انتبه فأنت مربٍّ
كلنا بشر نمر بحالات الفرح والحزن، والسراء والضراء، والسعادة والكآبة، والقوة والضعف، والتأثير والتأثر، والخطأ والصواب، فنفرح بالكلمة الطيبة، ونسعد بالعمل الجميل، ونبتسم للمبادرة النافعة، ونحزن لمقالة نابية، ونتألم لكلمة سيئة، بل ونسخط أحيانًا على حركة أو عمل أو أداء غير محمود، فلكل حادث حديث ولكل مقام مقال، وللشدة والعزيمة مواطنها، وللرفق واللين مواطنه؛ كما يقول المتنبي:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا *** مضر كوضع السيف في موضع الندى
ذكر لي أحد أولياء الأمور - وهو ممن يزرع بذور السعادة والتواصل الأسري في أطفاله، ويحرص على أن يعيش أولاده في جوٍّ من الهدوء والاستقرار النفسي والاحترام المتبادل، وينشؤوا نشأة صالحة طيبة إن شاء الله - ذكر لي أنه لا يتمالك نفسه عندما يرى بعض التصرفات من أطفاله تدعو إلى القلق والجزع، والانفعال والغضب؛ كعدم التزامهم ببعض بنود قانون البيت المتفق عليها، أو العدوانية، أو إلقاء الأشياء وعدم رفعها، أو عدم الاكتراث بالنصحية مثلًا.
فقلت له: إننا كلنا تعترينا مثل هذه الحالات، ونواجه مثل هذه التصرفات في حياتنا اليومية، لكنني شخصيًّا أخذت عهدًا على نفسي، وهو أنني في حالة الانفعال أتذكر هذه الجملة: (انتبه؛ فأنت مربٍّ)، انتبه؛ فأنت في أسرة ولست في ثُكْنة عسكرية، انتبه؛ فأدوات التربية تختلف عن أدوات الرعي، ودورك دور التصحيح والرعاية والإرشاد بلطف وهدوء وحكمة، ولست المدعي العام حتى يكون دورك إثبات التهمة والإدانة، وذكرتُ له أن مثل هذه المواقف فرصة ذهبية لتوصيل المعلومة الصحيحة إلى الأطفال، وترسيخ الصورة الذهنية الإيجابية عن الوالد في نفوسهم؛ فالأولاد بحاجة إلى نماذج وقدوات أكثر منهم إلى نقاد، كما يقول جوزف جوبير.
حرض بنيك على الآداب في الصغر *** كيما تقر بهم عيناك في الكبرِ
الخطأ يا أحبتي الكرام وارد من الجميع: من الصغير والكبير، والطفل والشاب، ولكن كيف نستطيع أن نستفيد من الخطأ حتى لا يتكرر مرة أخرى؟ وكيف يمكن أن نستغل فرصة حدوث الخطأ في تصحيح بوصلة العمل، وتحسين الأداء، وتلقين المعلومة الصحيحة، وتعزيز التواصل مع الطفل بشكل جيد، وبناء شخصيته وتوجيهه وإعداده للحياة؟ هذا هو الدور المنوط بالمربي القائد، فجذور التربية مُرَّةٌ ولكن ثمارها حلوة:
لا تزدَرُنَّ صغارًا في ملاعبهم *** فجائزٌ أن يُرَوا ساداتِ أقوامِ
أما أن تكون تربيتنا نابعة من العنف والتخويف والتهويل؛ كأن نكبِّر الشيء الصغير من الأطفال، ونصدر الأوامر والنواهي، ونصرخ بأعلى صوتنا، ونعلن حالة الطوارئ في البيت، ونفتعل المعارك، ونهدد بالضرب والحرمان، بحيث يخاف الكبير قبل الصغير، وتحتمي البنت بأمها، ويتستر الولد خلف الباب، ويرتفع الضجيح والأصوات حتى تصل إلى بيوت الجيران، بحجة الانضباط وتعليم الرجولة - فليس من التربية في شيء، ولا محل لهذه الأفعال من الإعراب في قواميس التربية الصحيحة، بل هو كافٍ لفساد العلاقة الطيبة بين الأب والأولاد، وسبب لاتساع الهُوَّة بينه وبينهم:
