جهاد السلف في حفظ العقيدة
محمد بن عبد الرحمن المغراوي
إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شُرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
وبعدُ:
فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله -تعالى- وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشرَّ الأمور مُحدَثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
أيها الإخوة: هذا الموضوع العظيم الواسع أريد أن أُلَخِّص للإخوة مَعالِمَه باختصار، وإلا فقد جمعتُ في هذا الموضوع كتابًا سميته: "العقيدة السلفيَّة في مسيرتها التاريخية، وقُدرتها على مواجهة التحدِّيات"، وقد بلغتُ فيه إلى أكثر من ألف ومائتي إمام من الذين لهم مواقف، ولهم جهودٌ عمليَّة في الدِّفاع عن العقيدة السلفيَّة، ألف ومائتا إمام.
وهذه العقيدة مرتبطةٌ ارتِباطًا لا انفِكاك له منذ بداية النبوَّة وإلى أنْ تقوم الساعة، فالذي يرجع إلى الكتب السماويَّة كلها يجدها كلَّها على منهجٍ واحد في باب العقيدة، ولا تختلف، فكلُّها تصبُّ في مصبٍّ واحد، وكلُّها تجري من منبعٍ واحد، وبنهرٍ واحد.
فالذي يرجع إلى كتاب الله الذي عصَمَه الله -تبارك وتعالى- من التحريف، والذي تكفَّل بحفظه وقال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر: 9]، يجد أنَّ الأنبياء من نوح - عليه السلام - وإلى نبيِّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - يجدُهم كلَّهم على قلب رجلٍ واحد، وعلى دعوةٍ واحدة، وما جرَى لهذا النبيِّ يجري لأخيه الذي يأتي بعدَه، أو الذي يُعاصِره وهو في زمنه، فكلهم اتَّفقوا على أصول الدعوة إلى عقيدةٍ واحدة، ما من أحدٍ منهم إلا وقال: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)[الأعراف: 59]، فكلُّهم في دعوتهم إلى التوحيد كانت كلمتهم كلمةً واحدة، فلهذا جميع المواقف، وجميع المناظرات، وجميع ما وقَع من الأنبياء مع أممهم في الجدال تجدُه كلَّه كلامًا واحدًا، وكلَّه على مِنهاجٍ واحد، لا يختلف هذا عن هذا؛ فلهذا الذي يستعرض مواقف الأنبياء ابتداءً من نوح الذي بدَأت الخُصومة في عهده وإلى نبيِّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - يجدُ هذا الأمر، وحدةً متكاملة لا يختلف نبيٌّ عن نبيٍّ أبدًا في كلِّ الأصول، وفي كلِّ العروض، وفي كلِّ المناهج.
فلهذا أصحابهم كانوا على مناهجهم جميعًا، فكلُّ أصحاب الأنبياء - عليهم الصلاة السلام - كانوا على هذا المنهاج؛ فلهذا إذا رجعنا إلى تراجم صَحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبدأنا بأفضَلِهم وإمامهم الصِّدِّيق - رضي الله عنه - وإلى آخِر صَحابي توفيًا بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نجدُهم كلهم على مِنهاج رجلٍ واحد ابتداءً من الصديق وإلى أبي الطفيل الذي كان آخِرَهم وفاةً على اختلافٍ بين المُؤرِّخين، هل هو أبو الطفيل أم هو أنس بن مالك، والراجح أنَّ أبا الطفيل هو آخِر صَحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفاةً، فتجدُهم كلَّهم على موقف رجلٍ واحد.
إنْ جئت إلى الصِّدِّيق - رضي الله عنه - ودرست سِيرته وتاريخه في مُواجهة أهل الردَّة، وفي مواجهة مُدَّعي النبوَّة، وفي مواجهة مانعي الزكاة، وفي مُواجهة الزنادقة والملاحدة - تجده كبقيَّة صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا فرق بين الصِّدِّيق في جِهاده في حروب الردَّة بجميع أصْنافها، ولا بما فعَلَه الإمام علي - رضي الله عنه - الذي حفَر للزنادقة فأحرقهم، ولا فرق بينهم وبين مواقف ابن مسعود الذي كانت حَياته كلها في محاربة أهل البِدَعِ، ولا فرق بينه وبين الخليفة الثاني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في حَرْبِه لكلِّ الكفار والفجرة والمنافقين، وأهل الردَّة وأهل الباطل، وهكذا كلُّ الصحابة من ابن عباسٍ، ومن عائشة أمِّ المؤمنين، ومن بقيَّة الصحابة الذين كانوا على قلْب رجلٍ واحدٍ لا يختلفون في مُحارَبة أهل الباطل، وفي محاربة المخالفين لهذه العقيدة المباركة.
