سعة الرزق في ضوء القرآن الكريم
د. أحمد الحاج النور الزاكي[*]
رابعاً: الهجرة في سبيل الله تعالى:
قال تعالى: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (النساء:100), فهذا تحريض على الهجرة وترغيب في مقاومة المشركين وأن المؤمن حيثما ذهب وجد مندوحة وملجأ يتحصن فيه, فإن من يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مذهباً يذهب إليه وداراً بها ورزقاً واسعاً يراغم به عدوه الذي اضطهده حتى هاجر من بلاده.
يتضح من الآية أن من يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض فسحة ومنطلقاً فلا تضيق به الأرض، ولا يعدم الحيلة والوسيلة للنجاة وللرزق والحياة. ولكن نسبة لضعف النفس وحرصها وشحها، يخيل إليها أن وسائل الحياة والرزق مرهونة بأرض، ومقيدة بظروف، ومرتبطة بملابسات فارقتها لم تجد للحياة سبيلا. وهذا التصور الخاطئ لحقيقة أسباب الرزق وأسباب الحياة والنجاة هو الذي يجعل النفوس تقبل الذب، وتسكت عن الفتنة في الدين، ثم نتعرض لذلك المصير البائس. والله يقرر الحقيقة الموعودة وهي أن من يهاجر في سبيل الله إنه سيجد في الأرض سعة وسيجد عون الله في كل مكان يذهب إليه ويجد رزقه مقدر له ([26]).
خامساً: الانفاق في سبيل الله:
قال تعالى: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(س بأ:39), في الآية الكريمة دعوة إلى الإنفاق في سبيل الله وتشجيع عليه بإعلام الناس أن الإنفاق لا ينقص المال والبخل به لا يزيده فإن التوسعة كالتضييق لحكمة فلا البخل يزيد في المال ولا الإنفاق في سبيل الله ينقص منه, كما وعد تعالى أن من أنفق في سبيل الله شيئاً أخلفه الله عليه وهو تعالى خير من قيل انه يرزق ووصف به.
ومهما اتفق الناس من شيء فيما أمرهم به الله وأباحه لهم، فهو بخلفه عليهم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب، كما ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن الني صلى الله عليه و سلم قال: "قال الله تبارك وتعالى: يا بني آدم أنفق أنفق عليك"([27]), وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفا ويقول الآخر: اللهم وأعط ممسكاً تلفا"([28]), وهذه إشارة إلى الخلف في الدنيا يمثل المنفق فيها إذا كانت النفقة في طاعة الله. وقد لا يكون الخلف في الدنيا فيكون كالدعاء سواء في الإجابة أو التكفير أو الادخار؛ والادخار هاهنا مثله في الأجر, أما ما أنفق في معصية فلا خلاف أنه غير مثاب عليه ولا مخلوف له.
سادساً: اجتناب المعاصي:
قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم:41), في هذه الآية الكريمة يكشف الله تعالى عن ارتباط أحوال الحياة وأوضاعها بأعمال الناس وكسبهم، وأن فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد، ويملؤها براً وبحراً بهذا الفساد، ويجعله مسيطراً على أقدارها غالباً عليها, فظهور الفساد هكذا واستعلاؤه لا يتم عبثاً، ولا يقع مصادفة، إنما هو تدبير الله وسنته، (لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) من الشر والفساد، حينما يكتوون بناره، ويتألمون لما يصيبهم منه (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) فيحرصون على مقاومة الفساد ويرجعون إلى الله وإلى العمل الصالح والمنهج القويم ([29]).
اختلف العلماء في معنى الفساد الوارد في الآية، فقيل الفساد الشرك وهو أعظم الفساد، وقيل المراد بالفساد ظهور المعاصي من ظلم وقطع سبيل وقيل هو النقص في الزرع والثمار بسبب المعاصي. قال أبو العالية: " من عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة"([30]), ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود:" لحد يقام في الأرض أحب إلى أهلها من أن يمطروا أربعين صباحاً"([31]).
والسبب في هذا أن الحدود إذا أقيمت أنكف الناس أو كثير منهم عن تعاطي المحرمات، وإذا تركت المعاصي كانت سبباً في حصول البركات في السماء والأرض. فكلما أقيم العدل كثرت البركات والخير (إن الفاجر إذا مات تستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب)([32]), فإذا ظهر الفساد في البر والبحر من معاصٍ وغيرها فإن الله يحبس الغيث عنهم ويغلي الأسعار ليذيقهم عقاب بعض الذي فعلوا كما قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (الشورى:30).
