نظرات في سورة الانشراح
رياض محمد المسيميري



بسم الله الرحمن الرحيم
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ).
شَرْحُ الغَرِيْبِ:
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ: الاستفهام تقريري أي قد شرحنا لك صدرك، وشرح الصدر هو: اتساعه وانبساطه لكي يحتمل تكاليف الشريعة.
وقيل: هو شقه على يد المَلَكَين واستخراج حظ الشيطان منه، كما ثبت في الصحيح.
وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ: الوزر هو: الإثم والذنب.
الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ: أجهده وآلمه لثقله.
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ: أي إذا فرغت من عمل أخروي أو دنيوي فبادر بنفسك الى عمل آخر لتكون حياتك حياة جادة فاعلة.
وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ أي لتكون رغبتك وتفويضك الأمور كلها لله لا سواه.
هِدَايَة الآيَاتِ:
نزلت هذه السورةُ المكيّة المباركة امتناناً على الرسول الكريم، وتعداداً لبعض نعم الله عليه فكان أولاها:
نعمة انشراح الصدر لتحمل أعباء الرسالة، والقيام بواجب البلاغ.
وهذا الانشراحُ جدُّ ضروري لضمان نجاح صاحب الرسالة في وظيفته، ومضيه قُدماً في طريقها الشائك الطويل دون كلل أو ملل.
ذلك أنّ هذه الوظائف الخطيرة تتطلب جهداً خرافياً ونَفَساً طويلاً، وصبراً جميلاً، وإلا كانت قاصمة الظهر!.
إنّ طريقَ الرسالات ومدارجَ السالكين دعوة وتعليماً ملئ بالأشواك والعقبات الكؤود، ولم يكن يوماً من الدهر مفروشاً بالرياحين والورود!.
إنّه طريق مليء بالمخذلين والمثبطين، والمتراجعين والمنهزمين، فضلاً عن المعوقين كفراً وإلحاداً ونفاقاً!.
طريق الرسالة مزدحمٌ بالمكائد والمؤامرات والظلم والعدوان مدلهم بالمخاطر والتخويف والتهديد بل بالحروب والدماء والأشلاء!.
فإذا لم يكن صاحبُ الرسالة قادراً على أداء المهمة بقناعةٍ ويقين، وصبر وإقدام، فإنّه سيضر أكثر ممّا ينفع!.
ولذا كان انشراح صدر المصطفى لهذه المهمة ضرورياً بل من أشد الضرورات أهمية، ذلك أنّه يحمل عبء رسالة خاتمة عامة لكل المكلفين من الثقلين.
(وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ) وهي منةٌ أخرى، ونعمةٌ كبرى، وبشارةٌ عظمى بوضع الذنوب والأوزار، والتخلص من الآثام، والآصار، حتى ينطلق الرسول الخاتم خفيف الظهر مطمئن القلب!.
وهذان عاملان مهمان لإنجاح الرسالة وضمان ديمومتها واستمراريتها.
وهاهنا وقفتان:
الأولى: هل الرسول المعصوم تقع منه الذنوب والمعاصي؟
والجواب: أمّا العصمة فهي ثابتة إجماعاً في مسألة التبليغ إذ لا يصح وقوع الخطأ أو الوهم في أداء الرسالة وتبليغها للناس وكذا الشرك، وكبائر الذنوب قد عصم منها - عليه السلام -، وأما الصغائر فهي واقعة بنص القرآن والسُنّة.
فأما القرآن فليس ثمة أصرح من قوله - تعالى -: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً) الفتح (2).
وأما السُنّة فقد صحّ عند مسلم وغيره من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى حتى انتفخت قدماه فقيل له: أتكلف هذا، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)).
الثانية: أنّ ذنوب نبينا - صلى الله عليه وسلم - مع كونها صغائر ونادرة الوقوع إلا أنّ الله - تعالى -وصفها بأنها ناقضة لظهره الشريف أي ثقيلة الوزن، غليظة الحمل بحيث أوهنت قواه، وأثقلت كاهله فأزاحها الله عنه تكرماً وتفضلاً، فكيف الحال إذاً بمن عاقر الكبائر، وواقع المحرمات، وركن إلى المعاصي والشهوات؟!
