العلماء بين مطرقة الفتوى وسندان الثائرين
داود العتيبي


الحمد لله الذي نوّر بصائرنا بالعلماء، وعضد سواعدنا بالفقهاء، وبعد:
إن سنة الله التي شرعها وتكفَل بها حفظُ الدين، ومن لوازم حفظِ الدين حفظُ رواته ونقلته الذين هم علماء الأمة ومصابيح الهداية.. العلماء وما أدراك ما العلماء؟ هم روح الحياة وريحانها، وعَبَق الدنيا وزينتها، بهم اهتدى الساري، واسْتضاء الداجي.. فللهِ درّهم كم جاهل علموه، وحائر هدُوه، وهائم أخذوا على يده، بَيْد أنه ظهرت زمرةٌ من الشباب ترفع رأسها بين فينة وأخرى قليلٌ علمهم، كثيرٌ جهلهم، طائفةٌ شيوخهم صحائفُهم، أهوائهم متفرقة، وقلوبهم مبعثرة، تتلقفهم الأهواء والبِدع، تصبُوا إليهم الفتن والشبهات، حيارى ويحسبون أنهم يُحسنون صنعا.. - هؤلاء الشَّبَبَة حديثوا الأسنان، سفهاء الأحلام، اجترؤوا على الدين فداسوا عرينه، واعتلوا الشريعة بلا نسب في العلم، ولا حَسب في الفهم.. غفلوا وتغافلوا عن مصيبة وبلية ألا وهي أن الطعنَ في عامة العلماء طعنٌ في الدين، وانتقاصَهم انتقاصٌ لشريعة رب العالمين الذي يقول: ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم)، ويقول إذ يُشهدهم على أعظم العظائم: ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأُلُوا الْعلم).. فاعلم أيها الغافل زِنَتَهم عند الله وفضلهم لديه.. ولكن هذه الزُمرة لا تعي هذا الفضل ذلك أن طَيَش عقولهم وخِفَّتها لا تجتمع مع رزانة العلماء وسكينتهم، فهما ضدان لا يجتمعان ونقيضان لا يلتقيان.. فهم أشبه بالخفافيش التي تُعمى عيونها إن أبصرت الضياء يلوح فما تلبث أن تَفر وتُدبِر، فيا أيها الشباب حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، واحفظوها قبل أن تفرَّقوا، وقُوها قبل أن تهلِكوا..
إخوتي.. إنّ هؤلاء الشَبَبَة لهم علامات يمتازون بها عن غيرهم يعرفها أهل البصيرة والعقل والعلم ومن رأى المتحلين بهذه الصفات.. يفترقون عن الكبار أنهم يرُومُون إصلاح الحياة بالهدم لا الترميم، وبالإسقاط لا التقويم.. وكفى بهذه الخصلة من رَزِيَّة، قلَّ أن تجد فيهم من أخذ أصول الدين، أو فهم عموم الشريعة، أو فقِه المصالح المرسلة، أو يعي درأ الشبهات، أو قدم أخف الضررين على أشدهما، بل هم تبع لصيحات تثار ومقولات تقال تأتي من تحت الأرض أو في غياهب السجون.. لا منهج بيِّن لهم، ولا علماء فيهم، ولا أدلَّ على ذلك أنهم يفرحون ويمرحون إن وافقهم عالمٌ في جزء من مسألة لها مئة جزء.. وهذا إن دل على شيء فيدُل على مَعِينهم الناضب، ووِفاضهم الخاوي.. ضللوا الأمة، وكفَّروا المجتمعات، وترك بعضهم الجُمُعة والجماعات، وأشهروا سلاحهم في السِّلْم والأمان. لهم شيخ أو شيخان أو ثلاثة، وهذا الشيخ لا يُعرف له قَدَم في العلم، أو تلمذة على عالم، أو عقلية فذة، إن تكلم لحن في قوله، أو فصل أجْـمل في تفصيله، يُطلق ما قيده الشرع، يعتقد ثم يبحث عن دليل يُسنده.. فيالله يا هؤلاء.. أوَ دين الله خبط عشواء وما اجتمع إلا عند هذا المجهول؟؟!! عزفتَ عن العلماء الذين توارثوا العلم كابرا عن كابرا ورُكنا عن ركنا وجِهبذا عن جِهبذ وذهبت تحلِب وتستدر هذا الضرع الجاف؟؟ - الدين عندهم قائم على ركن واحد وهو الجهاد فغالوا فيه وتنكبوا الطريق وإنا إلى الله راجعون.. وهذه علامة من علامة الفِرق يأخذون جانبا وينسون أركانا.. ولهف نفسي وثكلي على حالكم يا هؤلاء من يقف في وجه الجهاد إلا مخذول مهتوك، عديـم المروءة فاقد الكرامة!! يكفي في فضل الجهاد حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( من مات ولم يغزُ أو يحدث نفسه بالغزو مات على شُعبة من النفاق)).
