تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 41

الموضوع: الأندلس من الفتح إلى السقوط

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي الأندلس من الفتح إلى السقوط

    الأندلس من الفتح إلى السقوط :
    (1) سبب تسمية الأندلس




    الاسم المعاصر للأندلس، ومن أول من سكنها، وسبب تسمية الأندلس:

    أما الأندلس فتسمى الآن أسبانيا والبرتغال، أو ما يسمى بشبه الجزيرة الأيبيرية، ومساحتها ستمائة ألف كيلو متر مربع، أي: أقل من ثلثي من مصر، ثم تناقصت الأرض عليهم مع مرور الزمان، أما مساحة فرنسا فهي حوالي نصف مليون كيلو متر مربع، وإن شاء الله سيكون للمسلمين أيضاً فتوحات مرتبطة بفرنسا، وفرنسا في ذلك الزمن كان اسمها مملكة الفرنجة، أو مملكة غاليا.


    سكن الأندلس منذ القرن الأول الميلادي بعض القبائل الهمجية التي جاءت من شمال اسكندنافا من بلاد السويد والدنمارك والنرويج وما إلى ذلك، وهجمت على منطقة الأندلس وعاشت فيها فترة من الزمان، ويقال: إن هذه القبائل جاءت من ألمانيا، وهذه القبائل كان اسمها قبائل الفندال، وباللغة العربية تحرف أحياناً إلى الوندال، فسميت هذه البلاد بفندلسيا لأن قبائل الفندال عاشت فيها فترة من الزمان، ثم حُرّف الاسم بعد ذلك إلى أندلسيا، وهذه القبائل كانت وحشية حتى يعلم الناس كيف انصلح الحال في هذه البلاد بعد دخول الإسلام،

    وفي اللغة الإنجليزية فإ، كلمة فندلزم تعني همجية أو وحشية أو أسلوب غير حضاري أو بدائي في الحياة، فقبائل الفندال عاشت فترة من الزمان فسميت هذه البلاد بفندلسيا، ثم خرجت هذه القبائل وحكم الأندلس طوائف أخرى من النصارى عُرفت في التاريخ باسم القوط الغربيين، وهي التي كانت تعيش فيها حتى دخول المسلمين.

    واتجه المسلمون لفتح بلاد الأندلس في ذلك الوقت، لأنهم وصلوا في الفتح إلى المغرب الأقصى، أي: أنهم فتحوا الشمال الأفريقي كله: مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، والناظر إلى خريطة هذه المنطقة يجد أنه بعد دولة المغرب مباشرة المحيط الأطلسي، فإما أن تصعد شمالاً وتعبر مضيق جبل طارق وتدخل في بلاد أسبانيا والبرتغال التي كان اسمها الأندلس، وإما أن تنزل جنوباً في الصحراء الكبرى، والمسلمون ليس من همّهم جمع الأراضي والممتلكات -والصحراء الكبرى قليلة السكان جداً- وإنما يبحثون عن البشر حتى يعلموهم دين الله سبحانه وتعالى، فلما انتهوا من المغرب انتقلوا إلى الدولة المجاورة مباشرة التي هي دولة الأندلس، وعندما انتهوا من الأندلس انتقلوا إلى الدولة المجاورة التي هي فرنسا، وكان عندهم العزم -لو ربنا سبحانه وتعالى فتح عليهم وأكملوا الفتوح- أن يفتحوا الدول المجاورة التي هي: إيطاليا وألمانيا وهكذا، فالمسلمون كانوا قد وصلوا إلى الأندلس واستتب لهم الأمر أواخر الثمانيات من الهجرة، كما سيأتي بالتفصيل إن شاء الله في شرح الطريق إلى الأندلس.


    والله سبحانه وتعالى يقول لنا في كتابه الكريم: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، ومعنى: {الَّذِينَ يَلُونَكُمْ} [التوبة:123] أي: البلاد المجاورة لكم.


    وقد دار حوار لطيف بين معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ملك الروم قبل موقعة اليرموك عن طريق المفاوضات بين الفريقين والرسل، فسأل ملك الروم معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال له: ما الذي دعاكم إلى الولوغ في بلادنا، وبلاد الحبشة أسهل عليكم؟ فالعالم القديم كان مقسماً بين الروم وفارس، أي: أنها القوة العظمى في ذلك الزمن.


    فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه: قال لنا ربنا في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، وأنتم البلاد التي تلينا، ثم بعد الانتهاء من بلاد الروم سنفتح الحبشة وغيرها من البلاد، فالمسلمون كانوا قد وصلوا إلى المغرب الأقصى، وأول بلاد مجاورة هي بلاد الأندلس، وهي الخطوة التالية للفتح مباشرة.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    الأندلس من الفتح إلى السقوط :

    (2) زمن فتح الأندلس





    وقد فتحت الأندلس في سنة (92 هـ) في الدولة الأموية، خصوصاً في خلافة الوليد بن عبد الملك رحمه الله الخليفة الأموي الذي حكم من سنة 86 هـ إلى سنة 96 هـ، أي: أن فتح الأندلس كان في منتصف خلافة الوليد بن عبد الملك رحمه الله.

    والدولة الأموية مظلومة في التاريخ الإسلامي، فقد أشيع عنها كثيراً من الذين شوهوا التاريخ الإسلامي فقالوا: إنه ما كان تاريخ إلا في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، حتى أن كثيراً من الناس يطعنون في تاريخ أبي بكر وعمر مع علم الجميع بفضلهما،

    وغرضهم في ذلك عدم إقامة دولة إسلامية، فإذا كان السابقون القريبون من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم دولة بني أمية والدولة العباسية وغيرها من الدول لم تستطع أن تقيم حكماً إسلامياً صالحاً ناجحاً، فكيف بالمتأخرين؟
    وهذه الرسالة يريدون أن يصلوا بها إلى كل المسلمين، فالدولة الأموية كانت دولة لها كثير من الأيادي البيضاء على المسلمين، فقد دخلت كثير من البلاد في الإسلام في عهد بني أمية، كشمال أفريقيا ابتداء من ليبيا إلى أواخر المغرب، نعم بدأت الفتوحات لهذه البلاد في عهد عثمان بن عفان ثم انتقضت وارتدت على عاقبها، وفُتحت من جديد في عهد بني أمية، وأفغانستان وجمهوريات جنوب روسيا دخلت في الإسلام في عهد بني أمية، وكثير من البلاد وكثير من الناس دخلوا في الإسلام في عهد هذه الفترة الناجحة جداً في تاريخ الأمة الإسلامية، ودوّنت السنة في عهد بني أمية، ورُغّب في الجهاد في عهد بني أمية حتى صار الجهاد أمراً طبيعياً،
    وأنه في كل سنة سيكون جهاد في الصيف وجهاد في الشتاء فالمجاهدون كانوا يخرجون للجهاد كما يخرجون إلى أعمالهم، والشرع كان مطبّق في عهد بني أمية، ولا نقول أنهم كانوا بلا أخطاء ولا عيوب، ومن المؤكد أن كل البشر يخطئون، ومن المؤكد أن هناك أخطاء كثيرة في تاريخ بني أمية، لكن بلا شك أن هذه الأخطاء تذوب في بحر حسناتهم وأفضالهم على المسلمين.

    حكمت دولة بني أمية من سنة (40 هـ إلى سنة 132 هـ) أي: أنه استمر الحكم في بني أمية 92سنة، ومؤسس دولة بني أمية الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وكثير من الناس يطعنون في خلافة معاوية بن أبي سفيان وفي تاريخه وكذبوا، وليتهم يصلون إلى معشار ما فعله معاوية بن أبي سفيان للإسلام والمسلمين، وإن شاء الله تكون بيننا محاضرات وجولات مع تاريخ معاوية بن أبي سفيان وتاريخ الدولة الأموية، وليس المجال الآن في الخوض والحديث بالتفصيل عن تاريخ بني أمية لكن نذكر مقدمة قد تفيد إن شاء الله في الحديث عن الأندلس.


    تتابع الحكام بعد معاوية بن أبي سفيان وأشهرهم عبد الملك بن مروان رحمه الله، وتبعه من أولاده: الوليد وسليمان ويزيد وهشام، ثم الخليفة الخامس الراشد المشهور عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، الذي ملأ الأرض عدلاً ورحمة وأمناً ورخاء، وآخر سبع سنوات فقط في بني أمية هي التي كانت فيها الكثير من المآسي والاختلافات عن المنهج الإسلامي، وكسنة من سنن الله سبحانه وتعالى قامت دولة أخرى لما فسد الأمر في بني أمية وهي دولة بني العباس، لكن فتح الأندلس حسنة من حسنات بني أمية.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    الأندلس من الفتح إلى السقوط :

    (3) حال أوروبا أثناء الفتح الإسلامي للأندلس



    سؤال آخر قد يخطر على الذهن وهو:
    كيف كان الوضع في بلاد الأندلس وأوروبا؟ وكيف تغيرت بعد دخول المسلمين إليها؟

    الواقع أن أوروبا في ذلك الوقت كانت تعيش في فترة من فترات الجهل العظيم المنتشر في كل الأرض، وبعد كبير جداً عن كل مناهج العدل التي نشرها الإسلام بعد ذلك، وظلم بيّن من الحكام للمحكومين فالأموال الكثيرة والخيرات في يد الحكام أما الشعوب فهي تعيش في بؤس كبير.

    والحكام اهتموا كثيراً ببناء القصور والقلاع والحصون بينما يعيش عامة الشعب في فقر شديد، وعموم الناس يزرعون الأراضي وكانوا يباعون ويشترون كالمتاع في هذا الزمان، وهناك انتهاك للحرمات وأخلاق متدنية، وبعد حتى عن مقومات الحياة الطبيعية، فالنظافة مختفية بالمرة، لدرجة أن الناس كانوا يتركون شعورهم تنسدل على وجوههم ولا يقصونها، ولا يغتسلون في العام إلا مرة أو مرتين، ويظنون أن هذه الأوساخ التي تتراكم على أجسادهم هي صحة لهذا الجسد، وهي خير وبركة لهذا الجسد!