كيف بمن تعاطى الربا، وسفك الدماء، وشرب المسكر، وهتك العرض الحرام؟!
كيف بمن بغى وتجاوز، وأسرف وظلم، واستمرأ كل رذيلة وعفّ عن كل فضيلة؟!
أي ظهر هذا الذي يحمل كل هذه الطوام والذنوب العظام؟
وأي كاهل هذا الذي كُلِّف ما تنوء عن حمله الجبال الشاهقات والقمم العاليات؟!
(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ): وهذه هي المنَة الثالثةُ في هذه السورة فقد أَشْهَرَ الله - تعالى -اسم هذا النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - وجعله متردداً على كلّ لسان، فلا يذكر الله في شهادة أو أذان إلا ويذكر هذا النبي العظيم، وهذه الهبة والكرامة ردٌّ على أولئك الشامتين الذين فرحوا بحرمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بقاء أولاده الذكور حيث لم يعش له سوى الإناث، ولله الحكمة البالغة!
إلا أنّ الذِكْر الحسن، والثناء الجميل، لا ينبغي أن يكونا هدفين أساسيين، وغرضين ضروريين لأتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالداعية والعالم والعابد، ينبغي لكل منهم أن يجعل نصب عينيه رضا الله - تعالى -، وقبوله للعمل، وشكره للسعي، لا نيل الصيت والشهرة، أو المديح والثناء فتلك نواقض الإخلاص وزلازله.
وأي قيمة للثناء والصيت، وكثرة الذكر وذيوع الشهرة، وقد سقط الداعية أو العالم أو العابد من عين الله، ووكله إلى ما يؤمِّله من الحظِّ العاجل والعرض الزائل؟!
ثم هل نجا أهلُ الصيت والشهرة من الحسد والشنئان وكثرة المتربصين والحاقدين؟!
وهل اجتمع على حبهم الناس، وصفا لهم ودّهم وعطفهم؟!
إنّ ذلك لم يكن للأنبياء والمرسلين أو الصحابة والحواريين أفيكون لمن لا يبلغ عشر معشار ما بلغوه ووصلوه؟!
(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً): وفي هاتين الآيتين الكريمتين بشارة عظيمة بأنّ الله - تعالى -جاعل إزاء كل عُسرٍ يُسرين، ذلك أنّ (العُسر) مُعرفٌ بالألف واللام في الموضعين فهو شيءٌ واحد.
وأما (اليُسر) فقد جاء نكرة في الموضعين فهو شيئان اثنان وهذه قاعدة يعرفها النحويون!.
وإذا كان الأمر كذلك فوابشراه! فلن يغلب عسرٌ يُسرين!.
وتلك والله حقيقةٌ لو أدركها العُلماءُ الرَّبانيون والدُعاةُ المخلصون، لما استوحشوا طول الطريق، ولما أوهنتهم قوارع الفتن، ولما أخافهم جموع المتربصين والحاقدين.
لقد تعسرت الدعوةُ في مكة، وأبطأت تباشير الصباح، وابتلى المسلمون في أنفسهم وأموالهم، واحلولك ظلام الفتنة، وبلغت القلوب الحناجر فما هو إلا أن أذن الله بالهجرة إلى طيبة الطيبة فإذا بالخوف ينقلب أمناً، والضعف يصير قوة، والذل يعود عزة ومنعة!.
وارتدتْ الأعرابُ عَقِبَ وفاة النّبي - صلى الله عليه وسلم - ومرجت عقول الناس، واسوّدت المدينة بأهلها، واختلف كبار الصحابة حول مبدأ قتال المرتدين وإنفاذ جيش أسامة الواقف على أسوار طيبة، وفرح المنافقون، وظن مرضى القلوب أنها قاصمة ظهر الإسلام، وما هو إلا زمن يسير عادت فيه معالم الدين من جديد، وتوطدت أركان الدولة.