ومما تقدم من تفسير لهذه الآية, نرى أن الآية بينت أن انتشار المعاصي في البر والبحر وفي الجو اليوم متمثل في عبادة غير الله تعالى، واستباحة محارمه وإيذاء الناس في أموالهم وأنفسهم وأعراضهم، كل ذلك نتيجة الإعراض عن دين الله وإهمال شرائعه وعدم تنفيذ أحكامه, وقوله: (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) أي بظلهم وكفرهم وفسقهم وفجورهم. وقوله: (لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) أي فما يصيبهم من جدب وقحط وغلاء وحروب وفتن إنما أصابهم الله به ليذيقهم بعض الذي عملوا من الشرك والمعاصي لا بكل ما فعلوا إذ أصابهم بكل ذنوبهم لأنهى حياتهم وقضى على وجودهم، ولكنه الرحيم بعباده اللطيف بهم ([33]).
وبالنظر إلى حالنا الذي نحن فيه اليوم, فكأنما هذه الآية نزلت فينا، فكل ما جاء فيها منطبق علينا, فيجب علينا الاتعاظ بها حتى لا يحل بنا ما حل بالأمم السابقة, فعلى المسلم أن يتبع هذه الأسباب التي ذكرت حتى يوسع الله له في رزقه.
المبحث الثالث
الأسباب المؤدية لسعة الرزق في السنة المطهرة
كما بين القرآن الكريم الأسباب المؤدية إلى سعة الرزق والتي سبق ذكرها في المبحث السابق، كذلك احتوت السنة المطهرة على عدة أسباب تؤدي إلى سعة الرزق, نذكر منها ما يلي:
أولاً: التبكير في طلب الرزق:
ينبغي التبكير في طلب الرزق لقوله صلى الله عليه و سلم:" اللهم بارك لأمتي في بكورها" ([34]).
البكور هو صدر النهار وأوله، وإنما خص النبي صلى الله عليه و سلم البكور بالدعاء بالبركة فيه من سائر الأوقات لأنه وقت يقصده الناس بابتداء أعمالهم وهو وقت نشاط وقيام من دَعة، فخص بالدعاء لينال بركة دعوته جميع أمته. وكان النبي صلى الله عليه و سللام إذا بعث سرية أو جيشاً بعثهم أول النهار، وكان كذلك إذا بعث تجارة بعثها أول النهار، وإنما كانت البركة في أول النهار لأنه الوقت الذي تُقسم فيه الأرزاق، فيحرم ذلك الرزق الإلهي في يومه لنومه, فقد دعا صلى الله عليه و سلم بالبركة لمن اغتنم هذا الوقت في أموره عامة دنيوية أو أخروية، فمن ضيعه فقد حُرم رزقاً كان ينتظره من الله تعالى. وكما هو معلوم فإن البدايات لها أثر كبير في النهايات، فكلما كانت البداية متعثرة كانت النهاية فاشلة([35]).
ثانياً: صلة الرحم:
الرحم لغة: اسم مشتق من مادة (ر ح م) التي تدل على الرِّقة والعطف والرأفة، والرحم علاقة القرابة، وقد سميت رحم الأنثى رحماً من هذا، لأن منها ما يكون ما يُرحم ويُرق له من ولد([36]).
صلة الرحم اصطلاحاً: هي الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول، فتارة تكون بالمال وتارة بالخدمة، وتارة بالزيارة والسلام وغير ذلك وقد اختلفوا في حد الرحم التي يجب وصلها، فقيل: كل رحّم محرم، بحيث لو كان أحدهما أنثى والآخر ذكراً حُرمت مناكحتهما، وقيل: هو عام في كل رحم من ذوي الأرحام في الميراث يستوي فيه المحْرَم وغيره([37])، وهذا هو الصحيح لقوله صلى الله عليه و سلم:" إن أبّر البِّر أن يصل الرجل أهل ود أبيه"([38]).
وتكون صلة الرحم بإيصال ما أمكن من الخير إلى الأقارب ودفع الشر عنهم والإحسان إليهم, فعن أنس بن مالك رضي الله عنه الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: "من سَرّه أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه"([39]).
