلم
بلال بن عبد الصابر قديري

أما بعد: فاتقوا الله - جل وعلا - حق التقوى، فكم أغدق خيراً، وكشف ضراً، وستر عيباً، الواعظون بها كثير، والعاملون بها قليل، جعلني الله وإياكم من المتقين.
عباد الله: أغلى المكاسب، وأعلى المطالب، وأرفع المواهب، علم نافع، ينفع في الدنيا، ويرفع في الأخرى، وكفى أهله شرفاً أن الله رفع قدرهم، وأعلى ذكرهم، وأشاد في العالمين بخبرهم، قال - عز وجل -: (يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[المجادلة: 11] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)) رواه أحمد والطبراني، قال ابن عبد البر: أحسن كلمة توارثها الناس بعد كلام النبوة، قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: قيمة كل امرئ ما يحسن. ولله در القائل:
إن كبير القوم لا علم عنده *** صغيرٌ إذا التفت إليه المحافل
فالعلماء هم الأموات الأحياء، مات خُزَّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وآثارهم في القلوب والسطور موجودة.
فَفُز بعلمٍ تعش حياً به أبداً *** الناس موتى وأهل العلم أحياء
كان عبد الرحمن بن القاسم - رحمه الله - صاحب مالك أولَّ أمره ابناً لأمير، فركب بغلته ذات يوم، وعليه جبة من زِيِّ العلماء، وبينما هو يسير في الطريق، استوقفته امرأةٌ سائلةٌ تقول: امرأة يتقطع معها دم الحيض فكيف تفعل في صلاتها؟ قال: لا أدري، فقالت: سبحان الله بغلة يركب بغلة، فحركته هذه الكلمة، فسافر إلى مالك ولزمه عشرين سنة، أخذ عنه العلم، وصار له القول المختار في المذهب بعد قول مالك، إلا أنه لم يجتهد إجلالاً لشيخه واحتراماً.
فلا عجب من شدة طلب أهل العلم للعلم، لأنه أنفع مكسب، فخيره لا ينقطع، وأثره لا يزول، قال ابن عبد البر: العلم هو الولد الباقي في عقب الرجل، وهو الولد الخالد.
روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قوله: العلم خير لك من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم حاكم، والمال محكوم عليه، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو بالإنفاق.
من قاس بالعلم الثرَّاءَ فإنه *** في حكمه أعمى البصيرة كاذب
المال يُسرق أو يبيد لحادثٍ *** والعلم لا يخشى عليه سوارب
تعليم العلم لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكراته تسبيح، فلا عجب أن يتولَّع به أهله أيَّما ولع، فقد سئل الإمام يحى بن معين وهو على فراش: الموت ماذا تشتهي؟ قال: بيتٌ خالي وسند عالي.
يقول سعيد بن جبير - رحمه الله -: كنت أجلس إلى ابن عباس فأكتب في الصحيفة حتى تمتلئ، ثم أقلب نعلي فأكتب في ظهره، وقال عبد الله بن حنش: رأيتهم عند البراء يكتبون بأطراف القصب على أكفهم.
ولقد أبلغ العلماء العاملون في الوصية بالعلم والنصح به، حاديهم في ذلك قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)) رواه مسلم، فكان سعيهم للعلم يبدأ من المهد إلى اللحد، قال سعيد بن العاص: من لم يكتب، فيمينه يسرى، وقال معن بن زائدة: إذا لم تكتب يدك فهي رجل، وقال بعض العلماء: لو يعلم الملوك لمنعوا العلم عن أبناء الفقراء، وحصروه على أبناء الأغنياء، ولكن الله شغلهم بالدنيا.
دعا إلى العلم وتعلَّمَه نبيٌّ أميٌّ، لم تكن أميته يوماً قدحاً في رسالته، أو ثلباً في نبوته، كلاَّ بل هي مدحٌ ومنقبة، لأن من ورائها حكمة بالغة، إذ فيه رد الحجة على الملحدين في زعمهم أنه اقتباس من كتب الأقدمين، فقال الله - تعالى -: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ)[العنكبوت: 48].
