قال شيخ الاسلام بن تيمية... قوله{ نعبد إلهك وإله آبائك } ... فالتقدير: نعبد إلهك نعبد إلهاً واحداً ونحن له مسلمون فجمعوا بين الخبرين بأمرين بأنهم يعبدون إلهه - وأنهم إنما يعبدون إلهاً واحداً - فمن عبد إلهين لم يكن عابدا لإلهه وإله آبائه وإنما يعبد إلهه من عبد إلهاً واحداً. ولو كان من عبد الله وعبد معه غيره عابداً له لكانت عبادته نوعين: عبادة إشراك، وعبادة إخلاص ... فمن عبد معه غيره فما عبده إلهاً واحداً، ومن أشرك به فما عبده - وهو لا يكون إلا إلهاً واحداً فإذا لم يعبده في الحال اللازمة له لم تكن له حال أخرى يعبده فيها فما عبده........ وإذا كان كذلك لم يكن قوله { إلها واحدا } بدلا . لأن هذا كل من كل ليس هو بدل بعض من كل . فعلم أن إلهه وإله آبائه لا يكون إلا إلها واحدا . والوجه الثاني : قوله { إلها واحدا } نصب على الحال لكنها حال لازمة فإنه لا يكون إلا إلها واحدا كقوله { وهو الحق مصدقا } وهو لا يكون إلا مصدقا . ومنه { ملة إبراهيم حنيفا } { ويقتلون النبيين بغير حق } . فمن عبد معه غيره فما عبده إلها واحدا ومن أشرك به فما عبده .

وهو لا يكون إلا إلها واحدا . فإذا لم يعبده في الحال اللازمة له لم تكن له حال أخرى يعبده فيها فما عبده . فإن قيل : المشرك يجعل معه آلهة أخرى فهو يعبد في حال ليس هو فيها الواحد قيل : هذا غلط منشؤه أن لفظ " الإله " يراد به المستحق للإلهية و يراد به ما اتخذه الناس إلها وإن لم يكن إلها في نفس الأمر بل هي أسماء سموها هم وآباؤهم . فتلك ليست في نفسها آلهة وإنما هي آلهة في أنفس العابدين . فإلهيتها أمر قدره المشركون وجعلوه في أنفسهم من غير أن يكون مطابقا للخارج - كالذي يجعل من ليس بعالم عالما ومن ليس بحي حيا ومن ليس بصادق ولا عدل صادقا وعدلا فيقال : هذا عندك صادق وعادل وعالم وتلك اعتقادات غير مطابقة وأقوال كاذبة غير لائقة .

ولهذا يجعل سبحانه ذلك من باب الافتراء والكذب كما قال أصحاب الكهف { هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } . وقال الخليل { إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا } . وقال { وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون } أي أي شيء يتبع الذين يشركون ؟ وإنما يتبعون الظن والخرص وهو الحزر . هذا صواب وأن ما استفهامية . وقد قيل إنها نافية وبعضهم لم يذكر غيره كأبي الفرج . وهو ضعيف كما قد بين ذلك في غير هذا الموضع .

وقال هود { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون } .

وإذا كانت إلهية ما سوى الله أمرا مختلقا يوجد في الذهن واللسان لا وجود له في الأعيان . وهو من باب الكذب والاعتقاد الباطل الذي ليس بمطابق . وما عند عابديها من الحب والخوف والرجاء لها تابع لذلك الاعتقاد الباطل . كمن اعتقد في شخص أنه صادق فصدقه فيما يقول وبنى على إخباره أعمالا كثيرة . فلما تبين كذبه ظهر فساد تلك الأعمال كأتباع مسيلمة والأسود وغيرهما من أصحاب الزوايا والترهات وما يشرعونه لأتباعهم مما لم يأذن به الله بخلاف الصادق والصدق .

ولهذا كانت كلمة التوحيد { كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء } . وقال في كلمة الشرك { كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار } . فليس [ لها ] أساس ثابت ولا فرع ثابت إذ كانت باطلة كأقوال الكاذبين وأعمالهم . بل هي أعظم الكذب والافتراء مع الحب لها .

والشرك أعظم الظلم . { قال ابن مسعود قلت : يا رسول الله أي الذنب أعظم . قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك } " .

فنفس تألههم لها وعبادتهم إياها وتعظيمها وحبها ودعائها واعتقادها آلهة والخبر عنها بأنها آلهة موجود كما كان اعتقاد الكذابين موجودا . وأما نفس اتصافها بالإلهية فمفقود كاتصاف مسيلمة بالنبوة .

فهنا حالان - حال للعابد و حال للمعبود . فأما العابدون فكلهم في قلوبهم عبادة وتأله لمن عبدوه . وأما المعبودون فالرحمن له الإلهية وما سواه لا إلهية له بل هو ميت لا يملك لعابديه ضرا ولا نفعا .

{ قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } وهو في أصح القولين { سبيلا } بالتقرب بعبادته وذكره . ولهذا قال بعدها { تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده } فأخبر عن الخلائق كلها أنها تسبح بحمده . وقد بسط هذا في موضع آخر .

فقوله { نعبد إلهك } { إلها واحدا } إذا قيل إنه منصوب على الحال فإما أن يكون حالا من الفاعل العابد أو من المفعول المعبود . فالأول : نعبده في حال كوننا مخلصين لا نعبد إلا إياه . والثاني نعبده في الحال اللازمة له وهو أنه إله واحد فنعبده مخلصين معترفين له بأنه الإله وحده دون ما سواه .

فإن كان التقدير هذا الثاني امتنع أن يكون المشرك عابدا له فإنه لا يعبده في هذه الحال وهو سبحانه ليست له حال أخرى نعبده فيها . وإن كان التقدير الأول فقد يمكن أن نعبده في حال أخرى نتخذ معه آلهة أخرى في أنفسنا .

لكن قوله { إلها واحدا } دليل على أنها حال من المعبود بخلاف ما إذا قيل : نعبده مخلصين له الدين فإن هذه حال من الفاعل .

ولهذا يأتي هذا في القرآن كثيرا كقوله { فاعبد الله مخلصا له الدين } وقوله { قل الله أعبد مخلصا له ديني } . فهذا حال من الفاعل فإنه يكون تارة مخلصا وتارة مشركا . وأما الرب تعالى فإنه لا يكون إلا إلها واحدا .

والحال وإن كانت صفة للمفعول فهي أيضا حال للفاعل . فإنهم قالوا : نعبده في هذه الحال . فلزم أن عبادتهم له ليست في غير هذا الحال . وبين أن قوله { نعبد إلهك وإله آبائك } . . . { إلها واحدا } هي حال متعلقة بالفاعل والمفعول جميعا بالعابد والمعبود . فإن العامل فيها المتعلق بها العبادة وهي فعل العابد والذي يقال له المفعول في العربية هو المعبود .

كما قيل في الجملة { ونحن له مسلمون } . قيل : هي واو العطف وقيل واو الحال أي نعبده في هذه الحال . قالوا : وهي حال من فاعل " نعبد " أو مفعوله لرجوع الهاء إليه في " له " وهذا الترديد غلط إذ هي حال منهما جميعا . فإنهم إذا عبدوه وهم مسلمون فهم مسلمون حال كونهم عابدين وحال كونه معبودا إذ كونهم عابدين وكونه معبودا ليس مختصا بمقارنة أحدهما دون الآخر .

فالظرف والحال هنا كلمة وليست مفردا ولهذا اشتبه عليهم . فإن المفرد لا يمكن أن يكون في اللفظ صفة لهذا وهذا . فإذا قلت : ضربت زيدا قاعدا فالقعود حال للفاعل أو المفعول . وإذا قلت : ضربته والناس قعود فليس هذه الحال من أحدهما دون الآخر بل هي مقارنة للضرب المتعلق بها كأنه قال : ضربته في زمان قعود الناس . فهو ظرف للفعل المتعلق بالفاعل والمفعول بخلاف ما إذا قلت : ضربته في حال قعودي أو قعوده فهذا يختلف .

والآية فيها { إلها واحدا } . فهذه حال من المعبود بلا ريب . فلزم أنهم إنما عبدوه في حال كونه إلها واحدا وهذه لازمة له .

وإذا قيل المراد : في حال كونه معبودا واحدا لا نتخذ معه معبودا آخر فهذه حال ليست لازمة لكنه صفة للعابدين لا له . قيل : هذا ليس فيه مدح له ولا وصف له بأنه يستحق الإلهية . لكن فيها وصفهم فقط .

وأيضا فقوله { إلها واحدا } كقوله { وإلهكم إله واحد } فهو في نفسه إله واحد وإن جعل معه المشركون آلهة بالافتراء والحب . فيجب أن يكون المراد ما دل عليه هذا الاسم .

ولو أرادوا ذلك المعنى لقالوا : نعبده مخلصين له الدين . وهذا المعنى قد ذكروه في الجملة الثانية وهي قولهم { ونحن له مسلمون } لا سيما إذا جعلت حالا أي نعبده إلها واحدا في حال إسلامنا له .

وإسلامهم له يتضمن إخلاص الدين له وخضوعهم واستسلامهم لأحكامه بخلاف غير المسلمين .

ولهذا قال آمرا للمؤمنين أن يقولوا { آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } .

ثم قال { صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون } { قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون } . [مجموع الفتاوى]