دراسة كتاب " جامع بيان العلم وفضله " للحافظ ابن عبدالبر النمري (463هـ)


اسم الكتاب:

اسم الكتاب كما هو في المطبوع: " جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله ".

وقد نسبه عدد من أهل العلم لابن عبدالبر بهذا الاسم، كالذهبي في السير، وابن خلكان في وفيات الأعيان، وغيرهم. وهذا الاسم موافق لموضوع لكتاب، وما تضمنه من مباحث.

توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف:

قد دل على ثبوت نسبة هذا الكتاب أمور كثيرة من أهمها:

1. أنه قد كتب اسم المؤلف في أول النسخ الخطية للكتاب، بعد البسملة: قال أبو عمر يوسف بن عبدالله بن محمد بن عبدالبر النمري.. وكذلك في مواضع متفرقة من الكتاب.

2. السماعات الموجودة في نهاية النسخة الخطية للكتاب - نسخة دار الكتب المصرية-، وهي من أقوى الأدلة على ذلك.

3. شيوخ المصنف في هذا الكتاب هم شيوخه في كتبه الأخرى.

4. أن المصنف قد عزا إلى هذا الكتاب وذكره في كتبه الأخرى؛ فقد ذكره في التمهيد.

5. رواية الكتاب بسند صحيح متصل إلى المؤلف.

6. العلماء الذين ترجموا للحافظ ابن عبدالبر أو ذكروا مصنفاته؛ كابن حزم الظاهري - كما في تذكرة الحفاظ (3/217)- ، والذهبي في السير (18/158)، وابن خلكان في وفيات الأعيان (7/67)، وابن فرحون في الديباج المذهب (18)، والمقري في نفح الطيب (385)، وكذلك ذكره الكتاني في الرسالة المستطرفة، وحاجي خليفة في كشف الظنون..

7. نقل عنه ابن حجر في تهذيب التهذيب (97).

سبب تأليف الكتاب:

بين المؤلف سبب تأليفه للكتاب وأنه تلبيةً لطلب وُجِّه إليه، فقال في المقدمة: أما بعد، فإنك سألتني -رحمك الله- عن معنى العلم، وفضل طلبه، وحمد السعي فيه، والعناية به, وعن تثبيت الحجاج بالعلم، وتبيين فساد القول في دين الله بغير فهم، وتحريم الحكم بغير حجة، وما الذي أجيز من الاحتجاج والجدل، وما الذي كره منه؟ وما الذي ذم من الرأي وما حمد منه؟ وما يجوز من التقليد وما حرم منه؟ ورغبت أن أقدم لك قبل هذا من آداب التعلم وما يلزم العالم والمتعلم التخلق به والمواظبة عليه، وكيف وجه الطلب، وما حُمد ومدح فيه من الاجتهاد والنصب، إلى سائر أنواع آداب التعلم والتعليم وفضل ذلك وتلخيصه باباً باباً مما روي عن سلف هذه الأمة - رضي الله عنهم أجمعين- لتتبع هديهم وتسلك سبيلهم وتعرف ما اعتمدوا عليه من ذلك مجتمعين أو مختلفين في المعنى منه، فأجبتك إلى ما رغبت، وسارعت فيما طلبت رجاء عظيم الثواب، وطمعاً في الزلفى يوم المآب، ولما أخذه الله - عز وجل- على المسئول العالم بما سئل عنه من بيان ما طلب منه، وترك الكتمان لما علمه، قال الله, عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سئل علمًا علمه فكتمه جاء يوم القيامة ملجمًا بلجام من نار".

موضوع الكتاب:

موضوع هذا الكتاب يدل عليه عنوانه، فقد ضمنه الحافظ ابن عبد البر بحوثاً عن العلم وفضله، وآداب العالم والمتعلم، وما يلزم الناظر في اختلاف العلماء من الإحاطة بمذاهب علماء الأمصار، ويبين فيه كذلك المراحل التي يمر بها طالب العلم، والعلوم الأساسية التي يجب أن يُلمَّ بها من فَهم كتاب الله، ومعرفة السنة النبوية، واللغة، وحثَّ الطالب على الاطلاع على العلوم المُكملة لثقافته مثل الجغرافية، والطب، وعلم الحساب وغير ذلك.