فقد بين الحديث أن صلة الرحم سبب في توسعة الرزق وذلك يقوله صلى الله عليه و سلم "يبسط له في رزقه" وبسط الرزق توسعته وكثرته وقيل البركة فيه، وأما التأخير في الأجل ففيه سؤال مشهور وهو أن الآجال والأرزاق مقدرة لا تزيد ولا تنقص، قال تعالى: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ) (الأعراف: 34) وأجاب العلماء بأجوبة منها: أن هذه الزيادة بالبركة في عمره والتوفيق للطاعات وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة وصيانتها عن الضياع في غير ذلك([40]).
ثالثاً: المتابعة بين الحج والعمرة:
الحج هو التعبد لله عز وجل بأداء المناسك, على ما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم في مكان مخصوص وفي زمان مخصوص. وهو مظهر عملي للأخوة الإسلامية ووحدة الأمة الإسلامية، حيث تذوب في الحج فوارق الأجناس والألوان واللغات والأوطان والطبقات، وتبرز حقيقة العبودية والأخوة فالجميع بلباس واحد، يتجهون لقبلة واحدة، ويعبدون إلهاً واحداً, كما أن الحج موسم كبير لكسب الأجور، تضاعف فيه الحسنات، وتكفر فيه السيئات، ويقف فيه العبد بين يدي ربه مُقِراً بتوحيده، معترفاً بذنبه وتقصيره وعجزه عن القيام بحق ربه، فيرجع من الحج نقياً من الذنوب كيوم ولدته أمه, والحج ميزان يعرف به المسلمون أحوال بعضهم، وما هم عليه من علم أو جهل، أو غنى أو فقر، أو استقامة أو انحراف.
أما العمرة: فهي: التعبد لله بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والحلق والتقصير، وهي واجبة في العمر مرة، وتسن في كل وقت من العام، وفي أشهر الحج أفضل من سائر العام، والعمرة في رمضان تعدل حجة ([41]), فعن ابن مسعود رضي الله عنه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة"([42]).
والحج من الجانب المادي فرصة متاحة لتبادل المنافع عاى نطاق واسع بين المسلمين, وقد كان بعض المسلمين في وزمن الرسول صلى الله عليه و سلم يتحاشون التجارة في أيام الحج ويتحرجون من كل عمل دنيوي يجلب لهم ربحاً أو يدر عليهم رزقاً، خشية أن ينال ذلك من عبادتهم، أو يحط من مثوبتهم عند الله عز وجل، فأجاز الله تعالى لهم ذلك، ما دامت النية خالصة والمقصود هو الحج، ولكل امرئ ما نوى, قال تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ)(البق رة:198).
وقد كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فتحرجوا أن يتجروا فيها في موسم الحج فسألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك. فنزلت هذه الآية. نزلت إباحة البيع والشراء والكراء في الحج، وسماها القرآن ابتغاء من فضل الله. ليشعر من يزاولها أنه يبتغي من فضل الله حين يتجر وحين يعمل بأجر وحين يطلب أسباب الرزق: إنه لا يرزق نفسه بعمله، إنما يطلب من فضل الله، فيعطيه الله، فأحرى أن لا ينسى هذه الحقيقة، وهو أنه يبتغي من فضل الله، وأنه ينال من هذا الفضل حين يكسب وحين يقبض وحين يحصل على رزقه من وراء الأسباب التي يتخذها للارتزاق, ومتى استقر هذا الإحساس في قلبه، وهو يبتغي الرزق، فهو إذن في حالة عبادة لله، لا تتنافى مع عبادة الحج في الاتجاه إلى الله، ومتى ضمن الإسلام هذه المشاعر في قلب المؤمن أطلقه يعمل وينشط كما يشاء، وكل حركة منه عبادة([43]).
ولذا اعتبر المتابعة بين الحج والعمرة من أسباب سعة الرزق.
رابعاً: التفرغ لعبادة الله تعالى:
العبادة: مصدر عبد يعبد عيادة، أي أطاع وهذا المصدر مأخوذ من مادة (ع ب د) التي تدل على معنيين: الأول: لين وذلّ، والآخر شِدة وغلظة، ومن الأصل الأول أخذ العبد وهو المملوك([44]).
والعبادة في الاصطلاح: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة, وقبل هي: اسمع يجمع كمال الحب لله ونهايته، وكمال الذل لله ونهايته, وقيل: عبادة الله طاعته بفعل المأمور وترك المحذور, وقيل: العبادة فعل المكلف خلاف هوى نفسه تعظيماً لديه([45]).
