في الفن الاجتماعي
سلمان بن فهد العودة



"الفن"عملية جمالية ترتقي بحس الإنسان وسلوكه لاستعمال الذوق واللياقة الاجتماعية، فهو جانب من جوانب الأخلاق الفاضلة والسلوك الحسن في التعامل مع النفس البشرية ومع الآخرين.
والبشرية تعرف في أصول حسها أساس التعامل الراقي وتميزه، وتعرف بأن هذا السلوك معلم من معالم الفكر الحضاري الذي ينبغي أن تنطبع به الأمة ويشيع بين أفرادها، ولذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل القرى عن الرجوع إلى البادية والسكن فيها؛ لأن ذلك الرجوع يبعث نوعاً من افتقاد الحس المرهف في التعامل مع الآخرين والسلوك الحضاري الراقي.
إن الفن الاجتماعي شيء داخلي شعوري قبل كل شيء، فهو شعور وإحساس باحترام الآخرين وتقديرهم، ومراعاة أحاسيسهم ومشاعرهم، والاعتراف بحقوقهم السلوكية والأخلاقية التي تفرضها الديانات والحضارات والعادات.
كان في وصية لقمان لابنه: (واقصد في مشيك واغضض من صوتك؛ إن أنكر الأصوات لصوت الحمير)، فقوله - سبحانه -: (واقصد في مشيك) نوع من التفنن الاجتماعي والسلوك الراقي في المشي الذي لا يكون سريعاً مخيفاً ولا بطيئاً ثقيلاً، وقوله - جل وعلا -: (واغضض من صوتك) وجه آخر للفن الاجتماعي في الصوت وطريقة الحديث، فالصراخ والإزعاج والضجيج نقيض الهدوء والرزانة والعقل والاتزان، والهمس يخالف الوضوح والإبانة التي جعلها الله من خصائص الإنسان (خلق الإنسان * علمه البيان).
ولقد نهى الإسلام عن استعمال العبارات المرذولة، والإسفاف في الحديث واستخدام الألفاظ التي لا تليق بالمستوى العلمي والثقافي والاجتماعي للمسلم العادي، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن المؤمن ليس باللعان ولا الطعان ولا الفاحش ولا البذيء))، فاللعان: كثير اللعن والشتم، والطعان: كثير السب والذم، والفاحش: الذي يتحدث عن الفحش والكلام السيئ الساقط، والبذيء: الجريء على ما لا يصح ذكره ولا ينبغي تناوله، كل ذلك حفاظاً على معنى اللياقة والفن الاجتماعي الذي حرص الإسلام على أن يتحلى أتباعه المسلمون بهذا السلوك المحمود، ويقول أنس - رضي الله عنه -: "خدمت النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، لا والله ما سبّني سبة قط، ولا قال لي أفٍّ قط، ولا قال لي لشيء فعلته: لِمَ فعلته؟! ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته؟!".
فانظر إلى دقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مراعاة الأحاسيس، واختيار وانتقاء العبارات، فهو يمر على الشيء لا يسأل، ولا يدفعه الفضول ولا التدخل ولا الرغبة في التعليم على أن يمس شعوراً دقيقاً لأصحابه - عليه السلام -، فكان يعلمهم حتى بالابتسامة والحركة اليسيرة من يده الشريفة، في مستوى عالٍ من الأدب والتعامل والأخلاق.
ولقد تحلى عباد الله المؤمنون بصفات اللياقة الاجتماعية واللياقة والفن السلوكي، كما وصفهم الله بكتابه، وذكر صفاتهم، فقال - سبحانه وتعالى -: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا)، أي: مشياً معتدلاً هادئاً في التخاطب والتحاور والحركة، (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً)، فإذا عاملهم الجاهلون الغاضبون الحمقى بالحمق والجهل ردوا بالتحية التي تعبر عن صاحبها، فكل يعبر عن ما بداخله، فالجاهل يدل عليه جهله وحمقه والعاقل يدل عليه حلمه وعقله:
وحيّ ذوي الأضغان تسبِ قلوبهم *** تحيتك الحسنى وقد يرقع النعل
فإن دحسوا بالكره فاعف تكرما *** وإن خنسوا عنك الحديث فلا تسل
فإن الذي يكفيك منه سماعه *** وإن الذي قالوا وراءك لم يقل
إن اللطافة في الحديث، والدقة في العبارات والحركات، وتجنب فضول الكلام، وفضول الأسئلة، وفضول النظر يعين على رفع قدر اللباقة واللياقة، ويتعود الإنسان المسلم على الإحساس بالفن الاجتماعي ومراعاة الذوق.
إننا - بصراحة تامة- نحتاج لقيم الفن والجمال الاجتماعي كي نتحلى بها في علاقاتنا وفهم أنفسنا، وفهمنا للآخرين في كل مرافق الحياة، من مرافق التعليم التي تشكو سيطرة الاتهام المتبادل، واشتهار الكتابة السيئة على الكتب والدفاتر وجدران المدرسة، وفي المجتمع من الكتابات السيئة في كل مكان وافتقاد النظافة، وحاجتنا لتنظيم سيرنا، واحترام حقوق الآخرين من المشاة والركاب في السير وأفضلية المرور، ومراعاة أصحاب الظروف الخاصة، وفي السوق من اشتهار البذاءة والقذارة، وبعثرة النعمة التي منحنا الله إياها، وفي العمل من تقديم الأصلح، وتنظيم العمل وترتيبه، والبعد عن الفوضى التي تُشيع في كل مكان جوًّا من قلة الترتيب وقلة الذوق، والبعد عن الإحساس بالفن الاجتماعي الذي يجعل من علاقاتنا مجالاً لتبادل المنافع والخبرات برحابة صدر وبحب، إننا نحتاج إليه ليجعل من أماكن عملنا وجلوسنا وبيوتنا وشوارعنا وكتبنا ومرافقنا العامة والخدمات تحفاً فنية تدفع إلى العمل والإبداع، وتحث على الإنجاز، وتقدم صورة بديعة للمسلم النظيف الفنان.
إن "الفن" ينبغي أن لا يكون محصوراً في نافذة قد تكون من نوافذه أو لا تكون، بل هو معنى عام يشمل كل جوانب الجمال والشعور والإحساس الجذاب بالحياة ليجعل منها صورة مكتملة الإبداع، وعملاً فنياً يبلغ الغاية في الإتقان والإحسان.
ولما قال أحد الصحابة للرسول - صلى الله عليه وسلم - معبراً عن المعنى الفطري للذائقة البشرية التي تحب الفن-: "يا رسول الله، إن أحدنا يحب أن تكون نعله حسنة وثوبه حسناً"، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -مؤكدا هذا المعنى الشريف-: ((إن الله جميل يحب الجمال)) صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -