آية الذرية في سورة الحديد ومضامينها التربوية



قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 26].

نستفيد من هذه الآية الكريمة توجيهات تربوية عديدة؛ منها: تفاضل متبعي الهدي بعضهم على بعض، وأن في صلاح الآباء بركة لأولادهم، واختلاف الناس في تقبلهم للهداية، وفيما يلي عرض لهذه التوجيهات:
أولًا: تفاضل متبعي الهدي بعضهم على بعض:
كما أن الله تعالى فاضل بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهم خيرة خلقه؛ قال تعالى: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253] - فقد فاضل سبحانه وتعالى بين عباده المؤمنين ممن أورثهم الكتاب؛ فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهـم سابق بالخيرات؛ قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ [فاطر: 32]، وكذلك فاضل الله تعالى بين الناس في أرزاقهم ومعيشتهـم؛ فقـال تعالى: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [الزخرف: 32]؛ يقول الإمام البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره: "﴿ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ﴾: بالغنى والمال، ﴿ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ﴾: ليستخدم بعضهم بعضًا، فيُسخِّر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل، فيكون بعضهم لبعض سبب المعاش، هذا بماله، وهذا بأعماله، فيلتئم قوام أمر العالم".
وقد ورد في الحديث عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أن فقراء المهاجرين أتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ذهب أهل الدُّثُورِ بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويُعتقون ولا نُعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلِّمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم؟ ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم، قالوا: بلى يا رسول الله قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دُبُرَ كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة، قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشـاء))[1].
ولهذا؛ يجب على الإنسان المسلم بذل كل طاقته ووسعه في طاعة ربه سبحانه وتعالى، وليعلم أن لله سبحانه وتعالى حِكَمًا في خلقه، لا يعلمها إلا هو جل وعلا؛ ففي الحديث القدسي عن أبي هريرة: ((إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًّا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددتُ عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن؛ يكره الموت، وأنا أكره مساءته))[2].
ثانيًا: صلاح الآباء بركة لأولادهم:
إن صلاح الوالدين له بركاته في الدنيا والآخرة على نفس الإنسان بالدرجة الأولى، فأما في الدنيا، فربما يُرزق زوجة صالحة، ورزقًا واسعًا، وذرية مباركة، ومنزلًا واسعًا رحبًا، وثناءً حسنًا، وذكرًا جميلًا؛ وهذا يؤكده ما جاء في قصة الخضر مع نبي الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، عند قتل الخضر الغلام، واعتراض موسى عليه السـلام على فعله؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ﴾ [الكهف: 80، 81]؛ يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: "وكان ذلك الغلام قد قُدِّر عليه أنه لو بلغ، لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا؛ أي: لحملهمـا على الطغيان والكفـر؛ إما لأجل محبتهما إياه، أو للحاجة إليه يحملهما على ذلك؛ أي: فقتلته؛ لاطلاعي على ذلك؛ سلامة لدين أبويـه المؤمنين، وأي فائـدة أعظم مـن هـذه الفائـدة الجليلـة؟ وهـو وإن كـان فيـه إساءة إليهمـا، وقطع لذريتهما، فإن الله تعالى سـيعطيهما مـن الذرية ما هو خـير منـه؛ ولهـذا قال: ﴿ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ﴾؛ أي: ولدًا صالحـًا زكيًا، واصلًا لرحمه، فإن الغلام الذي قتل لو بلغ، لعقهما أشد العقوق؛ بحملهما على الكفر والطغيان".
وإن الإنسان المسلم كلما ترقى في صلاحه وتقواه وورعه، نال من الله الدرجات العلى في الدنيا، وما أعده الله تعالى للصالحين من عباده في الآخرة أعلى وأعظم، فحينئذ يجب على المسلم الحرص الشديد على طاعة ربه، والتزام أوامره، واجتناب نواهيه.
ثالثًا: اختلاف الناس في تقبلهم للهداية:
إن اختلاف الناس في تقبلهم للهداية أو عدم تقبلها سنة من سنن الله تعالى؛ وقد تأكد ذلك في العديد من آيات الله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [هود: 118، 119]، وإن لله سبحانه وتعالى الحكمة البالغة في ذلك، فيعلم من يستحق الهداية، ومن يستحق الغواية؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين َ ﴾ [الأنعام: 117]، وقد يكون أكثرهم على غير هدًى؛ كما قال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [هود: 17]، وقال تعالى: ﴿ المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الرعد: 1]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [غافر: 59]، وقـوله تعالى: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف: 103].
ومع هذا كله يجب على الوالدين بذل كل الجهد في تربية أولادهم، ونصحهم وإرشادهم، حتى وإن كان بعضهم على غير هدًى، ولديه بعض التجاوزات، أو لديه انحراف كامل؛ فلا بد من المتابعة في التوجيه، والنصح والدعاء، واتخاذ كافة السبل الممكنة لإصلاحه، فلا يقول: إن هذا الولد غير نافع أو غير صالح، وقد بذلت معـه كذا وكذا ولم يهتدِ، نقول له: لا تيئس، واستمر في التوجيه، والمتابعة، والنصح والإرشاد، مقرونًا بالدعاء الخالص في الأوقات المباركة؛ لعل الله يكتب له الهداية والصلاح، إنه على كل شيء قدير، ولن يخيب من رجاه ووقف ببابه سبحانه وتعالى.


[1] صحيح مسلم، حديث رقم: 1347، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة.

[2] صححه الألباني بمجموع طرقه.