    والمشكلة الكبيرة جداً هي عندما يذهب أحدهم ليغتسل، والرحالة المسلمون الذين دخلوا إلى اسكندنافا وجدوا الناس يتفاهمون بالإشارة، أي: ليست لهم لغة منطوقة فضلاً عن أن تكون مكتوبة، فهذه البلاد كانت تعيش في جهل وفي ظلم وفي فقر،
    وكان في هذه البلاد بعض أفعال الهنود والمجوس من حرق للمتوفى عند موته، وحرق لزوجة المتوفى معه وهي حية، أو الحرق لجاريته، أو من يحبه من الناس معه وهو حي والناس تشاهد وتعلم هذا الأمر، وكانت هذه البلاد تعيش في ظلم وفقر وضياع كبير جداً عن أي وجه من وجوه الحضارة، ثم لننظر ماذا فعل الإسلام في هذه البلاد؟
    كانت هذه مقدمة لدراسة تاريخ الأندلس، وبإذن الله من المقال القادم نتحدث عن تاريخ الأندلس بالترتيب الزمني منذ الفتح سنة 92 هـ إلى السقوط في سنة 897 هـ.
    وكما ذكرنا نؤكد ونعيد ونقول أن هذه المقالات ما هي إلا فتح الطريق لدراسة تاريخ الأندلس وليست هي كل تاريخ الأندلس، فتاريخ الأندلس يضم أكثر من 800 سنة كما ذكرنا.
    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً كثيراً.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط


    الأندلس من الفتح إلى السقوط :

    (4) نبذة يسيرة عن موسى بن نصير ووالده




    تحدثنا سابقا عن بعض المقدمات الخاصة بفتح الأندلس والآن ندخل في تفصيلات هذا الفتح، واليوم نتحدث عن أول فترات الأندلس ما يسمى: بعهد الفتح الإسلامي الأندلسي الذي بدأ في سنة 92 من الهجرة، ولكي نفهم الفتح الإسلامي للأندلس في سنة 92 من الهجرة لا بد أن نفهم الوضع في الشمال الأفريقي الملاصق للأندلس في ذلك الزمن، فبلاد الشمال الأفريقي دخلها الإسلام عبر سنوات عديدة تصل إلى 70 سنة، ابتداء من سنة 23 من الهجرة، وهناك فتوحات في الشمال الأفريقي، لكن كانت دائمة الارتداد عن دين الله سبحانه وتعالى.


    يسكن في هذه المناطق قبائل ضخمة جداً اسمها: قبائل البربر وسنفصل إن شاء الله عنها خلال الحلقات اللاحقة، كانت قبائل البربر كثيرة الارتداد عن الإسلام، حتى دارت بينها وبين المسلمين جولات كثيرة حتى استقر الإسلام فيها في أواخر سنة 85 أو 86 من الهجرة على يد موسى بن نصير رحمه الله،

    وموسى بن نصير رحمه الله ذلك القائد المسلم البارع التقي الورع الذي ثبت أقدام الإسلام في هذه البلاد المترامية الأطراف في الشمال الأفريقي.
    كان من التابعين، روى عن بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوه نصير كان غلاماً نصرانياً، أسر في موقعة عين التمر، وكان قائد المسلمين خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، وكان نصير يتعلم الإنجيل والدراسات النصرانية في كنيسة من الكنائس، ثم عرض عليه الإسلام، فأعجب بالإسلام ودخل فيه، ونصير هو أبو موسى بن نصير وكان معه أيضاً في نفس الفترة وفي نفس المكان سيرين والد محمد بن سيرين التابعي المشهور.
    فانظر كيف فعل الإسلام بهؤلاء؟ فلو كان نصير نصرانياً لظل على ما هو عليه في زمانه، ولأصبح راهباً من الرهبان موجوداً في منطقة في العراق أو في فارس، لكن انظر كيف من الله عليه وعلى ابنه بعد ذلك وأصبح في حسنات خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه،

    فبعد وفاته بسنوات فتحت بلاد الأندلس والشمال الأفريقي على يد موسى بن نصير رحمه الله، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
    وهذه ثمرة من ثمرات الجهاد الإسلامي في فارس أن فتحت بلاد الأندلس بعد ذلك بعشرات الأعوام، وخالد بن الوليد إن شاء الله مشارك في الأجر لمن فتح بلاد الأندلس، ونصير لما أسلم أخذ يتدرج في الإسلام حتى أصبح عالماً ومجاهداً من المجاهدين، وكان فارساً مغواراً حتى أنه ترقى في المناصب حتى أصبح في زمن الدولة الأموية هو قائد جيوش معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه،

    فتولى القيادة لمدة سنوات كثيرة حتى أن ابنه موسى بن نصير أصبح يتربى في بيت الخلافة مع أولاد معاوية وأولاد الأمراء والخلفاء، فتربى موسى بن نصير على حياة الجهاد والدين ونشر الإسلام وما إلى ذلك، ثم كبر بعد ذلك وأخذ يتولى المناصب حتى أصبح قائد جيوش الأمويين في منطقة مصر، وكان الوالي على مصر عبد العزيز بن مروان أخو عبد الملك بن مروان، ثم بعد ذلك أصبح والياً على أفريقيا في سنة 85هـ، وهو الذي ثبت أقدام الإسلام في أفريقيا بعد ارتداد الناس عن الإسلام، وقد كانوا دخلوا في الإسلام من قبل على يد عقبة بن نافع رحمه الله.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    الأندلس من الفتح إلى السقوط :


    (5) الأخطاء التي وقعت أثناء فتح بلاد المغرب



    الأخطاء التي وقعت أثناء فتح بلاد المغرب العربي والتي تجنبها موسى بن نصير:
    ارتد الناس عن الإسلام فترة من الزمان بعد أن اغتيل عقبة بن نافع في القيروان على يد البربر وهو في طريق عودته من المغرب الأقصى، فنظر موسى بن نصير في سبب ارتداد الناس عن الإسلام بصورة متكررة، فوجد خطأين للسابقين وتجنبهما رحمه الله موسى بن نصير ولذلك ثبت الإسلام في عهده في تلك البلاد بعد ذلك.


    الأمر الأول: أن عقبة بن نافع ومن معه كانوا يفتحون البلاد فتحاً سريعاً، ولا يحمون ظهورهم في أماكن كثيرة إذا توغلوا فيها، فانقلب عليه الناس وأحاطوا به وقتلوه، فبدأ موسى بن نصير يفتح البلاد في هدوء وفي حذر، وبدأ يتقدم خطوة خطوة ويؤمن ظهره ثم يدخل خطوة أخرى ويؤمن ظهره فتم فتح البلاد في 7 سنوات أو في 6 سنوات، بينما عقبة بن نافع فقد تم له الأمر في شهور معدودة.


    الأمر الثاني: أن هؤلاء القوم لم يعرفوا الإسلام حق المعرفة، فبدأ يعلمهم الإسلام، فأتى بالتابعين من منطقة الشام والحجاز ليعلموا الناس الإسلام، فأحب الناس الإسلام ودخلوا في دين الله سبحانه وتعالى أفواجاً، وبدأ يأخذ في صبر شديد يعلم الناس هذا الدين حتى أصبح البربر في المنطقة هم جند الإسلام وأهله.


    موسى بن نصير رحمه الله بعد أن استتب له الأمر في شمال أفريقيا فكر في قوله سبحانه وتعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، فقال: البلاد المجاورة لشمال أفريقيا هي بلاد الأندلس، إذاً: لابد أن أفتح بلاد الأندلس، كان موسى بن نصير رحمه الله قد أتم فتح الشمال الأفريقي كله إلا مدينة سبتة، وهي مدينة من المدن المغربية، تقع على مضيق جبل طارق مباشرة، وبلاد الأندلس يفصل بينها وبين المغرب مضيق جبل طارق، ومضيق جبل طارق ليس مضيقاً هيناً بسيطاً، فإن عرضه في بعض المناطق 13 كيلو ويصل عرضه في بعض المناطق الأخرى 37 كيلو، وعلى ساحله ميناءان شهيران كبيران هما: ميناء طنجة وميناء سبتة.


    فتح كل الشمال الأفريقي ما عدا ميناء سبتة، وميناء طنجة فتح في الإسلام، ولخطورة هذا المكان ولى على ميناء طنجة رجل من القواد المهرة المشهورين جداً في التاريخ الإسلامي وهو طارق بن زياد رحمه الله، وطارق بن زياد من قبائل البربر الأصلية التي تعيش في مناطق الشمال الأفريقي أي: أنه ليس بعربي رحمه الله، ونحن لما تأتي في رءوسنا كلمة البربر نظن أن وجوههم سوداء وأنهم من الزنوج أو ما إلى ذلك.


    فالبربر شعوب شعورهم شقراء وأعينهم زرقاء وألوانهم أبيض حتى أن بعض المحللين يقول: أنهم من أصول أوروبية لأنهم شديدي الشبه بالأوروبيين، كان طارق بن زياد رحمه الله ضخم الجثة، شعره أشقر، عيناه زرقاوان، ومع ذلك فإن كل هذه الأمور لم تقف في طريق جهاده إلى الله سبحانه وتعالى، فتولى طارق بن زياد رحمه الله ولاية مدينة طنجة القريبة جداً من سبتة التي لم تفتح والقريبة من بلاد الأندلس، وموسى بن نصير رحمه الله لما فكر في فتح الأندلس لم تكن هذه الفكرة فكرة جديدة بل هي فكرة قديمة جداً من أيام سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه.


    فالقسطنطينية كانت قد استعصت على الحملات الإسلامية في أيام سيدنا عثمان بن عفان عندما وصل الفتح إلى كل آسيا الصغرى، واستمرت القسطنطينية فترات طويلة لم تفتح إلا بعد قدوم الخلافة العثمانية الراشدة، فقد تم فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح رحمه الله، يقول سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه: إن القسطنطينية إنما تفتح من قبل البحر وأنتم إذا فتحتم الأندلس فأنتم شركاء لمن يفتح القسطنطينية في الأجر، يعني: يريد أن يفتح المسلمون الأندلس ومن ثم يتجه الفاتحون إلى أقصى غرب أوروبا حتى يفتحوا القسطنطينية من الغرب وليس من الشرق من قبل البحر الأسود في ذلك الوقت.



    إذاً: فكرة فتح الأندلس فكرة قديمة راودت المسلمين منذ عهد سيدنا عثمان بن عفان، لكن المسلمون لم يستطيعوا أن يصلوا إلى هذه المنطقة في المغرب العربي إلا في زمن الدولة الأموية في فترة حكم موسى بن نصير على الشمال الأفريقي.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    الأندلس من الفتح إلى السقوط :

    (6) العقبات والعراقيل في فتح بلاد الأندلس


    العقبات والعراقيل التي اعترضت موسى بن نصير في فتح بلاد الأندلس
    كانت المشكلة الأولى عند موسى بن نصير: أن المسافة بين المغرب والأندلس 13 كيلو متر على الأقل، وليس عند المسلمين سفن كافية لعبور هذه العقبة المائية الكبيرة، ومعظم فتوحاتهم كانت برية باستثناء بعض المواقع مثل ذات الصواري وفتح قبرص وما إلى ذلك، وليست لهم سفن ضخمة تحمي الجيوش وتعبر بها مضيق جبل طارق في ذاك الوقت.

    أما المشكلة الثانية: أن جزر البليار في شرق الأندلس كانت مملوكة للنصارى، ولو أن موسى بن نصير فتح الأندلس ستكون هذه الجزر من وراء ظهره، وهو يريد أن يحمي ظهره حتى لا يقع في أخطاء السابقين، فجزر البليار مشكلة بالنسبة له، لازم أن يحلها قبل أن يدخل على بلاد الأندلس.


    المشكلة الثالثة: أن ميناء سبتة الذي يطل على مضيق جبل طارق لم يفتح، ويحكمه رجل اسمه: يوليان أو جوليان، وهو رجل نصراني، وكانت له علاقات طيبة بملك الأندلس الأسبق غيطشة، والذي حدث عليه انقلاب وتولى الحكم في الأندلس من بعده رجل اسمه: لذريق أو ردريكو، لكن العرب كانوا يسمونه لذريق.
    ولم يستطع موسى بن نصير أن يعبر إلى منطقة الأندلس ومن خلفه يوليان الذي كان على خلاف مع لذريق لكن الذي يخشاه هو أنه ينقلب عليه ويساعد لذريق في حربه مقابل أجر مادي أو ما إلى ذلك.