ثم رسم منهجاً تعليمياً لمن أراد أن يكون مجتهداً، فأرشده إلى التوسع في حفظ السنن، والإحاطة بأصول المذاهب الإسلامية المختلفة، والأدلة التي قامت عليها ليتسنَّى له النظر فيها والترجيح بينها. ولم يَفُتْه أن يرسم في سلك طريق العلم والعلماء أدب المناظرة، والزاوية التي ينظر منها إلى الخلاف بين العلماء والتأدب في نقدهم، وتوجيه كلام بعضهم في بعض. وهو بذلك يُعدُّ منهجاً تربوياً متكاملاً لتكوين الطالب والعالم.

وقد حشد الحافظ ابن عبدالبر في كتابه هذا مادة أصلية منوعة يغلب عليه فيها النقل في كثير من أبواب الكتاب، ملتزماً في نقله للأخبار والأشعار بالرواية على طريقة المحدثين، ولكنه مع هذا كان يقف في بعض المواضع ناقداً ومحللاً وموضحاً ومستخلصاً للقواعد العامة من النصوص، ويحيل فيه إلى كتبه الأخرى.

فالكتاب في الآداب الشرعية والتاريخ فهو يشتمل في تضاعيفه على ما يناهز (300) ترجمة لبعض الشعراء والأدباء والفقهاء.

منهج المؤلف في كتابه هذا:

يمكن الكلام على منهج المؤلف في النقاط التالية:

1. قدم المؤلف لكتابه بمقدمة ذكر فيها سبب تأليف الكتاب، كما تقدم.

2. قسَّم ابن عبد البر الكتاب إلى أبواب كثيرة، وجعل لكل باب عنواناً يحمل إشارة مختصرة لمضمون أحاديث الباب.

3. لم يقتصر المصنف على ذكر الأحاديث المرفوعات فحسب بل ذكر كذلك الموقوف والمقطوع، فضلاً عن جملة كبيرة من الأشعار المستجادة المتعلقة بموضوع الكتاب، وذكر كذلك مقولات بعض الحكماء، وهو في كل هذا يسوق النصوص بأسانيده، ولكنه مع هذا كان يقف في بعض المواضع ناقدا ومحللاً ومستخلصًا للقواعد العامة من النصوص.

4. لا يقتصر المؤلف في إيراده للأحاديث على طريق واحد بل يجمع طرق الحديث التي تسنى له الوقوف عليها؛ مثال ذلك: قوله في باب قوله صلى الله عليه وسلم : " طلب العلم فريضة على كل مسلم ": قال أبو عمر: هذا حديث يروى عن أنس بن مالك, عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة, كلها معلولة, لا حجة في شيء منها عند أهل العلم بالحديث من جهة الإسناد، قرأت على أبي القاسم خلف بن القاسم بن سهل الحافظ، أن أحمد بن صالح بن عمر المغربي حدثهم قال: أخبرنا عبدالله بن سليمان بن الأشعث، ح وأنا خلف بن القاسم، ثنا أبو صالح أحمد بن عبد الرحمن بن صالح بمصر قال: أخبرنا عبد الجبار بن أحمد السمرقندي قالا جميعا: أنا جعفر بن مسافر التنيسي قال: أنا يحيى بن حسان قال: حدثنا سليمان بن قرم الضبي، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " طلب العلم فريضة على كل مسلم " ثم ساق رحمه الله عدة روايات للحديث، بلغت أكثر من عشر روايات.