والعبادة المشروعة لابد لها من أمرين: الأول: هو الالتزام بما شرعه الله ودعا إليه رسله، أمراً ونهياً، وتحليلاً وتحريماً، وهذا هو الذي يمثل عنصر الطاعة والخضوع لله, الثاني: أن يصدر هذا الالتزام من قلب يحب الله تعالى([46]), ولهذا خلق الله الخلق لعبادته سبحانه, حيث قال في محكم تنزيله: (مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)(ا لذاريات:56), وعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:" يقول ربكم تبارك وتعالى: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقاً، يا ابن آدك تباعد مني أملأ قلبك فقرا وأملأ يديك شغلا"([47]).
ومعنى التفرغ لعبادة الله تعالى حضور القلب وخشوعه وخضوعه لله عز وجل أثناء العبادة, ولم يطلب الإسلام من المسلم المثالي أن يكون راهباً في دير، أو عابداً في خلوة، ليله قائم، ونهاره صائم، كل صمته فكر، وكل كلامه ذكر، وكل نظره تأملات! لاحظ له في الحياة، ولاحظ للحياة فيه, بل طلب منه أن يكون إنساناً عاملاً في الحياة، يعمرها ويرقيها ويدفع عجلتها إلى الأمام. وأن يسعى في مناكب الأرض ويلتمس الرزق في خباياها زارعاً أو صانعاً، أو تاجراً، أو عالماً، أو محترفاً بأي حرفة نافعة. غير أن عليه ألا تشغله مطالب الدنيا العاجلة عن حقائق الآخرة الباقية.
فالمسلم يوازن بين الدنيا والآخرة, قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(الج معة:9،10), وهذا هو شأن المسلم: عمل وبيع قبل الصلاة، ثم صلاة وسعي إلى ذكر الله، ثم بعد انقضاء الصلاة انتشار في الأرض وابتغاء من فضل الله، وفضل الله هنا هو الرزق والكسب.
ورواد المساجد في الإسلام ليسوا متعطلين ولا متبطلين, وإنما كما وصفهم القرآن: (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)( النور: 37), فهم أُناس لهم دنياهم وأعمالهم في تجارة وبيع، وما أشد ما تشغل التجارة والبيع ولكن ذلك لم يلههم عن حق الله تعالى.
صحيح أن الله فرض على الناس أن يعبدوه، وأن يتقربوا إليه, ولكن غلو المسلم في العبادة الشعائرية، وشغل الليل والنهار بها وحدها، وهضم حقوق الحياة من أجلها, أمر يرفضه الإسلام ورسول الإسلام, فليست تقوى الله وخشيته بترك الدنيا، والانقطاع للعبادة فالرسول الكريم صلى الله عليه و سلم وهو أخشى الناس له، وأتقاهم له، ولكنه صلى الله عليه و سلم لم يهدر حقه في الحياة وحق الحياة فيه([48]), فلا يفهم التفرغ للعبادة بترك العمل والانقطاع لها والاعتماد على الآخرين في القيام على أمره بل إن العمل والسعي في كسب الرزق من أجل العبادات.
خامساً: إكرام الضعفاء والإحسان إليهم:
عن مصعب بن سعد قال: "رأى سعد رضي الله عنه أن له فضلاً عن من دونه، فقال النبي صلى الله عليه و سلم: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم"([49]), وقد خلق الله تعالى الخلق فجعل بعضهم أقوياء وبعضهم فقراء لحكمة يعلمها, ثم طلب من القوي مساعدة الضعيف، ومن الغني أن يرحم الفقير، حتى يعيشوا في وئام وسلام, فإذا قام كل بواجبه تجاه الآخر عاشوا في سعادة في مجتمعهم واختفت منه الظواهر السالبة التي تكون أثراً لعدم التعاون في المجتمع, وإذا ما تم الإحسان إلى هؤلاء كان سبباً في إخراج الضغائن من قلوبهم والأحقاد من صدورهم، وتحل السعادة والمحبة والتعاون وتكون الطمأنينة على النفس والمال, كما أن هؤلاء الفقراء حينما يحسنوا إليهم يقابلون ذلك الإحسان بالدعوة للمحسن في أن يبارك الله في صحته وماله ويكون ذلك سبباً في زيادة وسعة رزقه ولذلك ينبغي علينا أن نكون مجتمعاً مسلماً متراحماً متعاوناً يرحم بعضنا بعضا وبذلك يرحمنا الله تعالى.
