المناهج اللغويّة ودورها في فهم الظاهرة اللغويّة
حسان محمد الزبيدي


هل من الممكن أن تتظافر المناهج اللغوية مجتمعة في فهم الظاهرة اللغوية , أم إنّ اقتصارنا على منهج لغوي واحد سيخلص بنا إلى نتائج أكثر دقة ؟ وهل المنهج الواحد قادر – وحده – على إعطائنا تصوّراً واضحاً عن الظاهرة ؟ ثمّ ما يمنع الباحث أن يتّكئ على أكثر من منهج, إن كان ذلك سيخدم البحث ؟
بداية دَعُونا نسلّم بأنّ المنهج هو الأساس الذي يقوم عليه البحث العلميّ , فهو كالبوصلة التي يعتمد عليها البحّار في توجيه سفينته , والوصول بها إلى ساحل النجاة , وبدونها يظلّ تائها في البحر , لا يهتدي إلى سُبُل النجاة . ولا سبيل للباحث , أيٍّ كان , أن يتناول ظاهرة ما , أو قضية ما , من غير أن يسير على هُدى أي منهج ؛ لأنّ حاله هذه لن تختلف عن حال البحّار الذي يقود سفينته من غير بوصلة .
وينبغي لمن أراد أن يسير على منهج ما أن يكون متمكناً منه ,على بصيرة بخطواته , وأدواته؛ إذ إنّ لكلّ منهج فلسفته , وأدواته ,ومنهجيته في التعاطي مع أيّ ظاهرة . فالمنهج المعياري يختلف في خطواته, وأدواته , وفلسفته , عن المنهج الوصفي . والمنهج الوصفي – كذلك – يختلف في خطواته, , وأدواته , وفلسفته , عن المنهج التاريخيّ . ونحو ذلك يمكن أن نقول في سائر المناهج . فمعرفة الشيء فرع من تصوره . ومتى غاب تصور المرء للشيء , غابت إمكانية تعامله معه , أو تعامله به .
ومن هنا تظهر أهمية المنهج في معالجة القضايا التي نواجهها في حياتنا . فالوصول إلى النتائج الحاسمة , والموضوعية, لا يتأتى إلا باتخاذ المنهج المناسب سبيلاً إلى الدراسة . وكلما وفِّقْنا في اختيار المنهج المناسب , كانت النتائج المرصودة أكثر إقناعاً .
ولا يعنينا أن تكون المناهج اللغويّة , وغير اللغويّة بضاعة غربيّة , طالما تُعيننا في فهم اللغة , واكتشاف أسرارها , وبيان معالمها , ولا تمسّ ثوابتنا الفكريّة والعقديّة , " فالحكمة ضالّة المؤمن ,أنّى وجدها , فهو أحقّ بها "[1].
وقد أسدت المناهج اللغويّة فوائد , لا تحصى في خدمة اللغات الأوروبية , وما معجم (oxford) التاريخيّ إلا ثمرة من ثمار المنهج التاريخي في خدمة اللغة الانجليزيّة[2] , فقد رُصِدت الألفاظ تاريخيّاً بُغية المحافظة على اللغة , وربط حاضرها بماضيها .
ثمة مناهج لغويّة عديدة , يمكن للباحث أن يتناول بها الظواهر اللغوية , من أظهرها : المنهج المعياريّ, والوصفيّ , والتاريخيّ , والمقارن , والتقابليّ . وكلّ منهج يمكن أن يدرس الظاهرة اللغويّة من زاوية , كذلك فإنّ لكل منهج هدفه الذي يسير نحوه .
فالمعياريّون هدفهم أن يحافظوا على نمط لغويّ محدّد , هو النمط القرآنيّ , وأن يضعوا اللغة في قواعد (معايير) جاهزة , لإتاحتها للمتعلمين العرب وغير العرب . وفي سبيل ذلك اتجه النحاة إلى وضع معيار زمانيّ , وآخر مكانيّ , تتحدّد في ضوئهما ملامح اللغة , وقد حدّدوا الزمان بمائة وخمسين قبل الهجرة , ومائة وخمسين بعد الهجرة . أمّا المكان , فقد اتخذوا لغة أهل نجد والحجاز معياراً للحكم على صحّة اللغة . ولقد نأى المعياريّون – من أجل ذلك – باللغة عن الفروق اللهجيّة بين القبائل , فأخذوا بالمؤتلف , وأقصوا المختلف .
