الإنصاف في الردود، والتعامل مع الخلاف
محمد بن إبراهيم الحمد



الردود والخلاف من أعظم مشوشات القلب، ومن أشد ما يذكي أوار الفتنة، ويقضي على روح المحبة والألفة إذا لم تراع الضوابط الشرعية، والآداب المرعية في ذلك الشأن.
والأخذ بأدب الرد، وحسن التلقي والتعامل مع الردود من أعظم ما يحفظ المشاعر، ويبقي على الود.
ولهذا كان حرياً بمن كان أهلاً للرد، واقتضى الأمر أن يرد - أن يلزم الإنصاف، وحرياً بمن يقف على شيء من ذلك أن يحسن التعامل مع الخلاف والردود.
فيا من يروم المعالي، ويتطلب الإصلاح عليك بلزوم الإنصاف، وتحري العدل.
وإذا لم ينصفك الرجل، فرد عليك الحق بالشمال وباليمين، أو جحد جانباً وهو يراه رأي العين - فلا تكن قلة إنصافه حاملة لك على أن تقابله بالعناد، فترد عليه حقاً، أو تجحد له فضلاً، واحترس من أن تسري لك من خصومك عدوى هذا الخلق الممقوت، فيلج في نفسك، وينشط له لسانك، أو قلمك، وأنت تحسبه من محاربة الخصوم بمثل سلاحهم.
كلا، لا يحارب الرجل خصومه بمثل الاعتصام بالفضيلة، ولاسيما فضيلة كالإنصاف؛ فهي تدل على نفس مطمئنة، ونظر في العواقب بعيد.
بل يحسن بمن أراد الرد أن ينظر في جدواه، وأن يتمثل الرحمة ويتجنب الظلم والبغي، ومما يعينه على ذلك ما يلي:
أ- أن يحب المرء لإخوانه ما يحبه لنفسه: فذلك أقرب للتقوى، وأنفى للوحشة والبغضاء، وأدعى للعدل والرحمة، والمودة والقربى؛ "فأعدل السير أن تقيس الناس بنفسك، فلا تأتي إليهم إلاَّ ما ترضى أن يؤتى إليك".
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (1).
قال الشافعي - رحمه الله -: "ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ".
وقال: "ما ناظرت أحداً قط إلاَّ أحببت أن يوفق، ويسدد، ويعان، ويكون عليه رعاية من اللَّه، وحفظ".
وقال الخطابي - رحمه الله -:
ارض للناس جميعاً *** مثل ما ترضى لنفسك
إنما الناس جميعاً *** كلهم أبناء جنسك
فلهم نفس كنفسك *** ولهم حس كحسك
ب- أن يضع المرء نفسه موضع خصمه: فذلك مما يدعو لالتماس المعاذير، والبعد عن إساءة الظن، والحذر من مواطن الظلم والاعتساف.
قال ابن حزم - رحمه الله -: "من أراد الإنصاف فليتوهم نفسه مكان خصمه؛ فإنه يلوح لـه وجه تعسفه".
ج-التجرد للحق: فإذا تجرد المرء للحق، وآثره، وحرص على طلبه - وفق لـه، ولم يجد صعوبة في لزوم العدل.
قال الرافعي - رحمه الله -: "متى ما وقع الخلاف بين اثنين، وكانت النية صادقة مخلصة - لم يكن اختلافهما إلا من تنوع الرأي، وانتهيا إلى الاتفاق بغلبة أقوى الرأيين، ما من ذلك بد".
وقال الشافعي - رحمه الله -: "وما ناظرت أحداً إلاَّ ولم أبال: أبين اللَّه الحق على لساني أو لسانه".
وكما يحسن بمن رَدَّ أو رُدَّ عليه أن يلزم أدب الرد فكذلك يحسن حال حصول الخلاف والرد خصوصاً بين بعض أهل العلم - أن تنشرح صدورنا لما يقع من الخلاف؛ فما من الناس أحد إلا وهو راد ومردود عليه، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويرد إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ويجمل بنا نحسن الظن بأهل العلم والفضل إذا رد بعضهم على بعض، وألا ندخل في نياتهم، وأن نلتمس لهم العذر.
وإذا تبين لنا أن أحداً من أهل العلم والفضل أخطأ سواء كان راداً أو مردوداً عليه - فلا يسوغ لنا ترك ما عنده من الحق؛ بحجة أنه أخطأ.
وإذا كنا نميل إلى أحد من الطرفين أكثر من الآخر فلا يجوز لنا أن نتعصب له، أو نظن أن الحق معه على كل حال.
وإذا كان في نفس أحدٍ منا شيء على أحد الطرفين - فلا يكن ذلك حائلاً دون قبول الحق منه.
قال - ربنا - جل وعلا -: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى).
وقال: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).
وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ).
قال ابن حزم - رحمه الله -: "وجدت أفضل نعم الله -تعالى- على المرء أن يطبعه على العدلِ وحُبِّه، وعلى الحق وإيثاره".
وقال: "وأما من طبع على الجور واستسهاله، وعلى الظلم واستخفافه - فلييأس من أن يصلح نفسه، أو يقوِّم طباعه أبداً، وليعلم أنه لا يفلح في دين ولا في خلق محمود".
وقال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور - رحمه الله -: "والعدل مما تواطأت على حسنه الشرائع الإلهية، والعقول الحكيمة، وتمدَّح بادعاء القيام به عظماءُ الأمم، وسجلوا تمدُّحهم على نقوش الهياكل من كلدانية، ومصرية، وهندية.
وحسن العدل بمعزل عن هوى يغلب عليها في قضية خاصة، أو في مبدأ خاص تنتفع فيه بما يخالف العدل بدافع إحدى القوتين: الشاهية والغاضبة".
وإذا كان لدينا قدرة على رأب الصدع، وجمع الكلمة، وتقريب وجهات النظر فتلك قربة وأي قربة.
قال الله - عز وجل -: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).
وإذا لم نستطع فلنجتهد بالدعاء والضراعة إلى الله أن يقرب القلوب، ويجمع الكلمة على الحق.
ولنحذر كل الحذر من الوقيعة بأهل العلم، أو السعاية بينهم، ولنعلم بأنهم لا يرضون منا بذلك مهما كان الأمر.
وإذا سلَّمَنا الله من هذه الردود، فاشتَغل الواحد منا بما يعنيه - فهو خير وسلامة - إن شاء الله - تعالى -.
والذي يُظَنْ بأهل الفضل سواء كان الواحد منهم رادَّاً أو مردوداً عليه - أنهم لا يرضون منا أن نتعصَّب لهم أو عليهم تفنيداً، أو تأييداً.
بل يرضيهم كثيراً أن نشتغل بما يرضي الله، وينفع الناس.
ويؤسفهم كثيراً أن تأخذ تلك الردود أكثر من حجمها، وأن تفسر على غير وجهها.
هذا وإن العاقل المحب لدينه وإخوانه المسلمين ليتمنى من صميم قلبه أن تجتمع الكلمة، وألا يحتاج الناس أو يضطروا إلى أن يردوا على بعض، وما ذلك على الله بعزيز، ولكن:
فيا دارها بالحزن إن مزارها قريب ولكن دون ذلك أهوال
فمن العسير أن تتفق آراء الناس، واجتهاداتهم، ومن المتعذر أن يكونوا جميعاً على سنة واحدة في كل شيء، ومن المحال أن يُعْصَم الناس فلا يخطئوا.
ثم ليكن لنا في سلفنا الكرام قدوة؛ فهم خير الناس في حال الوفاق وحال الخلاف؛ حيث كانوا مثالاً يحتذى في الرحمة، والعدل، والإنصاف حتى في حال الفتنة والقتال.
روي أنه أُنشد في مجلس أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قول الشاعر:
فتىً كان يدنيه الغنى من صديقه *** إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
كأن الثريا علقت بجبينه *** وفي خده الشِّعرى وفي الآخر البدر