    المشكلة الرابعة: أن قوات الفاتحين المسلمين التي جاءت من جزيرة العرب والشام واليمن قوات محدودة قليلة منتشرة في كل بلاد الشمال الأفريقي، فكيف يأخذ من هذه القوات وينتقل إلى منطقة الأندلس؟ قد تنتقض عليه بلاد الشمال الأفريقي وقد لا يستطيع أن يفتح بلاد الأندلس بهذا العدد القليل من المسلمين.


    المشكلة الخامسة: أن قوات النصارى في الأندلس ضخمة جداً، فقد كانت النصارى تحكم بلاد الأندلس تحت قيادة لذريق، وكانت كميات الجيوش فيها كبيرة، والرجل كان قوياً ومتكبراً، والقوات ضخمة ومعهم عدة كبيرة وقلاع وحصون.


    والمشكلة السادسة: أن أرض الأندلس بالنسبة لـ موسى بن نصير ومن معه مجهولة تماماً، فهي أرض لم تعبرها سفن المسلمين من قبل، فلا يعرفون أي شيء عن أرض الأندلس أو جغرافية الأندلس وما إلى ذلك، وإن كانت الأنباء تترامى أن هذه البلاد صعبة جداً في الفتح؛ لأن الأندلس أرض كلها جبال، والجبال شاقة جداً على الجيوش وبالذات في تلك الآونة لأنهم كانوا يعتمدون على نقل عتادهم بالخيول والبغال والحمير وما إلى ذلك، فكان من الصعب جداً حركة هذه الدواب في الجبال، إضافة إلى أن فيها أنهار وبحيرات كثيرة وهذه تعتبر عوائق ضخمة في عبور الجيوش.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    الأندلس من الفتح إلى السقوط :

    (7) فتح بلاد الأندلس

    فهذه مشاكل ضخمة جداً أمام موسى بن نصير رحمه الله، ومع ذلك فهو يصر على فتح بلاد الأندلس، فقد واجه كل هذه المشاكل الضخمة التي أمامه، ولم يكسل أبداً عن فتح بلاد الأندلس مع كل هذه العوائق، فبدأ في أناة يرتب الأمور، فأول شيء بدأ ينشئ سفناً ويبني مواني، وهذا أمر قد يطول لكن سبحان الله! كان عنده همة عالية جداً،
    فقد بنى أكثر من ميناء في منطقة الشمال الأفريقي أشهرها ميناء القيروان التابع لمدينة القيروان والتي أسسها قبل ذلك عقبة بن نافع رحمه الله، ثم بدأ يعلم البربر الإسلام في مجالس خاصة، ويعطيهم دورات مكثفة لتعليم الإسلام، وبدأ يكون فرقاً من البربر حتى تكون جيش الإسلام.

    وسبحان الله! فإن أي دولة من الدول حاربت غير دول الإسلام مستحيل أن تغير من طبائع الناس وولائهم وحبهم حتى يقاتلوا معها بعد سنتين أو ثلاث سنوات فقط من فتح الإسلام حتى أصبح كل هم معتنقيه أن ينصر هذا الدين، فإن فرنسا استمرت 130 سنة في الجزائر وخرجت منها والناس ما زالوا مسلمين وما زالوا متحمسين للإسلام والصحوة الإسلامية، ونسأل الله سبحانه وتعالى لهم العافية في هذه المشاكل التي تقابلهم في هذه الآونة الأخيرة.


    أما الإسلام فقد انتشر في البربر وبدأ موسى بن نصير يعلم الناس الجهاد في سبيل الله، وبذل النفس لله سبحانه وتعالى، فكثر المسلمون، وصار معظم الجيش الإسلامي الموجود في الشمال الأفريقي من البربر في مدة تتراوح من خمس إلى ست سنوات، فأصبحوا محاربين لهذا الدين، وأصبحوا عماده وجنده.


    الأمر الثالث: ولى طارق بن زياد على قيادة الجيش الإسلامي المتجه إلى فتح بلاد الأندلس، لأنه جمع بين التقوى والورع والكفاءة الحربية والجهاد في سبيل الله والرغبة في أن يموت في سبيل الله، وهو بربري ليس بعربي، فليس لعربي على أعجمي وليس لأعجمي على عربي فضل إلا بالتقوى.


    وقد قدمه موسى بن نصير على العرب لما له من الكفاءة والفضل، إذ ليست دعوة الإسلام دعوة عنصرية أو قبلية، إنما هي دعوة للعالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] صلى الله عليه وسلم.
    ثم إن طارق بن زياد لكونه كان من البربر يستطيع أن يقود البربر، فليس هناك أي موانع نفسية لديه تجاه الإسلام، ثم إنه يفهم لغة البربر ويتقن الحديث باللغة العربية.


    الأمر الرابع: الذي عمله موسى بن نصير والذي يدل على حنكة وحكمة هذا القائد الذي أغفل دوره في التاريخ الإسلامي، هو أنه فتح جزر البليار لأجل أن يأمن ظهره قبل أن يدخل بلاد الأندلس، ففتح جزر البليار وضمها لأملاك المسلمين وأصبح ظهره محمياً من ناحية الشرق إذ أن جزر البليار تقع في شرق بلاد الأندلس في البحر الأبيض المتوسط.


    لكن بقيت عنده مشكلة سبتة، وكان يحكمها يوليان، وسبتة ميناء حصين جداً، ومشكلة أخرى هي مشكلة الجيش البربري، ومشكلة السفن فهو يحتاج إلى سفن كثيرة، فبدأ في بناء السفن في سنة 87 أو 88هـ، وهو لا يعرف أرض الأندلس فإنها مجهولة لديه فيريد يحل كل هذه المشاكل، ولما استنفذ موسى بن نصير الوسع والطاقة وفعل كل ما عليه تدخلت عناية رب العالمين سبحانه وتعالى وتدبيره، قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، ففي قلب يوليان حقد كبير على لذريق حاكم الأندلس في ذلك الوقت؛ لأن لذريق قتل غيطشة الذي كان قبله وكانت هناك علاقات طيبة بين غيطشة ويوليان، وأولاد غيطشة استنجدوا بـ يوليان لكي يساعدهم في حرب لذريق، إذ ليست لهم طاقة بـ لذريق وكذلك يوليان ليست له طاقة بـ لذريق.


    وأيضاً أن أولاد غيطشة كانت لهم ضياع ضخمة في أرض أسبانيا وقد صودرت وأخذها لذريق، الذي أذاق الشعب سوء العذاب، فقد فرض عليهم كثيراً من الضرائب حتى أن شعب أسبانيا كان يكرهه، لأن لذريق كان متنعماً وشعبه في بؤس شديد.


    كل تلك الأفكار خالجت ذهن يوليان، فأرسل رسلاً إلى والي طنجة طارق بن زياد رحمه الله من أجل تتفاوض معه، وهذا من تدبير رب العباد سبحانه وتعالى، فعرض عليه ثلاثة أمور وهي:

    الأمر الأول: أن يسلمه ميناء سبتة،

    الأمر الثاني: أن يمده ببعض السفن لتساعد الجيش في عبور مضيق جبل طارق إلى الأندلس، فـ موسى بن نصير ما كانت عنده سفن كافية،
    الأمر الثالث: أن يعطيه معلومات كافية عن أرض الأندلس، فانحلت كل المشاكل التي كانت تعيق طارق بن زياد والي طنجة وكذا
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    الأندلس من الفتح إلى السقوط :
    (8) معركة وادي برباط الشهيرة


    ثم بدأ هذا الجيش يعبر مضيق جبل طارق في شعبان سنة 92 من الهجرة، ونزلوا على جبل عرف في التاريخ بعد ذلك بجبل طارق والمضيق جبل طارق، ويعرف بهذا الاسم إلى زماننا الحاضر حتى في اللغة الأسبانية بمضيق جبل طارق، ثم انتقل منه إلى الجزيرة الخضراء وهناك قابل الجيش الجنوبي للأندلس وجيش النصارى الضخم، وقد كانت هناك حامية في منطقة الجنوب فقابلها طارق بن زياد رحمه الله وعرض عليهم أموراً وهي:

    إما أن تدخلوا في الإسلام ولكم ما لنا وعليكم ما علينا ونترك كل أملاككم في أيديكم على أن تدينوا بدين الله سبحانه وتعالى، أو تدفعوا الجزية للمسلمين ونترك لكم أيضاً كل ما في أيديكم، أو أن تدخلوا معنا في قتال ولا نؤخركم إلا ثلاثة أيام، هكذا كانت دعوة المسلمين.

    فالنصارى القوط الموجودين في ذاك المكان أخذتهم العزة فتجهزوا لقتال المسلمين، فقاتلهم طارق بن زياد رحمه الله فانتصر عليهم، وقد كانت الحرب إلى حد ما سجالاً بين الفريقين، وقوة النصارى أو قوة القوط في ذاك الزمن لم تكن بالقوة الكبيرة، ولم يكن هو جل الجيش القوطي في هذه المنطقة فانتصر عليهم طارق بن زياد، فأرسل زعيم القوط في تلك المنطقة رسالة سريعة إلى لذريق في طليطلة عاصمة الأندلس في ذلك الزمن، وكانت تقع في منتصف بلاد الأندلس كالقاهرة بالنسبة لجمهورية مصر العربية فإنها تقع في منتصف البلد، فقال في رسالته: أدركنا يا لذريق فإنه قد نزل علينا قوم لا ندري أهم من أهل الأرض أم من أهل السماء؟!

    والشيء الغريب عند أهل الأندلس أنهم يدخلون في دين الإسلام وأن يترك لهم كل شيء، وما كانوا متعودين على ذلك، فهذه السياسة ليست معروفة عندهم، والمعروف عندهم هو أن الفاتح أو المحتل لبلد ما يأخذ من خيراته وأمواله ثم يترك هذا البلد بعد أن يقتل ويذبح أبناء هذا البلد، أما أن يدخلوا ويترك لهم في دينهم كل شيء أو يدفعوا الجزية لهم ويترك لهم كل شيء فهذا لم يعهدوه من قبل، ثم إن المسلمين في ليلهم من القوام لله سبحانه وتعالى، يعني: أنه وجد طائفة عجيبة جداً من البشر فإنهم في الصلاة وكأنهم من الرهبان، وفي القتال وكأنهم من المحاربين الأشداء الذين تمرسوا على القتال طيلة حياتهم، فلا يدري أهل الأندلس أهم من أهل الأرض أم من أهل السماء؟
    وصلت الرسالة إلى لذريق فجن جنونه وأخذه الغرور وجمع من الناس مائة ألف مقاتل، وجاء بهم من الشمال إلى الجنوب، أما طارق بن زياد فإن عدد جيشه سبعة آلاف رجل ليست معهم إلا خيول قليلة، فأرسل رسالة إلى موسى بن نصير يطلب منه المدد، فأرسل له موسى بن نصير خمسة آلاف رجل آخرين رجالة على رأسهم طريف بن مالك رحمه الله الذي اكتشف أرض الأندلس منذ عام قبل ذلك.