ولو عددنا الصحابة واحدًا واحدًا لوجدنا كلَّ واحدٍ منهم يستغرق محاضرات وليست محاضرة واحدة، فالذي يتتبَّع مواقف ابن مسعود يجدُها كثيرة، والذي يتتبَّع مواقف علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يجدُها كثيرة، والذي يتتبَّع مواقف عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس يجدُها كثيرةً، والذي يتتبَّع مواقف عمر - رضي الله عنه - يجدُها كثيرة، وهكذا تجدُ سِيرة كلِّ واحدٍ ومَواقفه في الدِّفاع عن هذه العقيدة، تجدُها تستَغرِق مجلدًا كبيرًا؛ فلهذا كما قلت: إنَّ هذه العقيدة وحدة متكاملة من عهد نوح وإلى أنْ تقومَ الساعة - إنْ شاء الله-.
فإذا انتقلنا إلى عهد التابعين نجدُ الأمر كذلك، أخَذ التابعون - رضي الله عنهم - عُلومَهم عن الصحابة في كلِّ شيء؛ في العقيدة، في الحديث، في الفقه، في التفسير، في الأصول، في كلِّ أصول الدين، وكان منهاج التابعين - رضي الله عنهم - على منهاج الصحابة - رضوان الله عليهم - لا فرق بين هذا وبين هذا، فكلُّهم اتَّفقوا على محاربة أهل الباطل، ومحاربة أهل النِّفاق.
فلمَّا ظهَر أهل الباطل ورفَعوا رُؤوسهم وكان هذا الأمر في دولة بني عباس أكثر، وأمَّا في دولة بني أميَّة فقمعهم الصحابة، وقمعهم خُلَفاء بني أميَّة، فكانوا يقطعون رؤوسهم، وكانوا يصلبونهم، وكانوا يُحاربونهم بالليل وبالنَّهار، فما استَطاع أهل البِدَع في هذا الوقت في زمن بني أميَّة أنْ يرفَعوا رؤوسهم، فما أنْ جاء عهد بني العباس إلا وقد ظهَر المبتدِعة، وأظهَروا أصولهم، وظهرت فرقهم؛ فلهذا تصدَّى لهم عُلَماء الإسلام، وإنْ كان صدرُ دولة بني العباس أيضًا في محاربة أهل البدع، وقد أقام المهدي - رحمه الله - ديوانًا لمحاربة المنحرِفين عن العقيدة، وكذلك الرشيد - رضي الله عنه - فله مواقفُ عظيمة في محاربة أهل البدع، ومحاربة المخالفين؛ فإنه - رضِي الله عنه؛ أي: الرشيد - كان عنده عمُّه، وكان عنده أحدُ المحدِّثين وهو أبو معاوية الضرير، فذكر حديث محاجَّة موسى لآدم، فقام عمُّه وقال بلفظه: أين التَقَيا؟ ففهم الرشيد من هذه الكلمة من عمِّه أنَّه يعترض على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه القضيَّة، لأنَّ عمه قال: أين التقيا؟ أين التقى موسى مع آدم في المحاجَّة؟
وكأنَّ الرشيد - رضي الله عنه - استغرب هذا الموقف من عمِّه، فماذا قال الرشيد الخليفة العظيم الذي حاوَل أهلُ الرفض وأهل الباطل أنْ يجمعوا له كل فرية، فيجمعونها في كتب الأدب كما فعل - مع الأسف - الأصفهاني في كتابه المسمى "الأغاني"، فجمع هو وغيرُه من أهل الباطل ومن أهل الرفض والخسران في تراجُم هؤلاء الخلفاء ما لا يَلِيق بكبار الفسَّاق، فضلاً عن هؤلاء المجاهدين الذين عُرِفوا بالسِّيرة الحميدة، وعُرِفوا بجهادهم، وعُرِفوا بحجِّهم.
الرشيد لما سمع هذه الكلمة من عمِّه كما ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في بِدايته، وكما ذكره غيره، قال: عليَّ بالنطع والسيف؛ يريد أنْ يضرب عنق عمِّه لَمَّا اعترض على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: أين التقيا؟ فبدأ الناس يشفَعون عنده ويتوسَّطون لديه في عمه، فإنَّ عمَّه قد أقسم بالله أنَّه ما قال هذه الكلمة اعتِراضًا، وإنما قالها استفسارًا، ومعرفة، وتعلُّمًا، وبقي مدَّة في السجن، ثم أخرجه لما كثرت الشفاعة فيه، ولَمَّا أقسَمَ بالله أنَّه لا يريد اعتِراضًا، وإنما يريد التعلُّم.
كان خُلَفاء بني أميَّة من معاوية - رضي الله عنه - وأرضاه - وإلى بقية الخلفاء، كانوا جميعًا في وُجوه المبتدِعة من قدريَّة ومن مُرجِئة ومن غيرهم الذين ظهَروا في عهدهم، لكن ما أنْ جاء زمَنُ المأمون، وأظهر المأمون لما أقنعه المعتزلة ببدعة خلق القرآن هذه القضية كانت في الحقيقة وباءً وكانت محنةً على المسلمين، ليس فقط على ظهر الإمام أحمد - رضي الله عنه - وأرضاه - ولكن كانت هذه المحنة على جميع أهل العلم، على العلماء كلهم، فما من عالِمٍ في ذلك الوقت إلا ونالَه شَرارٌ من تلك المحنة إلا الإمام أحمد - رضي الله عنه - وأرضاه - الذي أظهر الثبات في ذلك، والذي تناوَلَه ثلاثةٌ من خُلَفاء بني العباس: تناوَلَه المأمون، ثم المعتصم، ثم الواثق، ثم - رحمه الله - تعالى - بالمتوكل الذي رفَع عنه المحنة.
المهمُّ هنا الذي أريد أنْ أقوله: إنَّ كلَّ زمنٍ من الأزمنة في زمن الصحابة كان له أمرٌ، وفي زمن التابعين كان له أمرٌ، وفي زمن أتباع التابعين كان له أمرٌ.
وبدأت البدع في وقت مُبكِّر في قضيَّة الخوارج، وكما تعلَمون ظهر الخوارج في عهد عليٍّ - رضي الله عنه - وظهر الرفض من ذلك الوقت، وتعلَمون جميعًا أنَّ الرفض كان موبقةً من طرف المجوس، فالمجوس هم الذين بيَّتوا بدعة الرفض، ودخَل عبد الله بن سبأ اليهودي اليمني المعروف الذي جاء ببدعة الرفض، وأظهَر حبَّ آل البيت، وأظهر ما أظهره من الباطل، فهو مُؤسِّس الرفض.
وظهر الخوارج في عهد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأرضاه - وظهر الرفض إذًا في هذا الوقت ولكنَّه كان بشكل ضيِّق ولم يكن الرفض على ما أصبَح عليه فيما بعدُ من قوَّة ومن أصول، ومن مُناظِرين ومن علماء ومن مصادر، ومن غير ذلك ممَّا هو معروفٌ في تاريخ هذه الأمَّة.
وظهر الجهم بن صفوان، وهذا كان ظهوره في آخِر عهد بني أميَّة لما ظهر الجعد بن درهم الذي كان أستاذ مروان آخِر خُلَفاء بني أميَّة الذي يُسمَّى بمروان الحمار، وكان هذا المبتدِع الذي هو الجعد بن درهم كان شُؤمًا على خِلافة بني أميَّة، وكان شُؤمًا على مروان، فبه انتهت خِلافة بني أميَّة، وهو الذي ذبحه خالد القسري - رضي الله عنه - وقال: ضحُّوا تقبَّل الله ضَحاياكم، وأنا أضحِّي بالجعد بن درهم، فنزل من خطبة العيد وذبحه كما تُذبَح الخراف، فرضي الله عنه وأرضاه من إمامٍ ذبح هذا المبتدِع، وجعَلَه عبرةً للذي يأتي من بعده.
فمن هذا الحين ظهَرت البِدَع، وبدأت ترفَع رؤوسها؛ بمعنى: أُسُس البِدَع، وأصول البدع، ظهرت في وقت مُبكِّر؛ فلهذا تصدَّى عُلَماء الإسلام - رضي الله عنهم - وأرضاهم - لمحاربة هذه البِدَع، إمَّا بالتأليف الخاص، وإمَّا يُدخِلونها في تأليفهم العام؛ فلهذا تجد في كتب التفاسير التي أُلِّفت في العصور الأولى مباحثَ في الردِّ على هذه الفِرَق هي بحوثٌ طويلة؛ كما هو واقعٌ في تفسير الإمام محمد بن جرير الطبري الذي تُوفِّى - رضي الله عنه وأرضاه - في سنة 310هـ، هذا التفسير في الحقيقة يُعتَبر آيةً من آيات الله ومن حِفظ الله -- تبارك وتعالى -- لهذا الدِّين، هذا التفسير الذي نقَل أقوال التابعين ونقَل أقوال السلف بأسانيده التي أسنَدَها، والتي بعضها فيها ضعف، لكنْ بمجموع ما في هذا الكتاب من خير، ومن أسانيد، ومن آثار عن السلف الصالح، فإنَّه يُعتَبر آيةً من آيات الله ومن أعظم ما وصَل إلى المسلمين الآن من تفاسير في جمْع كلام السلف، فتجدُ الحافظ ابن جرير - رضي الله عنه وأرضاه- في تفسيره إذا جاء إلى قضيَّة الرؤيا فإنَّه يُسهِب في ذِكر الأسانيد وفي ذِكر الطُّرق وفي ذكر المتن وفي ذكر كلام السلف - رضي الله عنهم وأرضاهم - حتى إنَّك إذا أردت أنْ تجمَع في موضوعٍ واحد رسالة كاملة ومؤلَّفًا كاملاً في هذه القضيَّة لفعلت؛ لما يُولِيه هذا الإمام - رحمه الله - من عنايةٍ للدفاع عن العقيدة السلفيَّة في كلِّ ما وقَع من هؤلاء المنحرِفين.
فإذا رجعت إلى آية الرؤيا في كتاب الله فإنَّك تجمَع من هذا الكتاب مجلَّدًا كبيرًا، وكذلك قضيَّة الاستواء، فإنَّه يرد ردًّا عظيمًا على فِرَق الضلال الجهميَّة، الذين يُؤوِّلون الاستواءَ بالاستيلاء، ويأتي بشَواهِد اللغة العربيَّة، ويأتي بالنُّصوص، ويأتي من الآثار ما يُشبِع مَن أراد أنْ يأخُذ عِلمَه من السلف الصالح، ومَن يُرِيد أنْ يقتنع بالمنهاج السلفي، فإنَّ الإمام ابن جرير - رضي الله عنه وأرضاه ورَحِمَه - فإنَّه يأتي في كلِّ مسألةٍ، ويقفُ عندها وقوفَ المدافع عن هذه العقيدة، لا موقف الذي يحكي فقط والذي يروي فقط، ولكنَّه يذكُر الشُّبهة ويردُّها شبهةً شبهة، فرَضِي الله عن الإمام ابن جرير وأرضاه لهذا الكتاب العظيم الذي ما رأتِ العينُ مثلَه أبدًا حتى الآن، وقد ذهَب على طريقته كثيرٌ من المفسِّرين، وكثيرٌ من أهل التفسير، فإنهم ما قصروا في هذا الأمر، وساقوا من الآثار في هذا الباب ما يجعَل المسلم إنْ رجَع إلى هذه المصادر يجدُ هذا الدِّين محفوظًا بحِفْظِ الله في وقتٍ مُبكِّر.
إنَّ هذه الكتب كلَّها جُمِعتْ من وقتٍ مبكر، فالإمام ابن جرير - كما أشرتُ - عاش في القرن الثالث وتُوفِّي 310؛ أي: عاش في القرن الثالث ومات في القرن الرابع، وكذلك ابن أبي حاتم في تفسيره، فتجد هذا التفسير أيضًا في سِياقٍ عظيم، وفي أسانيد طيِّبة، وفي آثارٍ جميلة، وإنْ كان بعضها لا يخلو من الضعف في أسانيده.
وكذلك تفسير الإمام عبد الرزاق الصنعاني الإمام المعروف صاحب المصنَّف، هذا الإمام أيضًا ألَّف تفسيرًا في هذا الباب، وكذلك عبد بن حميد تفسيره كذلك على هذا المنهاج، وكذلك ابن مردويه في تفسيره، ونقل منه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره الكثير من الأسانيد والطُّرق والمتون ما لو جمَعَه طالب علمٍ لأخرَجَ في ذلك مجلدًا كبيرًا، وهذا التفسير الآن مفقودٌ ولا تُوجَد منه نسخةٌ - فيما علمت من مخطوطات ومن مطبوعات - وكذلك بقي بن مخلد الأندلسي الإمام المحدِّث المعروف، فإنَّ له تفسيرًا كبيرًا ينقل منه الحافظ أبو عمر بن عبد البر - رحمه الله - في تمهيده ينقل منه الكثير.