الخاتمة:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات والصلاة والسلام على خير رسله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً, أحمد الله على توفيقه لي في إكمال هذه الدراسة التي تناولت مفهوم الرزق وتعريفه والأسباب المؤدية إلى سعته كما وردت في آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه و سلم وأقوال العلماء من السلف والخلف رضوان الله عليهم وبعد مناقشة ذلك توصلت الدراسة إلى أهم النتائج التالية:
- مفهوم الرزق مفهوم شامل ليس مقصوراً على المال والمأكول والمشروب فقط. يكون الرزق حلالاً أو حراماً بالوسائل التي يكسب بها.
- الأرزاق مقدرة ومكتوبة للعبد قبل خروجه من بطن أمه.
- سعة الرزق وضيقه ليس لكرم العبد أو إهانته وإنما هي لحكمة يعلمها الله.
- تضمن القرآن كثيراً من الأسباب المؤدية إلى سعة الرزق.
- اشتملت السنة على الأسباب المؤدية إلى سعة الرزق.
التوصيات:
- أُوصي الباحثين بإكمال جوانب هذه الدراسة التي لم أتعرض لها.
- أُوصي المسلمين بتحري الكسب الحلال في أرزاقهم.
- على المسلم أن يكون موقناً برزق الله له لتكفله بذلك.
- السعي على كسب الرزق باتخاذ الوسائل المؤدية إلى ذلك كما جاءت في القرآن والسنة وليس القعود عن ذلك بحجة أن الرزق مقدر من قبل.
هوامش البحث:
[*] أستاذ مساعد في التفسير وعلوم القرآن, بكلية التربية, قسم الدراسات الإسلامية, جامعة الزعيم الأزهري, بجمهورية السودان.
[1] لسان العرب 10/115-116، مختار الصحاح 241.
[2] صحيح البخاري كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة ص: 390 حديث رقم 3208.
[3] المفردات في غريب القرآن 214/215.
[4] التعريفات للجرجاني 91.
[5] في رحاب التفسير لكشك 1/86.
[6] أيسر التفاسير للجزائري 1/15.
[7] التعريفات للجرجاني 91.
[8] روح المعاني للآلوسي 11/189.
[9] سنن ابن ماجة كتاب الحدود، باب المخنثين 2/871 حديث رقم 3613.
[10] صحيح البخاري ص390 حديث رقم 3208.
[11] صحيح مسلم بشرح النووي 16/113 حديث رقم 2557.
[12] المفردات في غريب القرآن 397.
[13] المرجع السابق 84.
[14] المحرر الوجيز 15/115 والقرطبي 18/18/201 – 202.
[15] أسباب النزول للواحدي ص289 والطبري 12/130/131.
[16] تفسير ابن كثير 2/27 والطبري 3/244.
[18] أسد الغابة 2/681 – 682 وسير أعلام النبلاء 3/146 – 147.
[19] تفسير ابن كثير 3/324 – 325 وفي ظلال القرآن 3/1339.
[20] المحرر الوجيز 4/515 والقرطبي 6/181 – 182.
[22] المحرر الوجيز 15/143 وفي ظلال القرآن 6/3734.
[23] منهاج المسلم للجزائري 131.
[24] القرطبي 18/114 والطبري 12/249.
[25] سنن الترمذي، كتاب الزهد باب في التوكل على الله 4/573 حديث رقم 2344.
[26] تفسير ابن كثير 2/286 وفي ظلال القرآن 2/745.
[27] صحيح البخاري، كتاب التفسير وكان عرشه على الماء 4/1724 حديث رقم 2344.
[28] فتح الباري 4/388 ، باب الزكاة حديث رقم 1442.
[29] الطبري 10/190 – 191 وفي ظلال القرآن 5/2773.
[30] تفسير ابن كثير 6/179.
[31] صحيح الجامع 1139 حسّنه الألباني.
[32] فتح الباري ، كتاب الرقاب، باب سكرات الموت 11/440 ، حديث رقم 6512 .
[33] انظر أيسر التفاسير 2/983.
[34] سنن أبي داود كتاب الجهاد باب في الابتكار في السفر 3/35 حديث رقم 2606.