5. يعد هذا الكتاب العظيم منهجا تربويّاً متكاملا لتكوين الطالب والعالم، كما أنه قد احتفظ لنا بجملة كبيرة من أقوال أئمة السلف في العلم وفضله وآداب طلبته وطرق تحصيله. ولأن المصنف محدث وفقيه فقد ظهرت اهتماماته التربوية في الغالب في شكل حقائق وأحكام فقهية مدعومة بالأدلة من الكتاب والسنة، ولقد حاول الحافظ ابن عبدالبر في هذا الكتاب إثبات نظريته التربوية من خلال عدة مبادئ:

أولاً: بعض مبادئ التربية عند الحافظ ابن عبدالبر:

1. مبدأ وجوب التعليم وتحريم كتمان العلم؛ وهذا ظاهر جداً من كلامه في المقدمة ومن الأحاديث التي ساقها في أول الكتاب.

2. مبدأ وجوب طلب العلم، فقد عقد باباً بعنوان: باب قوله صلى الله عليه وسلم: " طلب العلم فريضة على كل مسلم" ثم ساق تحت هذا العنوان العديد من الأحاديث والآثار في وجوب طلب العلم.

3. مبدأ العمل بالعلم، فقد عقد رحمه الله أكثر من باب لهذا الموضوع، وأورد تحت كل باب الأحاديث والآثار التي تحث على العمل بالعلم أو تُحذر وتتوعَّد من فرَّق بين العلم والعمل بسلوكه، فعقد : باب " ما جاء في مساءلة الله عز وجل العلماء يوم القيامة عما عملوا فيما علموا "، وباب: " جامع القول في العمل بالعلم "، وباب: " ذم العالم على مداخلة السلطان الظالم "

4. الإخلاص لله في طلب العلم، وإرادة الخير به؛ وقد بوَّب ابن عبدالبر له بباب سماه: باب " ذم الفاجر من العلماء، وذم طلب العلم للمباهاة والدنيا".

وقد أورد تحته عدة أحاديث وآثار منها:

" لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء...." قال ابن عبدالبر: وهذا الوعيد لمن لم يرد بعلمه شيئاً من الخير، ولا يقصد به إلا الدنيا.

وقال سفيان الثوري: ( إنما يطلب العلم ليتقى به الله عز وجل، فذلك فضله على غيره من العلوم). وقال حماد بن سلمة: من طلب الحديث لغير الله مُكِر به.

5. مجانية التعليم. وقد روى ابن عبدالبر بسنده إلى أبي العالية قال: " مكتوب عندهم في الكتاب الأول: ابن آدم علم مجانا كما عُلمت مجانا". قال أبو عمر: معناه عندهم: كما لم تغرم ثمناً، فلا تأخذ ثمناً والمجان عندهم الذي لا يأخذ ثمنا.

6. نشر العلم وتبليغه. وقد بوَّب ابن عبدالبر لهذا المبدأ باباً سماه: ( باب دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لمستمع العلم وحافظه ومبلغه)، وذكر فيه الحديث: " نضَّر الله امرءاً سمع منا حديثاً، فحفظه حتى يبلغه، فربَّ حامل فقه ليس بفقيه، وربَّ حامل فقه إلى مَنْ هو أفقه منه" وحديث: " تسمعون ويُسمع منكم، ويُسمع ممن يَسمع منكم" ثم قال ابن عبدالبر (1/94): وفي هذا الحديث أيضاً دليل على تبليغ العلم ونشره.

7. الأمانة العلمية والصدق في نقل العلم. وقد ضمن هذا المبدأ في " باب آفة العلم وغائلته وإضاعته " حيث ذكر فيه عدداً من الآثار عن التابعين كالزهري الذي قال"... ومن غوائله الكذب فيه، وهو شر غوائله".

8. إصلاح اللحن والخطأ.