إنّ همّ المعياريّ هو أن يـُخضع اللغة للمعيار , فلجأ – ابتغاء ذلك - إلى طُرق متعدّدة في قولبة اللغة , وتقنينها , فما كان منها هيّناً ليّناً , اعتـُمِد فيه التفسيُر , والتعليلُ ,والقياس, والسماع , والشيوع , وما كان عصيّاً على ذلك , متفلّتاً من عقال القاعدة, أخضعه لها قسراً بالتأويل . ولقد كانت نظريّة العامل من أظهر القواعد التي بُني عليها التفكير النحوي , حتى إنّك لا ترى باباً من أبواب النحو , إلا واتخذ النحاة من العامل منطلقاً في توصيفه .
إنّ شعار الوصفية الذي يرى " أنّ اللغة الحقيقيّة هي التي يستخدمها الناس فعلاً , لا اللغة التي يعتقد (البعض) أنّ على الناس أن يستخدموها "[3], يُظهر لنا الصورة المقابلة للمنهج المعياريّ . وعلى أساس هذه المقولة , فإنّ الوصفيّة لا تحفل بقواعد المعياريّة , بل تأخذ منحىً آخر , يتمثل في دراستها اللغة بصورتها المنطوقة , لا المكتوبة , وتهتمّ بدراسة الفروق اللهجيّة بوصفها أنساقاً لغويّة مستعملة في بيئاتها . فاللغة عندهم واقع استعماليّ , وليس وثائق مكتوبة , أو منقولة مشافهة ؛ إذ كثير من ملامح النطق الأصيل للألفاظ قد يتلاشي بفعل الكتابة أو الرواية , كالتنغيم والنبر , والهمز و التسهيل , والقصر والمدّ , والحذف والإثبات , والنحت والتركيب والاشتقاق [4].
وإذا كان المنهج الوصفيّ يحتفل باللغة المنطوقة (المحكية) , بوصفها الصورة الحقيقيّة التي تتجسد فيها اللغة , فإنّ المنهج التاريخيّ يدرس اللغة , بوصفها ظاهرة متطورة عبر الزمان والمكان . ولذا فإنّ كلّ ما يرد من نصوص ونقوش مكتوبة كانت , أم مروية , هي وثائق , يخضعها الباحث التاريخيّ للدراسة والتحليل , أملاً في تشكيل تصوّر عام حول ملامح التطوّر للغة عبر مراحلها الزمانيّة, وهو في هذا " يشبه عالم الآثار الذي يتهدّى بتصور ما فُقِد من قطعة أثريّة , في ضوء ما عثر عليه منها , وبما يتناسب وحجم الفراغ الموجود , سعياً وراء تكوين عام لهيكل الظاهرة في السياق التاريخيّ العام للغة "[5].
وفي ضوء ذلك , نجد أنّ ما يشيع عند المعياريّ من مظاهر اللحن والخطأ اللغويّ, خارج عصر الاحتجاج , هي – عند التاريخيّ - تطوّر لغويّ , تحكمه عوامل شتّى داخلية أو خارجيّة . وإذا كان الأمر عنده على هذا النحو , فهو يسعى إلى وضع خطوط بيانيّة تمثل التنقلات التي تعتري الظاهرة اللغوية عبر مسارها الزمانيّ والمكانيّ[6] , ومحاولة تفسيرها تفسيراً يستند إلى الوثائق والنصوص .
ويبدو المنهج المقارن وثيق الصلة بالمنهج التاريخيّ , فكلاهما ينظر في ملامح التطوّر التي تعتور الظاهرة اللغويّة, وكلاهما يستعمل الأدوات البحثيّة نفسها,كالنقوش,وا لنصوص المكتوبة والمنطوقة , بيد أنّ ما يميّز المنهج المقارن عن المنهج التاريخيّ أنّه يدرس الظاهرة اللغويّة في اللغات التي تنتمي إلى أرومة واحدة , كأن ندرس أسلوب الشرط في اللغات الساميّة , أو ندرس بنية الجملة الاسمية أو الفعليّة في اللغات الحامية أو الهنديّة الأوروبيّة . على حين يقتصر المنهج التاريخيّ في دراسته على لغة واحدة من لغات المجموعة الواحدة , كأن يدرس تطوّر أسلوب الشرط في اللغة العربيّة .