أيها الناس: أشرف العلوم، وأزكى الفهوم، علم الكتاب والسنة:
العلم قال الله قال الرسول *** قال الصحابة هم أولو العرفان
كيف لا، والإسناد في علوم الشريعة منتهاه إلى رب العزة والجلال، فالعلم الأنفع، والخير الأعم، العلم الشرعي الذي يرسم مناهج السعادة في الدارين، ولذا كان لزاماً على الأب مع أبنائه، والمدرس مع طلابه، وكل راع مع رعيته، أن يبدأ بهذه العلوم النافعة، إذ هي النجاة من الهلاك، والمطية في المفاوز، وأما العلوم المستخدمة في عمارة الدنيا، والتعرف على أساليب الكسب فيها، فهي حصيلة للنجاح الدنيوي، ولا تثريب فيها على الرجل ولا تجريح، فيأخذ منها إلى جانب العلوم الشرعية، ما يفتح له في الدنيا أبواب الخير، فيرفع رأس المجتمع عاملاً مجاهداً، وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فالحذر الحذر من مسلك مشين، هو رأس الخطر، و فيه أعظم الضرر، سار عليه عملاء مغرضون، حرصوا على الحدِّ والتقليص مما يقوِّي صبغة الله في قلوب الطلاب، ? صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ? [البقرة: 138] وكذا سعوا في التقليل من شأن العلوم الدينية، في مقابل الحرص الدائم على ما عداها من علوم ماديَّةٍ أو رياضية، لا يحتاج إلى معظمها الذكي، ولا يستفيد منها البليد، فاتقوا الله يا منظِّري التطوير التعليمي في بلاد المسلمين، وقد ارتفعت أصوات تنادي بتعليم اللغات الأجنبية للصغار والكبار، ولو كانت على حساب ضياع لغة القرآن، مما يحدو بنا إلى المناداة بالعودة إلى الله، ومع أننا لا نخالفهم في أهميتها- اللغة الأجنبية -، لكن ليست لكل أحد، ولا بالصورة التي يطلبونها، حتى نكاد نخشى أن يصبحوا انجليزاً أكثر من الانجليز، إننا بحاجة إلى التحرر من ربقة التبعية للغرب، حتى في التعليم.
وإن هذا ليقودنا إلى أن نوجه كلمةً لصنَّاع الأمة، وبناة الأجيال، من المدرسين والمدرسات، على حد سواء، كيف لا وهم الأمناء على ثروة الأمة الحقيقية من الأبناء والبنات، أيها المعلم إنك تقف مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هداية الخلق إلى الحق، فمهنة التعليم تكليف أكثر من أن يكون تشريفاً، فهلا تنبهت لذلك فكنت عامل بناء لا معول تخريب، ليَهْنِك أيها المعلم رفعة قدرك، فإن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر، ليصلون على معلِّم الناس الخير، ألا يكفيك أن يكون لك مثل أجور من تُعَلِّمُ، دون أن ينقص من أجورهم شيء، ألا يكفيك أن يكون في عقبك علم نافعٌ علَّمْتَه، يزيد حسناتك.
أيها المعلم: إن شباب اليوم يعيشون في معترك الشهوات والشبهات، فهلا نهضت بأمانة التوجيه، فإننا لا نريدك مجرد ملقن للمعلومات، تسكب النظريات دون تربية وتزكية، فماذا عساه أن ينفع علمٌ متكدس، إذا لم يكن ثمة إيمانٌ ينفع، وخشيةٌ تردع، اغرس في قلوب طلابك محبة الله و رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ودوام سرد السيرة النبوية عليهم، مع ما تحويه من عبر وعظات، حبِّب إليهم الأخوة الإسلامية، ولا تكن داعية فرقة ووهن، بالتمييز بين المسلمين لاختلاف بلدانهم أو ألوانهم، إن هؤلاء الطلاب رعية استرعاك الله عليهم، فأدِّ الأمانة، واعلم أنك مسئول عنها، فماذا عساك تجيب، ويقول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي: ((إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير)).
من أجل هذا كم تمنينا أن يكون العلم مشاعاً كالهواء، يستنشقه القريب والبعيد، والغني والفقير، وأن يكون كالنور يشيع في الدنيا، فينير السبيل للعامة والخاصة، ويمنع من التردي في الهاوية.
أيها الناس: وإذا كان الآباء والأبناء والأسر والبيوت، في عمل دؤب وسعيٍ دائم، على قدم وساق، لاستقبال عام دراسيٍ جديد، فإن ثمة أموراً لا بد من التنبيه إليها، والتدليل عليها، إننا نتساءل عن سرِّ كراهية كثير من الطلاب لمحاضن التعليم، وسبب نفرتهم منها، حتى لنتمنى أن تستمر الأحوال طوال العام في الجد والاهتمام على ما هي عليه في أيام الدراسة الأولى، بل وبصراحة أوضح: ما هو الخلل في التعليم الذي يجعل الأبناء في ضيق وحرج من مدارسهم، حتى يتمنى بعضهم سرعة انقضاء أيام الدراسة وزوالها، حالهم كحال ابنٍ لهارون الرشيد كان يدرس مع زميل له عند المعلم، فمات زميل دراسته ورفيق دربه، فعزَّاهُ هارونُ في ذلك فقال الابن: نعم يا لسعادته فلقد ارتاح من عناء الدراسة، وشر التعلم.