وهو أيضًا على منوال السَّلَفِ وعلى مِنهاجهم، وكذلك تفسير سني، وغيرها من التفاسير، وهذه التفاسير كلُّها التي ذكرت، كلها استَفاد منها الحافظ ابن تيميَّة - رحمه الله - في كتبه كلها، ولا سيَّما في كتابه "درء تعارض العقل والنقل" فرضي الله عنه، ما ترك تفسيرًا من تفاسير السلف إلا ونقَل منه في هذا الكتاب، وأشار إليه في كتابه "درء تعارض العقل والنقل".
وسبب تأليف كتاب الإمام الشافعي - الإمام الشافعي - رحمه الله - المتوفَّى سنة 204هـ، هذا الكتاب الذي هو الرسالة ردَّ فيه الشافعي - رحمه الله - على المُنكِرين لخبر الآحاد أو لأحاديث الآحاد، هذه الفكرة القبيحة افتعَلَها المعتزلة، ودسوا هذا الفكر القبيح الذي هو ردُّ أحاديث الآحاد في باب العقيدة، ويُعلِّلون ذلك بعِلَلٍ، هذا الأمر بدأ في زمن مبكِّر؛ أي: في زمن الإمام الشافعي - رضي الله عنه - فانبرى الإمام الشافعي - رضي الله عنه وأرضاه - لهذه الفكرة فألَّف كتابه "الرسالة" التي تُعتَبر أوَّل مُؤلَّف أُلِّفَ في أصول الفقه، فتُعتَبر الباكورة الأولى أو الثمرة الأولى في أصول الفقه.
هذا الكتاب لو قرأه القارئ، ورأى الأسلوب الذي سلَكَه الإمام الشافعي - رضي الله عنه وأرضاه - في ردِّه على هؤلاء المبتدِعة لرأى العجب العجاب، وعُمدة كلِّ مَن جعَل الإمام الشافعي هو هذا الكتاب.
إنْ كان أبو محمد بن حزم - رحمه الله - في كتابه "إحكام الأحكام" الذي ذكَر من الأدلَّة العجب العجاب في الردِّ على هذه الفرية وعلى هذه الطائفة الضالَّة التي تردُّ أخبار الآحاد، فإنَّه استفاد من الشافعي الذي تُوفِّي في وقتٍ مبكِّر كما قلنا في سنة 204هـ - رضي الله عنه وأرضاه-.
وكذلك نجدُ كتاب "الموطأ"؛ للإمام مالك - رحمه الله - فإنَّ هذا الكتاب الذي يتَبادَر إلى الأذهان جميعها، فإنَّ هذا الكتاب كتابُ فقهٍ وأحكام لا كتاب عقيدة، ويذكُر الإمام ابن تيميَّة - رحمه الله - في فتاويه؛ أي: "الفتاوى الكبرى" في الجزء الخامس يقول بالحرفِ الآتيَ: يقول الإمام مالكٌ - رحمه الله - بأنَّه ألَّف هذا الكتاب خوفًا من الجهميَّة الذين يُغيِّرون دِين الله.
بما أنَّ الإمام مالكًا - رضي الله عنه - كما تعلمون تُوفِّي سنة 179هـ؛ أي: في القرن الثاني، فهو من أتْباع أتباع التابعين، بمعنى: أنَّ الموطأ من أوَّله إلى آخِره روايات صاحِبها عن التابعين، فقد جمَع الإمام مالك - رضي الله عنه - وأرضاه - في هذا الكتاب من خير التابعين ومن سادتهم ومن أئمَّتهم، فهو ألَّف هذا الكتاب -كما قال الإمام ابن تيميَّة - خوفًا من الجهميَّة أنْ يضلُّوا الناس، بمعنى أنْ يسيرَ الضَّلال؛ يعني: من الجهمية للناس.
وبمعنى أنَّ الموطأ الذي أُلِّفَ في وقت مبكر، بل يعتبر هذا الكتاب - الذي هو الموطأ - أقدمَ وثيقةٍ وأقدم كتابٍ وصَل إلينا من كتب الحديث، ولا أعني أنَّ الحديث لم يُكتَب قبل ذلك الكتاب بل إنَّ الحديث كُتِبَ في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما جاء عن عبدالله بن عمرو بن العاص، وكما في صحيفة جابر، وكما في صحيفة أبي هريرة التي رواها مسلمٌ في صحيحه، وكما في الصحف الأخرى التي كُتِبتْ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكنْ جمْع السنَّة النبويَّة بصفةٍ منظَّمة كان في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه وأرضاه - لما كتب إلى محمد بن شهاب الزهري الذي أمَرَه بجمع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن السنَّة بدَأت في القرن الثاني وفي القرن الثالث، وظهر النتاج الكبير في القرن الرابع، فالإمام مالكٌ - رحمه الله - يُعتَبر من أقدم مَن ألَّف في علم الحديث، بل الآن في واقع الطباعة وفي واقع المطبوعات لا يوجد أقدَم من كتاب الإمام مالك - رضي الله عنه وأرضاه-.
وهناك بعض الكتب المنتشرة وهي لا أصل لها، ومنها ما يُسمَّى بـ"مسند الربيع"، فهذا الكتاب لا أصل له، وهو كتابٌ مُختَلق، وكتاب مخترع، فأقدم كتاب - أكرِّر - هو كتاب الإمام مالك - رضي الله عنه - وأرضاه - وقد حظي هذا الكتاب بشُروح كثيرة، وحظي بخدمةٍ كبيرة، والذي يرجع إلى هذه الخدمة لموطأ الإمام مالك يرى العجب العجاب، ويرى أنَّ الدين قد - حفظه الله تبارك وتعالى- بحفظٍ دقيق.
واتباعًا للقُرآن كما قال الله -تبارك وتعالى-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر: 9]، فتصدَّى الإمام الحافظ أبو عمر ابن عبد البر الأندلسي - رحمه الله - إلى شرح هذا الكتاب بشرحين عظيمين:
الأول: وهو كتاب "التمهيد"، وكتاب التمهيد هذا ألَّفَه الإمام ابن عبد البر - رحمه الله - على طريقة شُيوخ الإمام مالك؛ بمعنى: أنَّه أرجع أسانيد الإمام مالك إلى الشيوخ، ورتَّبَه على طريقة الشيوخ على الطريقة الأبجديَّة؛ أي: الحروف بالترتيب المغربي، لا بالترتيب المشرقي؛ لأنَّ ترتيبَ الحروف يختَلِف فيه المغاربة مع المشارقة، ويختلفون في قِراءة الحروف وفي حِفظ الحروف، وفي التقديم وفي التأخير، فالحافظ ابن عبد البر - رحمه الله - ذهَب في ترتيبه لهذا الكتاب ذهَب على طريقة المغاربة، لا على طريقة المشارقة، فأخَذ في هذا الكتاب الحديث المرفوع أو ما هو في حُكم المرفوع، وكان هذا الكتاب وهو موسوعةٌ كبيرة من موسوعات الحديث في وقتٍ مبكر، وتجد إنْ رجعت إلى هذا الكتاب الحافظَ بن عبد البر - رحمه الله - قد جمَع في هذا الشرح ما كتب في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مسانيد ومن سنن ومن آثار ومن فقه ومن علم، فقد جمَعَه - رضي الله عنه - في هذا الكتاب، هذا الكتاب في الحقيقة من أندَرِ الكتب، ومن أعظَمِها ومن أقلها خطأ في باب العقيدة.
وقد رتَّبتُه ترتيبًا فقهيًّا، ورأيت أنَّ الإمام ابن عبد البر - رحمه الله - في شرحه لهذا الكتاب يُدافِع عن العقيدة السلفيَّة، ويُدافع عن الرُّجوع إلى كتاب الله وإلى سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد جمعت في العقيدة فقط مجلَّدين كبيرين وجمعت فيهما تسعة كتب من كتب العقيدة، فالحافظ ابن عبد البر - رحمه الله - في شرحه لموطأ الإمام مالك تراه يُؤصِّل للعقيدة السلفيَّة، وقد ذكَر من البحوث العظيمة ما إذا قرَأَه طالب العلم رأى كيف كان منهاج السلف - رضي الله عنهم - في تفصيل العقيدة.
يتبع