إنّ هدف المنهج المقارن تأصيليّ ، يسعى إلى أن يرصد نقاط الالتقاء والتقاطع بين اللغات التي تنتمي إلى أسرة واحدة, في سبيل تصنيف اللغات في أسر لغويّة , وملاحظة عمليّة التأثير والتأثّر في الأسرة الواحدة ," فما تشابه منها في بُناه الصرفيّة , وتراكيبه النحويّة , واطّرد تبادلُ قوانينه الصوتيّة, عُدّ من أسرة واحدة , وإلا فهو خارج هذه الأسرة "[7].
أما المنهج التقابليّ , فهو يهتمّ بالمقارنات اللغويّة بين اللغات التي لا يجمعها أصل واحد . ومن هنا , فإنّ المنهج التقابلي منهج ذو طبيعة تعليميّة ؛ فهو يدأب على "معرفة المشكلات التي يعاني منها الدارس الذي يرغب في اكتساب لغة جديدة , بأيسر السبل , وذلك بمعرفة المشكلات التي يواجهها في اللغة الجديدة , حين يدخل رحابها بعادات لغويّة تحكمها معايير لغته الأولى بنحوها وصرفها وأصواتها ومعانيها "[8].
أمّا المنهج الإحصائي , فقد أتى خادماً للدراسات اللغويّة والمناهج اللغويّة السابقة , خاصة بعد أن أصبح الحاسوب متاحاً للجميع . ولقد استطاعت الإحصاءات الحاسوبية أن تـُخْرج نتائج البحوث من حالة التخمين , والارتجال , وسيادة التعبيرات المبهمة كالكثير والقليل, والشائع والنادر ,إلى حالة الإحصاء الرقميّ الذي يتعامل مع الحقائق على أنّها قيم رقميّة دقيقة.
وقد بات من الميسور على الباحثين – بفضل الجهود الإحصائيّة - أن يرصدوا الظواهر اللغويّة بدقّة, سواء أكان ذلك في المفردات , أم في التراكيب ؟ وبفضل الدراسات الإحصائيّة تبددت كثير من المعلومات التي شاعت , وترسخت على أنّها حقائق . فعلى سبيل المثال أظهرت الدراسات الإحصائيّة – في باب الشرط - أنّ (إذا) , أو (لو) أشيع في الاستعمال من (إذما) ,أو (أيّان), وهو أمر يخالف ما ورد في كتب النحو التي لا تذكر (إذا) و(لو) ؛ لأسباب تتعلق بالعامل النحويّ [9].
وتأسيساً على ما سبق , فإنّ المناهج اللغويّة تلعب دوراً مهمّاً في كشف ملامح الظاهرة اللغويّة , وهي سلاح الباحث في بحثه عن الحقيقة . وللباحث أن يتخيّر منها ما يشاء , فكلّها تؤدّي الغرض من جانب , وتصوّر المشهد من زاوية . ولكنّ سير الباحث على منهج ما , لا يعني بالضرورة أن لا يستعين بالمناهج الأخرى ,"فما قيمة ألا تأخذ بقواعد المنهج الوصفي في جزئيّة ما , وأنت تسير في بحث يتطلب في عمومه المنهج التاريخي؟"[10]. بل إنّ ما يعزز نتائج البحث , ويجعلها أكثر دقة وموضوعيّة , هو الاستعانة بكلّ إمكانات المناهج , وتسخيرها في رصد الظاهرة اللغويّة من جوانبها كلّها .
تبدو الظاهرة اللغويّة كالمكعب – كما يصوّرها الدكتور إسماعيل عمايرة – لا يكفي لوصفه أن يسلّط عليه الضوء من نور مصباح واحد , يضيء سطحاً واحداً من مساحاته , وتخفى عندئذٍ أسطحه الأخرى . ولذا كان أدعى في محاولة الإحاطة بحقيقتها أن تسلّط على أبعادها أضواء المناهج المتعدّدة , وبمقدار الحاجة إلى ذلك [11].
--------------
[1]- رواه الترمذي [2]- إسماعيل عمايرة : محاضرات في المدارس اللسانية , جامعة العلوم الإسلامية العالمية 2010

[3]- إسماعيل عمايرة : المستشرقون والمناهج اللغويّة ص 97

[4]- إسماعيل عمايرة : المستشرقون والمناهج اللغويّة ص99

[5]- المصدر نفسه ص27

[6]- المصدر نفسه ص 36

[7]- إسماعيل عمايرة : المستشرقون والمناهج اللغويّة ص49

[8]- المصدر نفسه ص41

[9]- إسماعيل عمايرة : المستشرقون والمناهج اللغويّة ص154

[10]- المصدر نفسه ص 12


[11]- المصدر نفسه ص14