فلما سمعها علي - رضي الله عنه - قال: هذا طلحة بن عبيد الله، وكان السيف يومئذٍ ليلتَئذٍ مجرداً بينهما.
فانظر إلى عظمة الإنصاف، وروح المودة، وشرف الخصومة.
ولا ريب أن هذه المعاني تحتاج إلى مراوضة النفس كثيراً، وإلى تذكيرها بأدب الإنصاف، وإنذارها ما يترتب على العناد والتعصب من الإثم والفساد.
وإذا استقبلنا الخلاف والردود بتلك الروح السامية، والنفس المطمئنة صارت رحمةً، وإصلاحاً، وتقويماً، وارتقاءاً بالعقول، وتزكية للنفوس.
وبهذا نحفظ لرجالنا، وأهل العلم منا مكانتهم في القلوب، ونضمن -بإذن الله- لأمتنا تماسكها وصلابة عودها، ونوصد الباب أمام من يسعى لتفريقها والإيضاع خلالها.
والعجيب أن ترى أن اثنين من أهل العلم قد يكون بينهما خلاف حول مسألة أو مسائل، وتجد أتباعهما يتعادون، ويتمارون، وكل فريق يتعصب لصاحبه مع أن صاحبي الشأن بينهما من الود، والصلة، والرحمة الشيء الكثير!.
وأخيراً لنستحضر أن ذلك امتحان لعقولنا، وأدياننا؛ فلنحسن القول، ولنحسن العمل، ولنجانب الهوى.

_______________
(1) رواه البخاري (13) ومسلم (45).