وقد بوَّب لذلك بعنوان: باب " الأمر بإصلاح اللحن والخطأ في الحديث، وتتبع ألفاظه ومعانيه ". ثم ساق بسنده إلى محمد بن سيرين قال: " كان أنس بن مالك إذا حدَّث عن رسول الله حديثاً ففرغ منه قال: أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: بعض آداب طالب العلم:

ذكر ابن عبدالبر آداباً كثيرة لطلب العلم متناثرة في أبواب من كتابه نذكر منها:

1. التواضع وترك الفخر والخيلاء، فعقد رحمه الله فصلاً بعنوان: من أدب العالم ترك الدعوى لما لا يحسنه، قال أبو عمر: ومن أدب العالم ترك الدعوى لما لا يحسنه، وترك الفخر بما يحسنه إلا أن يضطر إلى ذلك، كما اضطر يوسف - عليه السلام- حين قال: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] وذلك أنه لم يكن بحضرته من يعرف حقه فيثني عليه بما هو فيه ويعطيه بقسطه، ورأى أن ذلك المقعد لا يقعده غيره من أهل وقته إلا قصر عما يجب لله من القيام به من حقوقه، فلم يسعه إلا السعي في ظهور الحق بما أمكنه، فإذا كان ذلك فجائز لعالم حينئذ الثناء على نفسه والتنبيه على موضعه فيكون حينئذ يحدث بنعمة ربه عنده على وجه الشكر لها.. وأفضح ما يكون للمرء دعواه بما لا يقوم به، وقد عاب العلماء ذلك قديمًا وحديثًا وقالوا فيه نظمًا ونثرًا فمن ذلك قول أبي العباس الناشئ: من تحلى بغير ما هو فيه عاب ما في يديه ما يدعيه.

2. ثم قال رحمه الله: فصل: وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعليم الناس العلم، وروينا عن أبي هارون العبدي وشهر بن حوشب، قالا: كنا إذا أتينا أبا سعيد الخدري يقول: مرحبًا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستفتح لكم الأرض ويأتيكم قوم -أو قال: غلمان- حديثة أسنانهم، يطلبون العلم ويتفقهون في الدين ويتعلمون منكم، فإذا جاءوكم فعلموهم والطفوا بهم، ووسعوا لهم في المجلس وأفهموهم الحديث". فكان أبو سعيد يقول لنا: مرحبًا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نوسع لكم في المجلس وأن نفهمكم الحديث.

3. احترام العالم والتأدب بحضرته: حيث قال رحمه الله: ويروى عن علي بن أبي طالب أنه قال: من حق العالم عليك إذا أتيته أن تسلم عليه خاصة وعلى القوم عامة، وتجلس قدامه، ولا تشر بيديك ولا تغمز بعينيك، ولا تقل: قال فلان خلاف قولك، ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه في السؤال، فإنه بمنزلة النخلة المرطبة، لا يزال يسقط عليك منها شيء. وقالوا: من تمام آلة العالم أن يكون مهيبًا وقورًا بطيء الالتفات قليل الإشارة لا يصخب، ولا يلعب، ولا يجفو، ولا يلغو.

ثالثاً: أصول العلم وحقيقته وتقسيم العلوم:

حيث عقد ابن عبدالبر رحمه الله باباً بعنوان: " باب معرفة أصول العلم وحقيقته، وما الذي يقع عليه اسم الفقه والعلم مطلقاً ". وقد تكلم في الباب عن المباحث التالية:

1- أصول العلم: وقد نقل عن الإمام الشافعي قوله: " ليس لأحد أن يقول في شيء حلال ولا حرام إلا من جهة العلم، وجهة العلم: ما نص في الكتاب أو في السنة أو في الإجماع أو القياس على هذه الأصول ما في معناها.