ورفرفت رايات التوحيد بأنحاء الجزيرة، واجترّت فلول المتنبئين مرارة الهزيمة، ولم يقف الأمر عند ذلك بل زحفت جحافل التوحيد نحو ديار العجم في فارس، والعراق، والشام، واكتملت أقواس النصر فوق مملكتى كسرى وقيصر، ولا عجب ألم يقل ربنا - تعالى -: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ).
والأمثلة من هذا القبيل كثيرة، والمقام مقام تمثيل واستشهاد، لا تفصيل وإطناب.
والمقصود أنّ على حملة الحقّ ودعاة التوحيد أن يستصحبوا هذه المعاني السامية، وهم يخوضون غمار الدعوة، وينطلقون في آفاق الدنيا يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله!.
على الدعاة المخلصين أن يتوقعوا العوائق والمثبطات والتضييق والتشريد، وعليهم أن ينتظروا وأد المشروعات الدعوية في بداية إنشائها وأحياناً في منتصف الطريق، وأخرى عند بدء جني الثمار!.
وعليهم أن يعتقدوا إمكانية غلق أبواب كثيرة من أبواب الخير فلا ييأسوا، وليثقوا بقرب الفرج، وأنّ مع العسر يسراً!
(فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ): وبعد تعداد بعض النعم وزفّ بعض البشائر جاء مسكُ الختام دعوة لهذا النبي الكريم بأنْ يظل دائم الصلة بفعل الخيرات، وإرداف الطاعات بالطاعات، فلا فراغ في حياة المؤمن الجاد فضلاً عن حامل لواء الرسالة - صلى الله عليه وسلم -.
وإنّ نَصَبَ العبادة أو الدعوة أو التعليم ليهون أمام عظم النتائج المتوقعة، من جرّاء هذه الفضائل، والخصال، فكم من الكفار سيُسلمون؟! وكم من العُصاة سيتوبون؟!
وكم من الجُهّال سيتعلمون؟!
حين ينتشر الدعاة في أوساط الجماهير، ويتبوأ العلماء مجالسهم في حلق التعليم!.
ناهيك عن الثواب الأخروي الذي لا ينقضي أو ينقطع في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - والداعية، والعالم، والمجاهد، ورجل الحسبة، وطالب العلم، والعابد، وغيرهم محتاجون احتياجاً ضرورياً، أن يرغبوا إلى الله في عباداتهم، ودعوتهم وتعليمهم، وجهادهم، واحتسابهم، فالرغبة إلى الله شرط أساس في بلوغ المعالي وتحقيق التوحيد، ونيل أعلى الدرجات والثناء الجميل!.
فوائد الآيات:
1- امتنان الله - تعالى - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - بانشراح الصدر ومغفرة الذنوب، ووضع الأوزار.
2- أنّ للذنوب خطراً عظيماً، وثقلاً مُروّعاً ممّا يتطلب من الفطن الحصيف أن يبادر إلى التوبة النصوح والتخلص من شؤمها وقبح آثارها.
3- ارتفاع ذكر النّبي - صلى الله عليه وسلم - وخلوده ما بقيت الدنيا فضلاً من الله ونعمة.
4- البشارة بحصول التيسير إزاء كل عسير بل إنّ اليسار ليضعّف على الإعسار ضعفين.
5- في السورة أعظم زاد للدعاة وأهل العلم والغيرة بالّا يستوحشوا الطريق، ويستصعبوا المهمة، فإنّ الله جاعل لهم من كلّ همٍّ فرجاً!.
6- إرشاد الآيات أصحاب الدعوات، وأرباب المهمات الربّانية بضرورة مواصلة الجهود، وإعمار الأوقات بالباقيات الصالحات.
7- وجوب إفراد المسلم رغبته وصموده وتوجهه إلى الله وحده دون غيره