    فأصبح جيش المسلمين قوامه 12000 مقاتل، فأخذ طارق بن زياد رحمه الله يتجول في المنطقة ويبحث عن أرض تصلح للقتال حتى وصل إلى منطقة عرفت في التاريخ: بوادي برباط، وتسمى في بعض الكتب: وادي لبتة أو وادي لكة أو وادي لكة، فوجد أن هذا المكان مناسب؛ لأن في خلفه وعن يمينه -أي: في الجنوب والشرق- جبلاً ضخماً يحمي خلفه ويحمي الميمنة فلا يستطيع أحد أن يلتف من حوله، وفي ميسرة الوادي بحيرة عظيمة جداً فلا يستطيع أحد أيضاً أن يلتف من جهة اليسار ثم وضع على المدخل الجنوبي لهذا الوادي فرقة لحمايته بقيادة طريف بن مالك حتى لا يدخل أحد عليهم من هذا المدخل الجنوبي فيباغت ظهر المسلمين، وأصبح أمامه الشمال مفتوحاً للنصارى حتى يستدرج قوات النصارى للحرب في هذه المنطقة فلا يلتف أحد من حوله في هذه الأرض التي تعتبر إلى حد كبير مجهولة بالنسبة للمسلمين مهما درسوها أو عرفوها.
    جاء لذريق ومعه مائة ألف فارس، جاء ومعه البغال محملة بالحبال، لتقييد المسلمين وأخذهم عبيداً بعد موقعة وادي برباط، وقد جلس على سرير محلى بالذهب يحمل على بغلين، وهو يلبس التاج الذهبي والثياب المغشاة بالذهب، فهو لم يستطع أن يتخلى عن دنياه حتى في لحظات القتال والحروب.


    وقد تم اللقاء بينهما في 28 رمضان سنة 92 من الهجرة، والحقيقة أن شهر رمضان شهر معارك أو فتوحات وانتصارات وشهر قيام وصيام وقرآن، ولا يدري الإنسان لماذا تحول شهر رمضان إلى شهر مسلسلات وأفلام جديدة، وفوازير وسهر للفجر، ونوم إلى حد منتصف النهار، وهروب من العمل ومضاربات ومشاكل؟ وأصبحت نفسية الصائم ضيقة، بخلاف المسلمين في ذلك الزمان، فإن رمضان لديهم شهر جهاد، فقد دارت معركة من أشرس المعارك في تاريخ المسلمين وهي موقعة وادي برباط في 28 رمضان لسنة 92هجرية.


    وقد يشفق الناظر إلى الجيشين على جيش المسلمين البالغ عددهم 12000 مقاتل في مقابل 100000 مقاتل من النصارى القوط، لكن الناظر المحلل يجد أن الشفقة كل الشفقة على جيش النصارى في تلك الموقعة، قال تعالى: {هَٰذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ۖ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ}.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    الأندلس من الفتح إلى السقوط :

    (9) مناقشة قضية حرق طارق بن زياد للسفن الحربية

    وقبل الانتقال من موقعة وادي برباط إلى ما بعدها من المواقع في الأندلس نناقش قضية اشتهرت كثيراً في التاريخ الإسلامي والتاريخ الأوروبي وهي قضية حرق طارق بن زياد رحمه الله للسفن التي عبر عليها من المغرب إلى بلاد الأندلس قبل موقعة وادي برباط.

    يقولون: إن طارق بن زياد حرق السفن كلها حتى يحمس الجيش على القتال وقال لهم: البحر من ورائكم والعدو من أمامكم فليس لكم نجاة إلا في السيف، هكذا تصور الرواية.


    وبعض المؤرخين يصدقون الرواية والبعض الآخر يبطلونها، والحق أن هذه الرواية لا يجب أبداً أن تستقيم، فهذه رواية من الروايات الباطلة التي أدخلت على تاريخ المسلمين، والرد عليها كما يلي: أولاً: أن هذه الرواية ليس لها سند صحيح بالنظر إلى الروايات الإسلامية الأخرى، فهناك علم اسمه: علم الرجال، وعلم الجرح والتعديل، ولابد أن تكون الروايات عن أناس موثوقين، فهذه الرواية لم ترد أبداً في كتابات المسلمين الموثوق في تاريخهم، إنما جاءت فقط في الروايات الأوروبية التي كتبت عن موقعة وادي برباط، فهذه الرواية ليس لها سند صحيح.


    ثانياً: أنه لو حدث حرق لهذه السفن كان سيكون هناك رد فعل من موسى بن نصير أو الوليد بن عبد الملك؛ لأن هذا أمر غريب جداً أن قائداً يحرق سفنه، وقد يكون هنالك حوار بين موسى بن نصير وطارق بن زياد حول هذه القضية، أو يكون هناك تعليق من الوليد بن عبد الملك أو من علماء المسلمين، هل يجوز هذا الفعل أم لا؟ فلذلك خفي تماماً رد الفعل لهذه الحادثة في كتب العلماء مما يعطي شكاً كبيراً في حدوثها.


    ثالثاً: أن المصادر الأوروبية أشاعت هذا الخبر لأمر واضح جداً، وهو أن المحللين الأوبيين ما استطاعوا أبداً أن يفسروا كيف ينتصر 12000 من الرجال الذين ليس معهم خيول على 100000 فارس وهم في بلادهم وفي عقر دارهم وفي أرض عرفوها وألفوها، وكيف ينتصر هؤلاء القلة على هذه الكثرة العظيمة جداً من البشر؟ فقالوا: إن طارق بن زياد حرق سفنه وأصبح أمام المسلمين حل واحد فقط للهروب من الموت، ولذلك استماتوا في القتال فانتصروا، أما لو لم يحرق السفن فإنهم قد ينسحبون من البلاد ويرجعون إلى بلادهم، وهذا لأن الأوروبيين لا يستطيعون أبداً أن يفقهوا القاعدة الإسلامية المشهورة والمعروفة والمسجلة في كتابه سبحانه وتعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249].


    والناظر إلى صفحات التاريخ الإسلامي يجد أنه من الطبيعي جداً أن ينتصر المسلمون بأعداد قليلة على غيرهم من الجيوش، بل إن الأصل المتكرر في معظم المعارك الإسلامية أن يكون المسلمون أقلة والكافرون كثرة، ويهزم أعداء المسلمين بهذا العدد القليل من المسلمين، بل إنه من العجب العجاب أنه لو زاد المسلمون في العدد كتبت عليهم الهزيمة كما حدث في حنين، قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25]، وهذا الأمر سوف نتعرض له إن شاء الله في حوادث الأندلس اللاحقة.
    إذاً: الأوروبيون يحاولون أن يشيعوا هذه الشائعة حتى يدخلوا في روع الناس أن المسلمين ما انتصروا إلا لظروف خاصة جداً، وليس من الطبيعي أن ينتصروا.


    رابعاً: أن المسلمين ما هم محتاجون للتحميس بحرق السفن، فقد جاءوا إلى هذه الأماكن راغبين في الجهاد في سبيل الله، وطالبين للموت في سبيل الله، فما يحتاج القائد أن يحرق السفن لكي يشجعهم في سبيل الله! وبعض الناس يقولون: هذا الحدث مسبوق بما حدث قبل هذا في فتح الفرس لليمن، فإن القائد الفارسي الذي فتح اليمن حرق السفن لكي يحمس الجنود الفرس،
    و
    الجواب
    هذا ممكن يحصل من القائد الفارسي أن يحمس الناس بحرق السفن، وقد كان الفرس يجبرون جنودهم على الحرب ضد المسلمين بربطهم في سلاسل كما حصل في موقعة ذات السلاسل المشهورة، وقد كان قائد جيش المسلمين خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه.
    وهذا ممكن أن يحصل بالنسبة لأهل الدنيا، أما جيش المسلمين فما هو محتاج لهذا التحميس عن طريق هذا الحرق.
    خامساً لا يعقل أن قائداً محنكاً مثل طارق بن زياد رحمه الله يحرق سفنه، ويحرق خط الرجعة عليه، وماذا يصنع لو هزم في هذه الموقعة؟ وهذا أمر وارد جداً، فالأيام دول، فقد تحدث الكرة على المسلمين لفترة من الفترات، وربنا سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}[الأنفال:15 - 16].

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط


    الأندلس من الفتح إلى السقوط :

    (10) بيان القول في الجزية


    الجزية: هي ضريبة يدفعها أهل الكتاب بصفة عامة أو يدفعها المجوس أو المشركون في رأي بعض الفقهاء وإن كان هذا هو الرأي الغالب أنهم يدفعونها مقابل أن يدافع عنهم المسلمون، ولا يحمل الذين يدفعون الجزية سلاحاً ليدافعوا به عن أنفسهم، لكن على المسلمين أن يدافعوا عنهم مقابل هذه الجزية، بل إن فشل المسلمون في الدفاع عنهم ردت إليهم الجزية، وقد تكرر ذلك في بعض المواقف في التاريخ الإسلامي وسنتعرض لها إن شاء الله في أحاديث لاحقة.


    والجزية تؤخذ فقط من الرجال والبالغين لا النساء والأطفال، وتؤخذ من الأصحاء لا المرضى الغير قادرين على القتال وأصحاب العاهات كالأعمى والكسيح، ولا تؤخذ من المعتكف للعبادة والذي لا يقاتل، ولا تؤخذ إلا من القادرين على القتال والغني لا الفقير، بل إن الفقير الذي هو من أهل الكتاب نصرانياً كان أو يهودياً أو مشركاً قد يأخذ من بيت مال المسلمين إن كان في بلد تحكم بالإسلام، والجزية في مقابل الزكاة التي يدفعها المسلمون ومع ذلك فهي أقل بكثير مما يدفعه المسلمون، إذا أن الرجل الذمي يدفع ديناراً واحداً في السنة الكاملة جزية للمسلمين بينما المسلم يدفع زكاة 2.
    5% من إجمالي الدخل الذي عنده إن كان قد بلغ نصاباً وحال عليه الحول.


    فالمبالغ التي يدفعها المسلمون في الزكاة أضعاف ما يدفعه أهل الكتاب وغيرهم من الجزية، وفي حالة إذا أسلم الذمي سقطت عنه الجزية، وإذا شارك مع المسلمين في حروبهم دفعوا له أجرة على حربه مع المسلمين، والجزية أقل بكثير من الضرائب التي كان يفرضها عليهم أصحاب الحكم في بلادهم والذين كانوا من أبناء جلدتهم ومن أبناء شعوبهم، والجزية أقل من أي ضريبة في العالم، بل إن الزكاة نفسها أقل من أي ضريبة في العالم، فلا يوجد في الدنيا من يدفع ضريبة 2.
    5% فقط، بل الناس إن يدفعون 10 و20 و30 و50% وأحياناً 70% ضرائب، بينما الزكاة والجزية في الإسلام أقل من ذلك، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ألا يكلف أهل الكتاب فوق طاقتهم، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: «من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه» صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.