قال أبو عمر: أما كتاب الله فيغني عن الاستشهاد عليه، ويكفي من ذلك قول الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 3]. وكذلك السنة يكفي فيها قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59]. وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. أما الإجماع فمأخوذ من قول الله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115]؛ لأن الاختلاف لا يصح معه هذا الظاهر، وقول النبي, صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة". وعندي أن إجماع الصحابة لا يجوز خلافهم والله أعلم؛ لأنه لا يجوز على جميعهم جهل التأويل، وفي قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]؛ دليل على أن جماعتهم إذا اجتمعوا حجة على من خالفهم كما أن الرسول حجة على جميعهم، ودلائل الإجماع من الكتاب والسنة كثير ليس كتابنا هذا موضعا لتقصيها، وبالله التوفيق.

وقال محمد بن الحسن: العلم على أربعة أوجه: ما كان في كتاب الله الناطق وما أشبهه، وما كان في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المأثورة وما أشبهها، وما كان فيما أجمع عليه الصحابة -رحمهم الله- وما أشبهه، وكذلك ما اختلفوا فيه لا يخرج عن جميعه، فإن أوقع الاختيار فيه على قول فهو علم تقيس عليه ما أشبهه، وما استحسنه عامة فقهاء المسلمين وما أشبهه، وكان نظيرا له. قال: ولا يخرج العلم عن هذه الوجوه الأربعة.

قال أبو عمر: قول محمد بن الحسن: وما أشبهه يعني ما أشبه الكتاب، وكذلك قوله في السنة وإجماع الصحابة يعني: ما أشبه ذلك كله فهو القياس المختلف فيه الأحكام، وكذلك قول الشافعي: أو كان في معنى الكتاب والسنة، هو نحو قول محمد بن الحسن، ومراده من ذلك القياس عليها، وليس هذا موضع القول في القياس.. وإنكار العلماء للاستحسان أكثر من إنكارهم للقياس، وليس هذا موضع بيان ذلك.

2- حقيقة العلم: وساق أقوالاً في معنى العلم؛ ومن ذلك قول ابن مسعود: ليس العلم عن كثرة الحديث إنما العلم خشية الله " وقول الإمام مالك: " الحكمة والعلم نور يهدي به الله من يشاء، وليس بكثرة المسائل "

3- عمل المؤلف مقارنة بين الرأي والعلم؛ فبين أن من صفات العلم الثبات، ومن صفات الرأي التغير، نقل ذلك عن جابر بن زيد بعد أن روى عن الإمام أحمد قوله: وإن قلت فإنما هو رأي وإنما العلم ما جاء من فوق، ولعلنا أن نقول القول ثم نرى بعده غيره.

ثم ذكر أبو عبدالله حديث عمر بن دينار، عن جابر بن زيد, أنه قيل له: يكتبون رأيك؟ قال: تكتبون ما عسى أن أرجع عنه غدا؟

4- ذكر أنواع العلوم والمعرفة؛ فقال: " والعلوم تنقسم قسمين: ضروري، ومكتسب.

فحد الضروري: ما لا يمكن العالم أن يشكك فيه نفسه ولا يدخل فيه على نفسه شبهة، ويقع له العلم بذلك قبل الفكرة والنظر، ويدرك ذلك من جهة الحس والعقل، كالعلم باستحالة كون الشيء متحركا ساكنا، أو قائما قاعدا، أو مريضا صحيحا، في حال واحدة، ومن الضروري -أيضا- وجه آخر يحصل بسبب من جهة الحواس الخمس كذوق الشيء يعلم به المرارة والحلاوة ضرورة إذا سلمت الجارحة من آفة، وكرؤية الشيء يعلم بها الألوان والأجسام، وكذلك السمع يدرك به الأصوات.. وأما العلم المكتسب: فهو ما كان طريقه الاستدلال والنظر ومنه الخفي والجلي، فما قرب من العلوم الضرورية كان أجلى، وما بعد منها كان أخفى.

والمعلومات على ضربين: شاهد وغائب، فالشاهد: ما علم ضرورة، والغائب: ما علم بدلالة من الشاهد. والعلوم عند جميع أهل الديانات ثلاثة: علم أعلى، وعلم أسفل، وعلم أوسط، فالعلم الأعلى: عندهم علم الدين، الذي لا يجوز لأحد الكلام فيه بغير ما أوله الله في كتبه، وعلى ألسنة أنبيائه صلوات الله عليهم نصاً.

ونحن على يقين مما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل، وسنَّه لأمته من حكمته. فالذي جاء به هو القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان شفاء ورحمة للمؤمنين، آتاه الله الحكم والنبوة، فكان ذلك يتلى في بيوته، قال الله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] يريد: القرآن والسنة، ولسنا على يقين مما يدعيه اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل؛ لأن الله قد أخبرنا في كتابه عنهم أنهم يكتبون الكتاب بأيديهم، ثم يقولون: هذا ما عند الله، ليشتروا به ثمنا قليلا، ويقولون: هو من عند الله، وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون، فكيف يؤمّن مَن خان الله وكذب عليه وجحد واستكبر؟!! قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51].

وقد اكتفينا والحمد لله بما أنزل الله على نبينا صلى الله عليه وسلم من القرآن، وما سنه لنا عليه السلام.

ميزات الكتاب:

لقد امتاز هذا الكتاب بمزايا كثيرة، قل أن تجتمع في غيره، ومن أهم هذه المزايا:

1. مكانة مؤلفه العلمية؛ فهو من الحفاظ المعروفين ومن علماء الحديث الذين لهم تقدم في هذا الفن، وقد قال أبو الوليد الباجي: لم يكن بالأندلس مثل أبي عمر في الحديث. وقال ابن حزم: .. وله تواليف لا مثل لها في جمع معانيها.. ومنها كتاب جامع بيان العلم وفضله. تذكرة الحفاظ (3/217)، وقال الذهبي في السير (18/153) في ترجمة ابن عبدالبر: صاحب التصانيف الفائقة.

وقال ابن خلكان في وفيات الأعيان (7/67): وكان موفقاً في التأليف معاناً عليه، ونفع الله به.

2. كون المؤلف من علماء الحديث وحفاظه؛ فهو يسوق الأحاديث والآثار التي يستدل بها بإسناده، وهذا الأمر له فائدة كبيرة، من الوقوف على أسانيد بعض الأحاديث والآثار التي قد لا يُوقف لها على إسناد، وإمكانية الحكم على هذه الأحاديث والآثار، وغير ذلك.

3. يقوم المؤلف بجمع طرق الحديث الواحد - في كثير من الأحيان - مكان واحد، وهذا أمر له فائدة عظيمة عند أهل هذا الشأن.

4. أهمية الموضوع الذي يتحدث عنه الكتاب، كما هو ظاهر من عنوانه: " جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله " وكما هو معلوم فإن حاجة طلاب العلم، بل والعلماء - لمثل هذا الموضوع - شديدة وضرورة ملحِّة. بالإضافة أن المطالع لهذا الكتاب يستفيد زيادة الحرص على طلب العلم والجد في تحصيله، لما ذكره المصنف من أحاديث وآثار تحث على طلب العلم.







طبعات الكتاب:

1 - في المطبعة المنيرية، سنة 1320 هـ.

2 - وطبع بتحقيق عبد الرحمن عثمان، وصدر عن المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، سنة 1968 م.

3 - وطبع بمراجعة وتصحيح عبد الرحمن حسن محمود، وقدَّم له عبد الكريم الخطيب، وصدر عن دار الكتب الحديثة - القاهرة، سنة 1395 هـ.

4- طبع في دار الفكر، ودار الكتب الإسلامية، 1402 هـ.

5- وطبع بتحقيق أبي الأشبال الزهيري، وصدر عن دار ابن الجوزي، سنة 1414هـ.

6- وطبع أخيراً بتحقيق أبي عبدالرحمن فواز أحمد زمرلي، وصدر عن: مؤسسة الريان - ودار ابن حزم، الطبعة الأولى 1424 هـ.

والطبعتان الأخيرتان أجود طبعات الكتاب.
منقول