[35] انظر المصدر نفسه.
[36] مقاييس اللغة 2/498 والصحاح 5/1929 والمفردات في غريب القرآن 211.
[37] صحيح مسلم بشرح النووي 16/113.
[38] صحيح مسلم بشرح النووي كتاب البر والصلة والآداب 16/109.
[39] صحيح البخاري كتاب البيوع باب من أحب أن يبسط له في الرزق2/728 حديث رقم1961.
[40] صحيح مسلم بشرح النووي 16/114.
[41] مختصر الفقه الإسلامي 647.
[42] سنن الترمذي كتاب الحج والعمرة باب ما جاء في ثواب الحج والعمرة 3/175.
[44] مقاييس اللغة لابن فارس 4/206 والمفردات في غريب القرآن 351.
[45] التعريفات للجرجاني 120.
[46] العبادة في الإسلام 32 -33.
[47] سنن الترمذي كتاب صفة القيامة والرقائق والورع 4/642.
[48] العبادة في الإسلام 85.
[49] سنن النسائي كتاب الجهاد باب الاستنصار بالضعيف 6/45 حديث رقم 3178.
فهرس المصادر والمراجع:
أولاً: القرآن الكريم.
ثانياً: المصادر والمراجع الأخرى:
أساب النزول لأبي الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري، دار الكتب العلمية – بيروت لبنان (بدون طبعة( 1400ھ – 1980م؟
أسد الغابة في معرفة الصحابة، عز الدين بن الأثير أبي الحسن علي بن محمد الجزري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت لبنان، 1432ھ – 2010م.
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، لأبي بكر جابر الجزائري، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، الطبعة الخامسة 1422ھ – 2002م.
تفسير القرآن العظيم، إسماعيل بن كثير الدمشقي، المكتبة التوفيقية، القاهرة (بدون طبعة وتاريخ).
جامع البيان في تأويل القرآن لأبي جعفر محمد جرير الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1412ھ – 1992م.
الجامع لحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى 1425ھ – 2005م.
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، لأبي الفضل شهاب الدين السيد محمود الآلوسي، دار أحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة الأولى، 1420ھ – 1999م.
سنن ابن ماجة، الحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي بيروت، بدون طبعة – 1395ھ – 1975م.
سنن أبي داود، لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، تعليق عزت عبيد، دار الكتب العلمية بيروت، (بدون طبعة وتاريخ).
سنن الترمذي، للإمام محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار إحياء التراث العربي، بيروت (بدون طبعة وتاريخ).
سنن النسائي شرح الحافظ جلال الدين السيوطي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1348ھ – 1930م.
سير أعلام النبلاء، للإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق خيري سعيد المكتبة التوفيقية القاهرة، (بدون طبعة وتاريخ).
صحيح البخاري، لأبي عبدالله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، تقديم العلامة أحمد محمد شاكر، ألفا للنشر والتوزيع مصر (بدون طبعة) 1432ھ – 2011م.
صحيح مسلم بشرح النووي، لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي، مؤسسة الفرقان – بيروت (بدون طبعة وتاريخ).
الصحاح، إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور، الطبعة الثانية 1399ھ – 1979م.
العبادة في الإسلام، دكتور يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة القاهرة الطبعة 15، 1405ھ – 1985م.
فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار المعرفة بيوت لبنان، (بدون طبعة وتاريخ).
في رحاب التفسير، عبد الحميد كشك،المكتب المصري الحديث، القاهرة (بدون طبعة وتاريخ).
كتاب التعريفات، للسيد الشريف علي محمد الجرجاني، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1424ھ – 2003م.
لسان العرب، لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور، دار صادر – بيروت (بدون طبعة وتاريخ).
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لأبي محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي، الدوحة قطر، الطبعة الأولى 1398ھ – 1977م.
مختصر الفقه الإسلامي، محمد إبراهيم بن عبد الله التويجري، بيت الأفكار الدولية، الأردن (بدون طبعة وتاريخ).
معجم مقاييس اللغة، لأبي الحسن أحمد بن فارس بن زكريا، تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار الكتب العلمية ت قم إيران (بدون طبعة وتاريخ).
المفردات في غريب القرآن، لأبي القاسم الحسن بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع – القاهرة، الطبعة الأولى 2012ه