بينما في المقابل نجد السلف الصالح على غير هذه الصور كليَّةً، فكانوا يقطعون لأجله الأكيال والأميال، ويركبون المخاطر الشدائد قد أنساهم الأجر ما أعياهم السفر، ليس هذا فحسب فلقد كان علماء السلف يضِّنُونَ بالعلم أن يهبوه كل أحد من الناس، بل يبتلون الطالب ويختبرونه أهو أهل لهذا العلم أم لا، حتى يميز الله الخبيث من الطيب، من أولئكم الإمام سليمان الأعمش، فقد كان الطلاب يفدون عليه بغزارة، فكان يجلس في بيته يستقبلهم، وكان له كلب على الباب يمنع الداخلين ويؤذيهم، فلا يدخل أحد إلا ويحتال لذلك أنواع الحيل، فلا يصل إلا الجادُّ والمجتهد، وذو الهمة والبصيرة، ولمَّـا مات ذلك الكلب كان الأعمش يقول: مات الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، ولا يظنن ظانٌّ أن هذا الفعل من الأعمش يستنكر، إذ ما كانوا ليفعلوا هذا إلا حرصاً على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقع في يد من ليسوا أهلاً لحمله، وطلاب ذلك الزمان كانوا أحرص على العلم من حرصهم على الماء والغذاء، فوا عجباً ممن احتال في طلب العلم، لا كمن يحتال هرباً من العلم في زماننا، إن الإجابة على السؤال: أن أولئك كانوا يطلبون العلم لأجل الله ليدركوا به رضوان الله، ويستفتحوا به إنعامه، أما طلاب الزمان فيطلبون العلم لأجل الشهادة والوظيفة والشهرة والمنصب، إلا من رحم الله، فحرموا بركة العلم، فلا تجد منهم الإقبال والحرص، فأين المدرسون والآباء والأمهات من أن يزرعوا في قلوب أبنائهم الإخلاص لله رب العالمين، فإن ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل.
عباد الله: ثاني مشكلات التعليم البارزة في ديار المسلمين، غياب القدوات، وانعدام البارزين الصادقين، الذين يقتدي بهم فالطالب، فشتان بين من يسمع من المدرس النصائح والتوجيهات بالأقوال، وأما الأفعال فمخالفة تماماً في أكثر الأحيان، وتأملوا مدرساً يدخِّن أمام طلابه، أو يجلس يتحدث معهم عن مباراة البارحة نقداً و تحليلاً، إن الطالب يفقد الثقة بالمعلم والاحترام له، أمام هذا التناقض الصارخ، فأزمة المسلمين هي أزمة قدوات، لا أزمة معلومات، إننا بحاجة إلى معلم يؤدي رسالته، فتصل إلى القلوب، وتتخلل العقول، يؤديها لأجل الله، لا لأجل الراتب والمكافأة، بذلك يحقق قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)) متفق عليه.
يا علماء الدين يا ملح البلد *** من يصلح الملح إذا الملح فسد
أيها الآباء: وإذا كنتم في حرص على أن يقع العلم مواقع نافعة من قلوب أبائكم، فازرعوا فيهم احترام المعلم أياً كان ذلك المعلم، وأينما كان، فالأدب مفتاح العلم، وأساس الطلب، وتأملوا هذه المواقف الزكية، يقول الإمام الشافعي: كنت أتصفح الورقة بين يدي شيخي مالك صفحاً رقيقاً، هيبةً لئلا يسمع وقعها، ويقول الربيع: والله ما جرئت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليَّ هيبةً له.
إن المعلم والطبيب كليهما *** لا ينفعان إذا لم يكرما
إن تقدير المجتمع للمعلم له أثر نفسي عظيم، لا لذات المعلم فحسب، وإنما لشرف المهمة التي يؤديها، والرسالة التي يحملها.
أما المرأة وإن كانت شقيقة للرجل، إلا أن مجالها غير مجاله، وتعليمها لا ينبغي أن يكون بالضرورة كتعليم الرجل، منهجاً وزمناً وأسلوبا ونظاماً (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى) [آل عمران: 36] ومما يحذر منه في ذا المقام نداءات ظهرت، تطالب بإدخال التربية الرياضية في مدارس البنات، ومعظم النار من مستصغر الشرر، وعلى أولياء الأمور عدم ترك البنات يركبن مع غير المحارم في الذهاب للدراسة أو العود منها.
والله نسأل أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يجعل ما تعلمناه حجة لنا لا علينا