والمرءُ يُحيي مجدَه أبناؤه *** ويموت آخر وهو في الأحياءِ
كتب أحد زملائي الأفاضل ذكرهم الله بالخير - مقالًا بعنوان: "تربية الآباء قبل الأبناء"، أشار فيه إلى أن بعض أساليبنا التقليدية في التربية بحاجة إلى إعادة نظر، فعصْرُ أولادنا غير العصر الذي عاش فيه أجدادنا رحمهم الله، واختلفت منابع التربية وقنواتها، واشتد طوفان العولمة والغزو الثقافي أكثر من أي وقت مضى؛ ولذا يجب الإلمام بأساليب التربية الصحيحة وأدبياتها؛ من التعرف إلى عقول الأطفال وميولهم، والتعامل معهم بمختلف الطرق والأساليب: من التغاضي حينًا، والنصيحة حينًا آخر، والتربية بالقدوة، والتدرج في إيصال المعلومة - وكسب ثقتهم وبناء جسور التواصل معهم، والإلمام بخصائص مراحل الطفولة وحاجاتها:
فهناك تُقبل إن وعظت ويُقتدى *** بالقول منك وينفع التعليمُ
يقول الدكتور سامر البارودي: "إن المربي الناجح يتعامل مع انفلاتات أبنائه لا على أنها ضرب من الهروب والتحدي، بل على أنها مظاهر طبيعية إيجابية تدل على حيوية متدفقة، عليه أن يوجهها ويفيد منها، بدلًا من الوقوف في طريقها"؛ (إضاءات تربوية: 24).
ولا يعني هذا الكلام الدعوة إلى الانفلات من سيطرة الوالد، أو تأخير التنبيه، أو عدم المحاسبة والسؤال، كل ذلك مطلوب ومستحسن ولكن في حدود متوازنة، بحيث لا يطغى جانب على آخر، وأن يتم ذلك بأسلوب حسن وتعامل جميل، وأن تعتبر نفسك جزءًا من الأسرة، لا صاحب سلطة مطلقة فيها.
ويؤكد الدكتور (عبدالكريم بكار) على ضرورة تفعيل أساليب التربية داخل الأسرة، ومنها عنصر الحوار بقوله: "نحن ندرب الصغار على الفضائل؛ كي يصبحوا أشخاصًا فضلاء، وكي يساعدوا غيرهم على أن يكونوا فضلاء؛ وبهذا تتغير ملامح المجتمع، فيصبح مجتمعًا فاضلًا، لا يشعر الصغار حين نحاورهم بالثقة بالنفس فحسب، ولكن يشعرون أيضًا بالأمان، إنهم طالما ارتكبوا الأخطاء، وطالما أنكروا حصول بعض الأشياء، وطالما أخفوا بعض الأمور؛ ولهذا فإنهم حين يُعامَلون على أنهم ناضجون، ويحاورون من قِبل أهليهم في كل شيء، يشعرون بالأمان والاطمئنان"؛ (التواصل الأسري: 13).
شمعة أخيرة:
لو طبقنا أساليب التربية النبوية مع الأولاد؛ من زرع القيم النبيلة فيهم، وتصحيح أخطائهم بهدوء وروية، وفتح القلوب لهم، وإعطائهم الأمان النفسي والتقدير الذاتي، وعودناهم الصدق والصراحة حتى ولو أخطؤوا، ونقلنا إليهم المهارات وطورناهم، بحيث اعتبرناهم أهم استثمارنا في الحياة وبعد الممات - لكان لهم شأن آخر، ولربيناهم عظماء وقادة ومصلحين بإذن الله تعالى، بدلًا من تربيتهم على عقدة النقص والتبعية، والخجل والانطواء، فمن شبَّ على شيء شاب عليه، فلنبذل قصارى الجهد، ولنترك النتائج على الله، ولا ننسى عنصر الدعاء لهم باستمرار.حفظ الله أولادي وأولادكم وأولاد المسلمين من كل شر ومكروه.