والجهاد قائم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولكن ليس بالعجلة والطريقة التي تريدون، إن الجهاد طريقه معلوم، وأعداؤه أوضح من الشمس في رائعة النهار.. والجهاد السليم يا رجال لا يحتاج إلى فتوى، أتُريد فتوى في حكم الدفاع عن دينك وعرضك وأمتك.. كلا والله وإنما هو التقاعس والتلكؤ، حتى صِرت تطرق الأبواب تبحث عن الجواب حتى ترفع المؤونة وتضعها في كاهل فلان وتقول خذلنا خذله الله!!. وهذا أمر فيه نقاط:
1- هناك فرق بين كلام العالم في جهاد العدو الواضح وبين تحذيره من إراقة دماء المسلمين.
2- لا يعني سكوت العالم تحريمه، فلا يُنسب لساكت قول، وقد أرخص الله بقول الكفر مع انشراح القلب بالإيمان فكيف بالصمت، وليست فتنة القول بخلق القرآن عنا ببعيد، حتى عُد في اليد الواحدة من جابَهَ الحكامَ في ذلك العصر وقال قولَ الحق.
3-لا تحمل علماء السلطان على غيرهم، ولسنا بصدد توضيح ذلك ففلتات اللسان وأفعالهم تحكي ذلك، وبفضل الله ما زال فينا أئمة كالنجوم يقتدى بهم في نجد والحجاز والشام ومصر وغيرها وهم كثير لِمن أراد البحث، قد أجمع الناس على فضلهم، وجوههم ناطقة بالإيمان، لا يرجون إلا الله ولا يخافون غيره، وأضعف الإيمان عندهم الإنكار بالقلب.
4- قد يُفتي بمسألة مَّا ثلة من العلماء، فيُصرُّ هذا القاعد على أن يُركب العلماء الباقين هذا الجمل، وفي فتوى أولائك غُنية له، ولكنه تلبيس إبليس.. حتى وإن أفتى فإنه جالس في بيته متكأ على أريكته.
5-إذا أفتى العالم ما يخالف رأي هذا أو عقله سرعان ما يشتم دينه وعرضه وأمانته وأهون ما يقول عنه: لقد باع دينه بعرض من الدنيا، ولربما تكون نازلة من النوازل يسع فيها الخلاف، فيُحجر ما اتسع هذا ويضيق الخناق، وهذا يجُرنا إلى أمر هام وهو إناطة الحق من هؤلاء بمن أوذي واحْتُقر أو تُفل في وجهه، وديست لِحيته لا غير، وهذا والله ضلال فإن الإهانة لا يسعى وراءها إلا مَهين، وقد يريد هذا من العالم أن يَسير كما سار هو، وهيهات ذلك، وشتان بين من ليس وراءه شيء، ومن تنتظره الدعوة وطلاب العلم والمريدون وأهله وولده، فعِ هذا فإن فهمه زَين وجهله شَيْن، ولا يعلم هؤلاء أن كثيراً من المجاهدين الذين قضوا نحبهم في سبيل الله ما هم إلا تلامذة أولئك العلماء وهذه قبورهم شاهدة على ذلك، وإني أحذّر شباب المسلمين من السير في هذا الطريق، بل لا بد من هجران من ارتدى به فإنهم قساة القلوب، وربما أوردوك المهالك بلا طائل، وإنما هي أفكار ضالة وعذاب وتنكيل، فلا جَسداً أبقوا ولا حقاً اتبعوا، - وإن الخرق ليتسع على الراقع عندما ينقل هؤلاء الفتية حربهم مع العدو الصليبي أو اليهودي أو الرافضي إلى أرض الإسلام فيسفكون دمائهم، ويؤذون بفِعلتهم كلَّ من أطلق لحيته وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ونصيحتي لهؤلاء الفتية أن يُحسنوا ظنونهم بربهم أولاً، وبالدين ثانياً وبالعلماء ثالثاً، ولْيتأدبوا ثم ليتعلموا كثيراً مما جهلوا فإن السيلَ زحف والكيلَ طفح، ولْيعلموا أنه لا يلزم من التضحية التوفيق، ولا يحق لفلان أن يكون حَكمًا على العلماء؛ لأنه حامل للسلاح يعيش في الكهف، - وإن الإنصاف واجب، وقول الحق قسطاس مستقيم، فإنا نحسن بهم الظن، ونقول إخواننا لم يحالفهم الصواب، وإنا لنذكر غيرتهم على أعراض ودماء المسلمين، ولكن العقل محكم على العاطفة، والله الموفق للصواب..محبكم