    فالإسلام دين رحمة، لغير المسلمين فهو يدافع عنهم، وكانوا يستفيدون من كل مقدرات البلد في مقابل هذه الجزية البسيطة التي يدفعونها للمسلمين.
    وإن شاء الله في المقال القادم نكمل الفتوح مع طارق بن زياد وموسى بن نصير كيف تم لها فتح بلاد الأندلس؟ وكيف كان رد فعل موسى بن نصير من هذه الانتصارات المتتالية لـ طارق بن زياد؟ وكيف دخل المسلمون بلاد فرنسا وكانت لهم فيها صولات وجولات؟ وكيف وصلوا إلى مسافة 30 كيلو متر فقط من باريس التي هي في أقصى شمال فرنسا؟ وكيف تأسس ما يسمى في التاريخ بعهد الولاة؟ هذا ما نتحدث عنه إن شاء الله في الحلقة القادمة.
    أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم وجزاكم الله خيراً كثيراً.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    الأندلس من الفتح إلى السقوط :

    (11) فتح طارق بن زياد لمدينة إشبيلية وإستجة وغيرهما

    تحدثنا في المقالات السابقة عن حلقة مجيدة جداً من حلقات التاريخ الإسلامي، ورأينا صفحة من صفحات التاريخ المشرق للمسلمين، وكيف أنهم انتصروا انتصارات باهرة على قوات النصارى الموجودة في الأندلس؟

    فقد استطاع طارق بن زياد رحمه الله باثني عشر ألفاً من الرجال عديمي الخيول أن ينتصروا على مائة ألف فارس من النصارى في موقعة وادي برباط الشهيرة؛ واستشهد من المسلمين (3000) رجل، وهذا يمثل ربع الجيش المسلم، ومع ذلك لم يفت ذلك في عضد طارق بن زياد رحمه الله، بل انطلق من وادي برباط إلى الشمال ليفتح المدينة تلو المدينة، وكانت المدينة العظيمة التالية لمنطقة وادي برباط هي مدينة إشبيلية، وهذه المدينة مع حصانتها وقوتها ومجدها وحاميتها دفعت الجزية وفتحت أسوارها لـ طارق بن زياد رحمه الله؛ وذلك مصداق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر».

    وبعد فتح إشبيلية توجه طارق بن زياد رحمه الله إلى مدينة إستجة، وهي أيضاً من مدن الجنوب، أي: وادي برباط وإشبيلية وإستجة وغيرها من المدن في منطقة الجنوب، ونحن نعلم أن منطقة الجنوب الأندلسي هي المنطقة الملاصقة لمنطقة المغرب العربي، وفي منطقة إستجة قاتل المسلمون قتالاً عنيفاً، ولكنه بلا شك أقل من قتال وادي برباط؛ لأن معظم قوة النصارى كانت قد هلكت في وادي برباط، ثم قبل أن ينتصر المسلمون في أواخر الموقعة فتح النصارى أبوابهم وصالحوا على الجزية، وهناك فرق بين أن يصالح النصارى على الجزية وبين أن يفتح المسلمون المدينة فتحاً؛ لأنه لو فتح المسلمون هذه المدينة لأخذوا كل ما فيها وملكوا البلد، أما إن صالح النصارى على الجزية، فإنهم يملكون ما يملكون ولا يدفعون إلا الجزية، والتي تقدر بدينار واحد في كل عام على الرجل القادر المستطيع للقتال الغني، فلا تفرض الجزية على المرأة، والوليد الصغير، والمعتكف للعبادة، والضعيف غير القادر على القتال، والأعمى، والكسيح، وهكذا فإنها لا تفرض إلا على المستطيعين للقتال فقط.


    وكان عدد جيش طارق بن زياد 9000 مقاتل فقط، فأرسل السرايا لفتح المدن الجنوبية الأخرى، وانطلق بقوة الجيش الرئيسية في اتجاه الشمال، حتى وصل إلى طليطلة عاصمة الأندلس في ذلك الزمان، فبث سرية إلى قرطبة، وسرية إلى غرناطة، وسرية إلى ملقة، وسرية إلى مرسية، فهذه مدن الجنوب المنتشر على ساحل البحر الأبيض المتوسط، والموجودة بالقرب من مضيق جبل طارق، مع العلم أن كل سرية لا يزيد عدد الرجال فيها عن (700) رجل، ومع ذلك فقد فتحت قرطبة -على الرغم من عظمتها وكبرها- بسبعمائة رجل فقط من المسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر»، وقال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].

    ثم توجه طارق بن زياد رحمه الله اتجاه الشمال حتى فتح مدينة أخرى تسمى مدينة جيان، وهي من المدن الحصينة جداً للنصارى في ذلك الزمن.
    ويبدو أن موسى بن نصير رحمه الله كان قد أوصى طارق بن زياد ألا يتجاوز مدينة جيان وقرطبة، وأمره ألا يسرع في الفتح حتى يصل إلى طليطلة؛ وذلك حتى لا يحاصره جيش النصارى بعد أن يتقدم بجيشه القليل البسيط في العدة والعتاد والذي يبلغ (9000) رجل فقط، لكن طارق بن زياد وجد الطريق أمامه مفتوحاً إلى طليطلة العاصمة، وهي أحصن مدن النصارى على الإطلاق، وفيها من الضعف الشديد للنصارى، فلو هاجمها فقد تفتح، وإن امتنع عن فتحها كما هو رأي موسى بن نصير فقد لا يستطيع أن يفتحها مرة أخرى، فاجتهد طارق بن زياد رحمه الله فخالف رأي الأمير الأعلى موسى بن نصير، والأفضل في هذا الموقف أن يستشير طارق بن زياد مرة أخرى موسى بن نصير، ويرسل له رسالة يبين له فيها أنه يرى أن الطريق مفتوح، وأنه سوف يفتح طليطلة، فما رأيه وما رده على ذلك، لكن طارق بن زياد أسرع في اتجاه طليطلة دون استئذان من موسى بن نصير رحمه الله، فعلم موسى بن نصير بتقدم طارق بن زياد إلى طليطلة، ولكن لطول المسافات لم يستطع أن يلحق بـ طارق بن زياد إلا بعد أن وصل إلى طليطلة، فوجد طارق بن زياد طليطلة المدينة الحصينة جداً من أحسن وأحصن مدن الأندلس على الإطلاق، محاطة بجبال طبيعية.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط


    الأندلس من الفتح إلى السقوط :

    (12) رسالة الوليد لموسى بن نصير بالعودة مع طارق بن زياد

    رسالة الوليد بن عبد الملك لموسى بن نصير بالعودة مع طارق بن زياد إلى دمشق
    كان موسى بن نصير رحمه الله يريد أن يفتح منطقة الصخرة، لكن وصلته رسالة من دمشق من الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين في ذلك الوقت، يطلب منه ومن طارق بن زياد أن يعودا إلى دمشق ولا يستكملا الفتح، فحزن موسى بن نصير حزناً شديداً لهذا الطلب؛ لأنه لم يكمل الفتح، وكان رأي الوليد بن عبد الملك أن المسلمين قد توغلوا كثيراً في بلاد الأندلس في وقت قليل، وخشي رحمه الله أن يلتف النصارى من جديد حول المسلمين، فإن قوة المسلمين مهما تزايدت في تلك البلاد فهي قليلة، فلا يريد أن يتوغل المسلمون أكثر من ذلك.


    وهناك أمر آخر وهو صحيح: وهو أن سبب إصرار الوليد بن عبد الملك على استجلاب موسى بن نصير وطارق بن زياد إلى دمشق، هو أنه قد وصل إلى علمه أن موسى بن نصير رحمه الله يريد بعد أن ينتهي من فتح بلاد الأندلس أن يفتح كل بلاد أوروبا، حتى يصل إلى القسطنطينية من الغرب، فإن مدينة القسطنطينية كانت قد استعصت على المسلمين من الشرق، فإن جيوش الدولة الأموية لم تستطع أن تفتحها.


    وفعلاً فإن موسى بن نصير هذا الرجل العجيب كان يفكر في أن يخوض كل بلاد أوروبا؛ فيفتح فرنسا ثم إيطاليا ثم يوغسلافيا ثم رومانيا ثم بلغاريا ثم تركيا حتى يصل إلى القسطنطينية، فيفتحها من الغرب، ويتوغل بكل هذا الجيش الإسلامي في هذا العمق العجيب في قارة أوروبا، منقطعاً عن كل مدد، وهذا أمر أرعب الوليد بن عبد الملك، فإن هذا الجيش لو احتاج إلى مدد، فإنه سيحتاج إلى شهور، بل وسنوات حتى يصله هذا المدد، لما يفصل بينها وبين المسلمين من مسافات ضخمة من بحار وجبال وأراض واسعة، وخشي الوليد بن عبد الملك على جيش المسلمين من الهلكة.


    وقد كان موسى بن نصير يبلغ من العمر (75) سنة، فهو شيخ كبير، ومع ذلك كان يركب الخيول ويجاهد في سبيل الله، ويفتح المدينة تلو المدنية ويحاصر إشبيلية شهوراً، ثم يحاصر مردا شهوراً، ثم يفتح برشلونة وسرقسطة والشمال الشرقي، ثم يتجه إلى الشمال الغربي ويحاصر الصخرة، ثم يريد أن يفتحها ويتجه إلى فرنسا وإيطاليا وغيرها، حتى يصل إلى القسطنطينية، فأي همة عند هذا الشيخ الكبير موسى بن نصير؟ أما في زماننا فإن من بلغ هذا السن فإنه يصبح مقعداً غير عامل في المجتمع، ويعتبر أن رسالته قد انتهت، فمن لتعليم الأجيال، ولتوريث الخبرات، ولتصحيح المفاهيم؟ إذاً: حزن موسى بن نصير حزناً شديداً على أمر الوليد بن عبد الملك له بتركه لأرض الجهاد، فقد كان متشوقاً جداً إلى الجهاد؛ ولأن الصخرة التي في أقصى الشمال الغربي من بلاد الأندلس لم تفتح بعد؛ ولأنه لم يستكمل فتح القسطنطينية من قبل الغرب، ثم لم يجد إلا أن يسمع ويطيع للوليد بن عبد الملك رحمه الله، فقطع المسافات الطويلة في شهور حتى وصل إلى دمشق، وهناك وجد الوليد بن عبد الملك في مرض الموت، وما هي إلا ثلاثة أيام ومات الوليد بن عبد الملك رحمه الله، وتولى الخلافة من بعده سليمان بن عبد الملك والذي كان على فكر أخيه؛ فقد رفض أن يعيد موسى بن نصير خشية أن يستكمل الفتوح داخل بلاد أوروبا ويصل إلى القسطنطينية في حركة عسكرية قد تؤدي إلى هلاك الجيش الإسلامي، فأبقاه عنده في دمشق، وأبقى طارق بن زياد كذلك.


    وبعدها بعام ذهب سليمان بن عبد الملك إلى مكة للحج، فـ موسى بن نصير اشتاق للحج، لأنه منذ سنوات طويلة وهو في أرض الجهاد، يفتح البلاد ويعلم الناس الإسلام أكثر من عشر سنين، فتشوق للحج فرافق سليمان بن عبد الملك إلى الحج في عام (97) من الهجرة، وفي طريقه إلى هناك قال: اللهم إن كنت تريد لي الحياة، فأعدني إلى أرض الجهاد وأمتني على الشهادة، وإن كنت تريد لي غير ذلك فأمتني في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    فحج ثم سافر إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات فيها.


    فهذا حال القلوب الموصولة برب العالمين سبحانه وتعالى، وهذا من حسن الخواتيم، فقد وصل إلى هذه المرتبة العظيمة بحيث يدعو ربه سبحانه وتعالى فيستجيب لدعائه، فيموت في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدفن هناك مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه همة عظيمة جداً، فهو نبراس لكل المسلمين.
    الأمر اللافت للنظر في التاريخ أن طارق بن زياد رحمه الله انقطعت أخباره بالكلية عند هذه المرحلة، فقد عاد إلى دمشق مع موسى بن نصير، لكن لا أحد يدري هل عاد مرة أخرى إلى بلاد الأندلس، أم أنه بقي في بلاد دمشق؟ وإن كان هناك بعض الروايات التي لا يثق المؤرخون من صحتها أنه قد مات في عام 102 من الهجرة، يعني بعد هذا الرجوع بحوالي بخمس أو ست سنوات.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط


    الأندلس من الفتح إلى السقوط :

    (13) عهد الولاة في بلاد الأندلس


    نستطيع أن نقسم عهد الولاة بحسب طريقة الإدارة والحكم إلى فترتين رئيسيتين: الفترة الأولى: هي فترة جهاد وفتوح وفترة عظمة للإسلام والمسلمين، وهذه تمتد من سنة (96) هجرية إلى سنة (123) من الهجرة، أي: أنها استمرت (27) سنة.
    الفترة الثانية: هي فترة ضعف ومؤامرات ومكائد وما إلى ذلك، فتستمر من سنة (123) من الهجرة إلى سنة (138) من الهجرة، يعني: (15) سنة.


    بعد فترة عهد الفتح بدأ عهد جديد يسمى: عهد الولاة، بدأ بعد رجوع موسى بن نصير وطارق بن زياد إلى دمشق، أي: من سنة (96) من الهجرة ويستمر حتى سنة (138) من الهجرة، أي: حوالي (42) سنة، وعهد الولاة هو أن يتولى حكم الأندلس في هذه الفترة وال يتبع الحاكم العام للمسلمين وهو الخليفة الأموي الموجود في بلاد الشام في دمشق، ويعتبر سليمان بن عبد الملك في أول عهد الولاة، ثم توالى من بعده الحكام من بني أمية؛ عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك وهكذا إلى آخر الدولة الأموية.

    وكان أول الولاة على منطقة الأندلس هو عبد العزيز بن موسى بن نصير بأمر من سليمان بن عبد الملك رحمه الله، وهذا الرجل كان كأبيه في جهاده وتقواه وورعه كما يقول عنه أبوه موسى بن نصير: لقد عرفته صواماً قواماً، وكان مجاهداً في سبيل الله، ووطد الأركان بشدة في منطقة الأندلس، وتوالى من بعده الولاة.


    تولى من الولاة على منطقة الأندلس خلال (42) سنة حوالي (22) أو (20) والياً، يعني: أن كل وال لا يحكم إلا سنتين أو ثلاثاً، فلماذا هذا التغيير المفاجئ للولاة والتغيير الكثير في الولاة؟ مما لا شك فيه أن هذا التغيير الكثير بسبب استشهاد كثير من الولاة في معاركهم في بلاد فرنسا، وأما في الفترة الثانية من عهد الولاة، فكان الولاة يغيرون بالمكائد والانقلابات والمؤامرات وما إلى ذلك، فالفترة الأولى تختلف بالكلية عن الفترة الثانية.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    الأندلس من الفتح إلى السقوط :

    (14) مميزات الفترة الأولى وأبرز سماتها
    تميزت الفترة الأولى من فترة الولاة ببعض الصفات:
    أولاً: نشر الإسلام في بلاد الأندلس، بعد أن تمكن المسلمون من توطيد أركان الدولة في بلاد الأندلس، بدأ المسلمون يعلمون الناس الإسلام، والفطرة السوية تختار هذا الدين بلا تردد، فقد وجد الأستان في هذا الدين ديناً متكاملاً شاملاً ينظم كل أمور الحياة؛ وعقيدة واضحة، وعبادات منتظمة، وتشريعات في السياسة وفي الحكم وفي التجارة وفي الزراعة وفي المعاملات، وتواضعاً للقادة، وتفاصيل عن كيفية التعامل مع الوالدين والأقارب والأولاد والجيران والأصدقاء، ومن عرفت ومن لا تعرف، وكذا مع الأعداء والأسرى،
    فهذه تفاصيل عجيبة جداً ما تعودوا عليها من قبل، هم تعودوا فصلاً كاملاً بين الدين والدولة؛ فالدين عندهم عبارة عن بعض المفاهيم اللاهوتية غير المفهومة، فيأخذونها ولا يستطيعون أبداً تطبيقها، أما التشريعات والحكم فيشرعها لهم من يحكمهم من الناس، أما الإسلام فقد وجدوا فيه أمراً عجيباً لم يستطيعوا أبداً أن يتخلفوا عن الارتباط بهذا الدين، فدخلوا في الإسلام أفواجاً، وفي فترات قليلة جداً من فتح الأندلس أصبح عموم أهل الأندلس من المسلمين، حتى إن غالبية المسلمين في بلاد الأندلس من أهل الأندلس الأصليين، وأصبح العرب والبربر قلة في هذه البلاد، لكن هذا أبداً ما غير الحكم في بلاد الأندلس، بل أصبح أهل الأندلس هم جند الإسلام وأعوان هذا الدين، وهم الذين اتجهوا إلى فتوحات بلاد فرنسا بعد ذلك، وبدأ المسلمون يتزوجون من الأندلسيات، فتكون جيل جديد؛ الأب من العرب أو البربر والأم من الأندلسيات، ونشأ جيل عرف في التاريخ باسم جيل المولدين، الأب عربي أو بربري والأم أندلسية.

    ثانياً: بدأ المسلمون في الأندلس يلغون الطبقية، فقد جاء الإسلام وساوى بين الناس، حتى إن الحاكم والمحكوم كانا سواء بسواء أمام القضاة للتحاكم في المظالم، وقد أتاح المسلمون في هذه الفترة الحرية العقائدية للنصارى وتركوا كنائسهم، وإذا وافق النصارى على بيع كنيسة من الكنائس اشتراها المسلمون ولو بأثمان باهظة ثم يحولونها إلى مسجد، أما إن رفضوا أن يبيعوا كنائسهم تركوها لهم وما هدموها أبداً، فانظر إلى هذا الأمر من أجل أن تقارن بين ما سيفعله النصارى في آخر عهد المسلمين في بلاد الأندلس، فيما عرف بمحاكم التفتيش بعد انتهاء الحكم الإسلامي في بلاد الأندلس.


    ثالثاً: اهتم المسلمون أيضاً في هذه الفترة الأولى بتأسيس الحضارة المادية، وبتأسيس الإدارة والعمران، وبنشر الكباري والقناطر، وأنشئوا قنطرة عجيبة جداً تسمى قنطرة قرطبة، وهي من أعجب القناطر الموجودة في أوروبا في ذلك الزمن، وأنشئوا مصانع كبيرة للأسلحة، ومصانع لصناعة السفن، وبدأت القوى الإسلامية تقوى في هذه المنطقة.


    رابعاً: من السمات المهمة جداً في عهد الولاة: أن الأسبان بدءوا يقلدون المسلمين في كل شيء، حتى أصبحوا يتعلمون اللغة العربية، وكذا الأسبان النصارى واليهود الذين كانوا يعيشون في هذه الفترة بدءوا يفتخرون بتعليم اللغة العربية في مدارسهم، وهذا لأن الأمم المهزومة تقلد الأمم المنتصرة، أما الآن فنحن نتلقى في بعض المدارس تعلم اللغة الإنجليزية، بل إن بعض المدارس الإسلامية بدأت تقيم مدارس لتعليم الأولاد اللغات في داخل البلاد الإسلامية، وتعلم الناس كل المناهج باللغة الإنجليزية؛ وهذه فتنة الحضارة الغربية والتقدم الغربي الآن، فيتركون اللغة التي شرفها الله سبحانه وتعالى بأن جعلها لغة القرآن الكريم ولغة أهل الجنة.

    أما الأسبان فهم معذورون في تعلم اللغة العربية؛ لأنها لغة القرآن، ووجدوا أمة غالبة ومتحضرة تتكلم بهذه اللغة، أما نحن فلا عذر لنا وقد تعلمنا اللغة التي شرفها الله سبحانه وتعالى بالقرآن الكريم.

    خامساً: من سمات هذه الفترة: أنهم اتخذوا قرطبة عاصمة لهم، بدلاً من طليطلة عاصمة بلاد الأندلس سابقاً؛ لأن منطقة طليطلة كانت في الشمال وهي قريبة من بلاد فرنسا ومن منطقة الصخرة، فكانت غير آمنة أن تكون هي العاصمة، فاختار المسلمون مدينة قرطبة؛ لأنها في الجنوب؛ ولأنها قريبة من المدد في بلاد المغرب.
    ومن الأشياء الهامة جداً في هذه الفترة والمميزة لهذه الفترة الأولى في عهد الولاة هو الجهاد في فرنسا، فقد كان له خطوات كبيرة في تاريخ المسلمين في الفترة الأولى من عهد الولاة.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط


    الأندلس من الفتح إلى السقوط :

    (15) ذكر ولاة الفترة الأولى وجهادهم
    نذكر في هذه الفترة بعض الولاة الذين كان لهم السبق في موضوع الجهاد في بلاد فرنسا، وعلى سبيل المثال: السمح بن مالك الخولاني رحمه الله، كان والياً في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، الذي حكم المسلمين من سنة (99هـ - 101هـ) أي: سنتين وستة أشهر على الأكثر، وفي هذه الفترة القليلة عم الرخاء والأمن والعدل في بلاد المسلمين، وكانت اختيارات عمر بن عبد العزيز موفقة رحمه الله؛ فاختار السمح بن مالك الخولاني القائد الرباني المشهور في التاريخ الإسلامي، وهو الذي انطلق إلى بلاد فرنسا، والتي كان فيها مدينة واحدة إسلامية وهي مدينة أرجونة التي فتحها موسى بن نصير بسرية من السرايا، ففتح السمح بن مالك الخولاني كل منطقة الجنوب الغربي لفرنسا، وأسس مقاطعة: ضخمة جداً اسمها مقاطعة سبتمانيا، وتعرف هذه المقاطعة الآن بساحل الريفيرا الموجود في فرنسا، وكثير من المسلمين الآن يذهبون إلى منطقة الريفيرا للتنزه وللجلوس على شواطئ هذه المناطق، التي تعتبر من أشهر المنتجعات السياحية في العالم، لكن انظر ماذا فعل المسلمون في السابق؟ فقد دخلوا هذه البلاد فاتحين، وحكموا منطقة الريفيرا بشرع الله سبحانه وتعالى، ودامت لهم السيطرة عليها سنوات عديدة.
    واستكمل السمح الفتوح، وأرسل من يعلم الناس الإسلام سواء في فرنسا أو في منطقة الأندلس، ثم لقي ربه شهيداً رحمه الله، وكان استشهاده في يوم عرفة سنة (102) هجرية.


    وتولى من بعده بعض الولاة، ومنهم عنبسة بن سحيم رحمه الله، وكثير من الناس لا يسمعون عن هذا الرجل القائد التقي الورع الإداري العسكري المسلم المشهور في التاريخ الإسلامي، كان مجاهداً حق الجهاد، حكم المسلمين في بلاد الأندلس من سنة (103) إلى سنة (107) هجرية، ووصل في جهاده إلى ، والتي تبعد (30) كيلو متر من باريس في أقصى شمال فرنسا، ومعنى ذلك أن عنبسة بن سحيم رحمه الله قد فتح (70%) من أراضي فرنسا، ومن قبله السمح بن مالك الخولاني رحمه الله، ثم استشهد عنبسة بن سحيم وهو في طريق عودته.


    ثم بدأت الأمور تتغير في بلاد الأندلس، فقد تولى من بعد عنبسة بن سحيم مجموعة من الولاة، كان آخرهم الهيثم الكلابي، كان متعصباً لقومه ولقبيلته، فبدأت تحدث خلافات بين المسلمين العرب والمسلمين البربر بحسب العرق والعنصر، وهذا أمر لم يحدث في تلك المناطق من قبل، فدارت مشاحنات، ومعارك بين العرب والبربر في هذه المنطقة.



    ثم من الله على المسلمين بـ عبد الرحمن الغافقي رحمه الله، الذي ألغى العصبيات، وأعاد الدين من جديد، ووحد الصفوف، وبدأ يبث في الناس روح الإسلام الأولى التي جمعت بين البربر والعرب، والتي لم تفرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    الأندلس من الفتح إلى السقوط :

    (16) معركة بلاط الشهداء وأسباب هزيمة المسلمين فيها



    بعد أن وحد عبد الرحمن الغافقي الناس وظن أن القوة قد اكتملت أخذ هؤلاء الناس وانطلق بهم ناحية فرنسا ليستكمل الفتوح من جديد، ودخل مناطق لم يدخلها السابقون، فقد فتح أقصى غرب فرنسا، وأخذ يفتح المدينة تلو المدينة؛ وفتح مدينة آرل، ثم مدينة بوردو، والتي تسمى الآن بهذا الاسم، ثم مدينة طلوشة، ثم مدينة تور، ثم وصل إلى بواتييه غرب باريس، والتي تبعد عنها حوالي مائة كيلو متر، وتبعد من قرطبة حوالي (1000) كيلو متر، فقد توغل جداً في بلاد فرنسا في اتجاه الشمال الغربي، وهناك في مدينة بواتييه عسكر عند منطقة تسمى البلاط، والبلاط في اللغة الأندلسية تعني القصر، فإن هذه المنطقة كان فيها قصر قديم مهجور، وبدأ ينظم جيشه ليلاقي جيش النصارى، وكانت حملة عبد الرحمن الغافقي أكبر حملة تدخل بلاد فرنسا، فقد وصلت إلى خمسين ألف مقاتل، ما وصل إليها المسلمون قبل ذلك الوقت.

    والمشكلة الخطيرة في جيش عبد الرحمن الغافقي هي تعلق قلوبهم بالغنائم الكثيرة التي غنموها، وافتتانهم بتلك الأموال الضخمة التي حصلوها من بلاد فرنسا، واشتهرت بين الناس فكرة العودة إلى أرض الأندلس لوضع هذه الغنائم هناك حتى لا يأخذها الفرنسيون، لكن عبد الرحمن الغافقي رحمه الله جمع الناس وقال لهم: ما جئنا لأجل هذه الغنائم، ما جئنا إلا لتعليم هؤلاء الناس هذا الدين، ولتعبيد العباد لرب العباد سبحانه وتعالى، وأخذ يحفز الجيش ويحضهم على الجهاد في سبيل الله، وعلى الموت في سبيله سبحانه وتعالى، وأخذ الجيش وانطلق إلى بواتييه رغماً عن أنف الجنود، وعندما وصل إلى منطقة بواتييه ظهرت أمور جديدة في الجيش وهي العصبيات التي كانت في بلاد الأندلس بين العرب والبربر، فقد تجددت من جديد، بسبب الغنائم الكثيرة التي لم توزع.


    فبدأ الناس يختلفون، وكل واحد ينظر إلى ما في يد أخيه، وكل واحد يريد الشيء الأكثر، وكل واحد يرى نفسه أو نسبه أفضل من الآخر، فالعربي يقول: أنا عربي وأنت بربري والعربي أفضل، والبربر قالوا: نحن الذين فتحنا البلاد، ونسي الناس أن الفاتحين السابقين ما فرقوا أبداً عند الفتح وعند الدعوة إلى الله سبحانه في تلك البلاد بين عربي وبربري، وبين هؤلاء الفاتحين وبين الأندلسيين الذين دخلوا في الإسلام بعد ذلك، فلم يفرقوا إلا بحساب التقوى.


    فبدأت هذه المشاكل تظهر في الجيش، فاجتمعت العصيبة، واجتمع حب الغنائم والخوف عليها، كما اجتمع إلى جوار ذلك الاعتداد بالعدد الضخم؛ الذي لم يسبق في تاريخ الأندلس، فأخذتهم العزة بهذا العدد، وظنوا أنهم لن يغلبوا.
    ومن جديد تعود موقعة حنين الجديدة، قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25]، وللأسف الشديد مع وجود هذا القائد الرباني المجاهد التقي الورع، إلا أن عوامل الهزيمة الكثيرة كانت موجودة في داخل جيش المسلمين، من حب الغنائم، والعصيبة القبلية العنصرية، والاعتداد بالأرقام والأعداد والعدة والعتاد، والمسلمون ما انتصروا أبداً بعدتهم ولا عتادهم، وإنما بطاعتهم لله ومعصية عدوهم لله سبحانه وتعالى.


    أما جيش النصارى فقد أتى من باريس بقيادة شارل مارتل، ويلقب عند العرب بقارلة، وينطقونه تشار قارلة، وكلمة مارتل لقب وتعني المطرقة، وقد سماه بها بابا إيطاليا؛ لأنه كان شديداً على أعدائه، وكان من أقوى حكام فرنسا على الإطلاق، وأتى شارل مارتل بأربعمائة ألف مقاتل من النصارى، أي: ثمانية أضعاف الجيش المسلم، والمسلمون أبداً ما كانت تهزهم هذه الأرقام، لكن جيش المسلمين فيه عوامل الضعف.


    والتقى الجيشان في موقعة من أشرس المواقع الإسلامية على الإطلاق في منطقة بواتييه؛ دارت الموقعة بينهما عشرة أيام كاملة، وكانت في رمضان سنة (114) هجرية، وكانت في بداية الموقعة الغلبة للمسلمين على قلة عددهم، لكن النصارى في آخر الموقعة فطنوا إلى كمية الغنائم الضخمة المحملة خلف الجيش الإسلامي، فالتفوا حول الجيش وهاجموا الغنائم، وبدءوا يسلبون غنائم المسلمين، فارتبك المسلمون وأسرعوا ليحموا الغنائم الكثيرة؛ لأن حب الغنائم دخل في قلوبهم.


    فحدث ارتباك شديد في صف المسلمين، وبدأت تحدث هزة أدت إلى هزيمة للجيش الإسلامي في هذه الموقعة العجيبة موقعة بواتييه أو موقعة بلاط الشهداء، وسميت بذلك لكثرة شهداء المسلمين في موقعة بواتييه بالقرب من البلاط وهو القصر، ولم يرد في الروايات الإسلامية حصر دقيق لشهداء المسلمين في موقعة بلاط الشهداء، لكن الروايات الأوروبية تبالغ كثيراً حتى تقول: أنه قتل من المسلمين في موقعة بلاط الشهداء ثلاثمائة وخمسة وسبعون ألف مسلم، وهذا مبالغ فيه جداً؛ لأن جيش المسلمين كان خمسين ألفاً.

    يقول النصارى في رواياتهم: أنه لو هزم الفرنسيون في موقعة بواتييه لفتحت أوروبا جميعاً، ولدرس القرآن في جامعات

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    الأندلس من الفتح إلى السقوط :(17) فترات حكم الإسلام في الأندلس منذ 92هـ - 138هـ
    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
    بسم الله الرحمن الرحيم.
    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    ذكرنا أن فترة الأندلس تقسم إلى عهود بحسب طريقة الحكم والإدارة.
    فالعهد الأول: وهو عهد الفتح، واستمر ثلاث سنوات وبضعة شهور، فقد بدأ من سنة (92هـ) وانتهى في أواخر (95هـ).


    العهد الثاني: عهد الولاة، وهو أن الحاكم على بلاد الأندلس يعتبر والياً يتبع الخلافة الأموية للمسلمين، والتي كان مقرها في دمشق، واستمر هذا العهد من أواخر سنة (95هـ) وأوائل (96هـ) إلى سنة (138هـ)، بمعنى أنه استمر مدة 42 سنة متصلة، وهذا العهد قسمناه إلى فترتين رئيسيتين: الفترة الأولى: فترة قوة وجهاد ونشر للدعوة وتعليم للإسلام، وهذه الفترة استمرت من 96هـ إلى سنة 123هـ، أي: حوالي 27 سنة متصلة.


    الفترة الثانية: فترة ضعف وانحطاط للمستوى الإيماني، والمستوى الحضاري في بلاد الأندلس، واستمرت هذه الفترة من سنة (123هـ) إلى سنة (138هـ) أي أنها استمرت (15) سنة متتالية.


    وفي الدرس السابق تحدثنا عن الفترة الأولى منذ (96هـ) إلى سنة (114هـ)، وانتهى الحديث عند موقعة بلاط الشهداء والتي كانت في منطقة تسمى بواتييه في فرنسا، ومني المسلمون فيها بهزيمة، وتوقفت الفتوح في تلك المنطقة وانسحب الجيش الإسلامي، واستشهد فيها عبد الرحمن الغافقي رحمه الله تعالى.















    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط


    الأندلس من الفتح إلى السقوط :

    (18) عدم وجود ثورات في الأندلس

    سبب عدم وجود ثورات في الأندلس ضد المسلمين الفاتحين
    لماذا لم يثر أهل الأندلس على المسلمين الفاتحين في فترة عهد الفتح وأوائل عهد الولاة، مع أن الجيش الإسلامي الموجود في بلاد الأندلس كان (12) ألف مقاتل بقيادة طارق بن زياد رحمه الله، واستشهد منه ثلاثة آلاف مقاتل في موقعة وادي برباط، ثم استشهد ثلاثة آلاف آخرون في الطريق من وادي برباط إلى طليطلة، فوصل طارق بن زياد إلى طليطلة بستة آلاف فقط من الرجال.
    ثم عبر موسى بن نصير بثمانية عشر ألفاً من الرجال، وأصبح قوام الجيش الإسلامي كله في بلاد الأندلس (24) ألف مقاتل موزعين على كل مناطق الأندلس، والأندلس بلاد واسعة جداً، وتضم الآن أسبانيا والبرتغال، بل وفتح المسلمون بعض المناطق في جنوب فرنسا، فكان في كل مدينة من المدن حامية صغيرة جداً؟ فلماذا لم يثر أهل البلاد على المسلمين والطاقة الإسلامية في هذه البلاد قليلة، والجيش لا يقارن بعدد سكان المنطقة؟

    الجواب
    من العجب أن يثور أهل الأندلس، وليس من العجب ألا يثوروا.
    كان أهل الأندلس قبل دخول الإسلام يعيشون في ذل عميق، وفي ضنك شديد، تنهب أموالهم فلا يتكلمون، وتنتهك أعراضهم فلا يعترضون، يتنعم حكامهم بالقصور والثروات، وهم لا يجدون ما يسد الرمق، يباعون ويشترون مع الأرض التي زرعوها بكدهم، وأكل غيرهم ثمارها.
    أيثور شعب الأندلس من أجل هذا الذي أذاقه العذاب ألواناً؟ أيثور من أجل ظهور لذريق جديد أو غيطشة جديد أو ألفونسو جديد؟

    إذا كان من فطرة الناس الطبيعية أنهم يحبون أوطانهم؛ لما فيها من ذكريات جميلة منذ الطفولة حتى الممات، لكن في بلاد الأندلس كانت الذكريات مليئة بالجوع والعطش والسياط والتعذيب والظلم والفساد والرشوة والجبروت والكبر والسرقة والنهب وما إلى ذلك من الأمور التي تكره الناس في حياتهم وأوطانهم.

    ثم إن البديل المطروح البديل هو الإسلام الذي دخل على أيدي هؤلاء الفاتحين، عندما تجد رجلاً يقول لك: تعال أعطك بدلاً من الظلم عدلاً ليس هبة مني، ولكنه حق مكتسب لك ولقومك ولأهلك ولأولادك ولذريتك من بعدك، لا فرق فيه بين حاكم ومحكوم إن حدثت لك أو عليك مظلمة، والقاضي لا يفرق بين مسلم ويهودي ونصراني في الحكم، فالدين لا يرفع من قيمة الأشخاص بقدر أموالهم، ولكن يرفع بقدر أعمالهم، والأعمال مفتوحة للجميع، للغني والفقير والحاكم والمحكوم، والحاكم في الإسلام لا يفرض الضرائب على الناس وإنما الزكاة إن كانوا من المسلمين، ومقدارها ربع العشر، أي: (2.5%) في العام إن حال الحول على المال، ووجد نصاب الزكاة، والفقير المعدم لا يدفع شيئاً، بل يأخذ من بيت مال المسلمين، كيف يكون شعورك وأنت فقير معدم تدفع عشرين أو ثلاثين أو أربعين في المائة من مالك لحاكمك أو السلطان المتولي عليك، ثم تجد من يقول لك: ليس عليك أن تدفع من مالك للحاكم، بل هو لك ولأهلك ولعشيرتك إلى أن تغتني، ويكتمل الحول على مالك وكنت غنياً فتدفع الزكاة، أما إن كنت غير ذلك فستأخذ المال من بيت مال المسلمين.


    فالإسلام كان خلاصاً للشعوب، والناس في بلاد الأندلس لما رأوا هذا الإسلام تمسكوا به واعتنقوه اعتناقاً، ولم يرضوا عنه بديلاً، فكيف يحارب هؤلاء الناس من أجل من أذاقهم هذا العذاب السابق، ويضحون بهذا النعيم المقيم في الدنيا وفي الآخرة؟

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    الأندلس من الفتح إلى السقوط :

    (19) سبب خوف الكفار أصحاب المصالح في الأندلس


    هل من المعقول أن أهل الأندلس جميعاً قد أعجبوا بهذا الدين ودخلوا في الإسلام راغبين، ولم يوجد فيهم رجل واحد يثور ويعترض ويحب ما كان له من السلطان والمصلحة؟
    الجواب
    نعم، كان هناك كثير من الرجال أصحاب المصالح، الذين كان لهم كثير من الأعوان، يريدون أن يثوروا على حكم الإسلام، ويحققوا المصالح السابقة التي كانت لهم، وإنما لم يثر هؤلاء القوم؛ لأن رب العالمين سبحانه وتعالى يقول: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر:13]، فالمجاهد المؤمن في الفتوحات الإسلامية كانت له رهبة في قلوب النصارى واليهود والمشركين بصفة عامة، والمؤمن يلقي الله عليه جلالاً، فيخافه القريب والبعيد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر».
    ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: «فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ» [الحشر:2]، هذا الرعب لم يكن متولداً عن بشاعة الحرب، ولا عن إجرام منقطع النظير، ولكن هو هبة ربانية لجنده ولأوليائه ولحزبه سبحانه وتعالى، بل على العكس من ذلك تماماً، كانت حرب الإسلام رحمة للناس، ففي صحيح مسلم عن بريدة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يودع الجيوش كان يقول: ( «اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا» -أي: تأخذوا من الغنيمة قبل قسمتها- ولا تغدروا -أي: في عهد مع المشركين- «ولا تمثلوا» -أي: ولا تمثلوا بجثة بعد أن تقتل- «ولا تقتلوا وليداً» وفي رواية: «ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأة».


    أين هذا من حروب غير المسلمين مع المسلمين؟ أين هذا من قتل مائتي ألف رجل من المدنيين في البوسنة والهرسك وفي كوسوفو؟ أين هذا من فعل الروس في الشيشان، والهنود في كشمير، واليهود في فلسطين؟! إذاً: كانت حروب المسلمين رحمة للناس، ولكن الله سبحانه وتعالى ألقى على أعدائهم رهبة ورعباً من المسلمين، لا لبشاعة في الحرب، ولكن لجلال ألقي على المسلمين، لذلك اعتنق الناس الإسلام اعتناقاً، حتى من لم يدخل في دين الإسلام من اليهود والنصارى، فقد سعدوا في ظل الإسلام سعادة وأي سعادة، قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]، فقد تركت لهم كنائسهم، وكان لهم قضاء خاص بهم، ولم يفرق بين مسلم ونصراني أو يهودي في مظلمة.
    والعجب كل العجب أن يرفض هؤلاء الناس الإسلام وحكم الإسلام، وقد جاء من عند حكيم خبير، فهو سبحانه وتعالى يعلم ما يصلح عبيده وكونه وأرضه.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    (20) دخول العنصرية القبلية والغنائم في موقعة بلاط الشهداء

    وجه تعلق الجيش الإسلامي في موقعة بلاط الشهداء بالغنائم ودخول العنصرية القبلية فيه:
    كيف تعلق الجيش الإسلامي في موقعة بلاط الشهداء بالغنائم، وتحدث مشاكل عنصرية وقبلية فيه، مع أنهم من التابعين أو تابعي التابعين، وهم قريبو عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صحابته الكرام رضي الله عنهم أجمعين؟
    الجواب:
    قد حدث ذلك في غزوة أحد في السنة الثالثة للهجرة، وبلاط الشهداء كأنها أحد أخرى، يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ}[آل عمران:152]، هذه الآية نزلت في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقعة أحد، ألم يترك الرماة مواقعهم في موقعة أحد طلباً للغنيمة بعد أن أيقنوا بالنصر، ونزلوا وخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم طلباً للغنيمة؟ قال عنهم ربهم سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]، حتى إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه كان يقول: ما كنت أحسب أن منا من يريد الدنيا حتى نزلت الآية: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُم ْ} [آل عمران:152].


    فهزم المسلمون بعد النصر، وهكذا أيضاً في بلاط الشهداء، فقد دخل المسلمون في أول يومين أو ثلاثة أيام من أيام المعركة وكان النصر حليفاً للمسلمين، ثم انقلبت المعركة لما التف النصارى حول غنائم المسلمين وأخذوها، فحدثت الانكسارة لجيش المسلمين ثم هزموا.
    {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران:152]، يقول ابن كثير على هذه الآية: أي: لم يستأصلكم في هذه الموقعة، بل أعطاكم الفرصة للقيام من جديد، وهكذا أيضاً في بلاط الشهداء لم يستأصل الجيش الإسلامي، ولكنه عاد وانسحب ليقوم من جديد، فبلاط الشهداء كأنها أحد بل أكثر من ذلك، ففي غزوة بدر بعد أن انتصر المسلمون على الكفار اختلفوا على الغنائم، وهم الرعيل الأول والجيل المصاحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سورة الأنفال بعد هذا النصر المجيد جاء تعظيم أمر الاختلاف على الغنائم، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1]، وهذا كلام شديد جداً على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هكذا أمر النفس البشرية.
    إذاً: هذه عيوب موجودة في الناس.
    والدرس والعبرة من بلاط الشهداء ومن أحد وبدر تدارك الأمر بسرعة بعد المعركة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم تدارك الأمر بسرعة بعد غزوة أحد، وحمس المسلمين وذكرهم بالآخرة حتى واصلوا المسير خلف الكفار إلى حمراء الأسد، وهكذا أيضاً في بلاط الشهداء قام رجل من جديد يحمس المسلمين هو عقبة بن الحجاج رحمه الله، لكن هذا لم يكن في أرض بواتييه، إنما كان بعد العودة إلى أرض الأندلس، لذلك لم تحدث موقعة مثل موقعة حمراء الأسد مباشرة بعد بلاط الشهداء، والسبب في اختلاف موقعة بلاط الشهداء عن غزوة أحد أن غالب جيش المسلمين في بلاط الشهداء كانت الدنيا والغنائم في قلوبهم، ولذلك لم يعودوا مباشرة كما عادوا في أحد، أما في أحد فقد قال عنهم ربهم: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]، ولما أشيع في غزوة أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، حدث الفرار والهزيمة والانكسار الكبير، وكذلك لما قتل عبد الرحمن الغافقي رحمه الله انسحب المسلمون من غزوة بلاط الشهداء.
    لذلك الشبه كبير جداً، والتكرار في التاريخ أمر طبيعي جداً، والهزائم شديدة الشبه، وعلى المسلمين أن يتعظوا ويعتبروا.


    أما ظهور العنصرية والقومية في ذلك الجيش، وفي ذلك الوقت المتقدم من الزمان، فإن العنصرية والقبلية قد ظهرت أيضاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعلكم تذكرون الحادثة المشهورة بين أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه وبين بلال لما قال أبو ذر لـ بلال: يا ابن السوداء! فسبه بشيء في شكله ولونه، وغضب بلال رضي الله عنه وأرضاه، وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، وقال لـ أبي ذر: «يا أبا ذر! طف الصاع إنك امرؤ فيك جاهلية، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا أسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى»، هكذا صلى الله عليه وسلم أخذ يذكره بالتقوى، فاستجاب أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه لذلك، فوضع رأسه على التراب، وأصر على بلال رضي الله عنه وأرضاه أن يطأ وجهه بقدمه حتى يكفر عن خطاياه، لكن لم يفعل

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •