في أحضان مكتبة
أحمد مقرم النهدي



ورد في كشكول الشيخ ابن عقيل - حفظه الله - وأحسن لنا وله الختام- بيتان جميلان:
أنستُ بمكتبي ولزمتُ بيتــي *** فطاب الأنسُ لي ونما السرورُ
وأدّبنـــي الزمانُ فلا أبالي *** هُجــرتُ فلا أُزارُ ولا أزورُ
وقد كنت عزمت على جرد مكتبتي المتواضعة جدًا، وأعيد النظر في قراءتي للكتب وفي جمعها قبل ذلك؛ إذ إن الترتيب محبب إلى النفس الإنسانية، وما يعقبه من حب للتصفية والاستغناء عما لا يحتاج إليه من أجل إيجاد مساحة حرة للعقل ينطلق من خلالها، ويشعر بأثر التصفية مع المتبقي، وأخوف عمل يقوم به الشخص ربما هو جرد مكتبته؛ لأنه لا يأمن أن يقع على فائدة أو مقولة أو وريقة تذكره بأشياء عظيمة وقديمة، أو تنقله إلى فكرة جديدة ومن ثم تنبثق أفكار المقالات من هذه القصاصات والتقليبات، ويمر اليوم واليومان دون أن أنهي ما عزمت عليه والكتب متناثرة على الأرض، إلاّ أنني في الفترة الأخيرة بدأت في هذا العمل، وقيدت هذه الملاحظات وأنا أجرد مكتبتي، فرأيت نشرها في مقال عله يكون دافعًا لكل أحد أن يقدم تجربته مع القراءة، أو يكون دافعًا له للقراءة، ومما وقفت عليه في تجربة مماثلة مقالة رائعة للكاتب الكبير أنور الجندي - رحمه الله – بعنوان: "تعلمت من قوائم الكتب" وكان مما جاء فيها: "ومن الحق أن هذه القوائم وأنا ما زلت طالبًا في أول الشوط، قد أمدّتني بالكثير من المعلومات العامة إن لم تكن عميقة فإنها على الأقل متسعة تتصل بفنون مختلفة من الثقافة العربية والفكر الإسلامي العريق، وإذا كان لي أن أحدّد اليوم - وبعد أربعين عامًا- الانطباع الأساسي الذي انعكس من بعد على كتاباتي وإنتاجي فإنني أقول بحق: إن الإدمان على قراءة قوائم الكتب في مطالع الصبا قد أعطاني طابع التكامل والشمول في مجال الثقافة والفكر، فلم يعد تقديري قائمًا على لون واحد من الأدب ولكني أصبحت أحس بأن الأدب ليس إلاّ قطاعًا من الفكر العربي والإسلامي الواسع الآفاق الذي يضم الاجتماع والاقتصاد والسياسة والدين والأدب والعلم والتربية والفن والأخلاق..."(1).
فانطلقت في فضاء الأفكار الواسع لأخرج بهذه التأملات، وهي وإن اعتراها شيء من طابع الحديث الشخصي إلاّ أني ما كتبتها إلاّ للفائدة والتحدث بنعمة الله، علّ الله أن ينفع بها:
تذكرت أولًا بداياتي في جمع الكتب وما سبب حبي وتوجهي للقراءة، فمرت بي طيوف الذكرى إلى أول ما اشتريت من كتب، فكانت تفسير الجلالين وتفسير السعدي وصحيح الكلم الطيب لابن تيمية ومختصر سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لشيخ الدعوة السلفية محمد بن عبد الوهاب؛ ذلك لأنه أقيمت مسابقة كبرى للمرحلة المتوسطة في تفسير سورة سبأ، وحفظ بعض الأذكار، وقراءة السيرة فشاركت فيها، وفزت بالترتيب السادس مكرر، ولله الحمد.
ورأيت كذلك كتاب صيد الخاطر لابن الجوزي - رحمه الله - بتحقيق علي الطنطاوي، وفيه أبيات لا أنساها أبدًا، وحفظتها وكانت تتردد معي كثيرًا، على الرغم مما فيها من عُجب أو اعتداد بالنفس انتقده عليه العلماء كما يظهر، إلاّ أنها محفزة ودافعة.
وهي قوله:
ما زلتُ أدركُ ما علا بل ما غلا *** وأكابدُ النهجَ العسيرَ الأطولا
تجري بيَ الآمالُ في حلباتِهِ *** جرْي السعيدِ إلى مدى ما أملا
أفضى بي التوفيقُ فيه إلى الذي *** أعيى سواي توصلًا وتغلغلا
لو كان هذا العلمُ شخصًا ناطقًا *** وسألته هل زار مثلي قال لا
وله كذلك:
اللهَ أسألُ أنْ يطولَ مدتي *** وأنالَ بالإنعام ما في نيتي
لي همةٌ في العلم ما من مثلها *** وهي التي جنت النحولَ هي التي
كم كان لي من مجلس لو شُبّهت *** أجواؤُه لتشبهتْ بالجنةِ
وكذلك كتاب الخطوط العريضة لمحب الدين الخطيب عن الرافضة، وكنت آنذاك في الأولى الثانوية.
ثم عنّ لي وأنا أجرد سؤال انبثق منه أسئلة وبيت شعري، وهو لماذا أقرأ وأجمع الكتب وأضيع وقتي ومالي؟ فرأيت أني بهذا السؤال من العقلاء ولله الحمد؛ فأنا أقوم بأشرف عمل على وجه الأرض، ألا وهو العلم والرفعة واكتساب التجربة والخبرات، فأتعرف إلى الله بمعارج القبول، وأعرف وجودي في الحياة بمفتاح دار السعادة، ومدارج السالكين، وأعالج شهوتي ووساوس نفسي بالجواب الكافي، وأعتز بديني باقتضاء الصراط المستقيم، وأعرف نبيّي الكريم - صلى الله عليه وسلم - بالرحيق المختوم، وأعيش مع أعظم النبلاء مع الإمام الذهبي، وأحلق مع معاني القرآن في تفسير ابن كثير والسعدي وأضواء البيان، وأعرف أحكام ديني بسبل السلام وشرح الزاد ومنار السبيل وزاد المعاد، وأحلق في العالم بالأطلس وخرائطه، وأقرأ قراءات ممتعة عن جسم الإنسان وما يعتريه في كليات ابن رشد العميقة جدًا، وأتنـزه عاقلًا في روضة العقلاء، فماذا أريد بعد ذلك؟ وما أمتع وقتًا أقضيه مع العظماء والأخيار، فحمدت الله على توفيقه، وتذكرت بيت المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله *** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
وتذكرت أبيات أبي القاسم الزمخشري:
سهري لتنقيح العلوم ألذُّ لي *** من وصل غانية وطول عناقِ
وتمايلي طربًا لحل عويصةٍ *** أحلى وأشهى من مدامة ساقي
وصريرُ أقلامي على أوراقها *** أحلى من الدوكاه والعشاقِ
يا من يحاول بالأماني رتبتي *** كم بين مستفلٍ وآخرَ راقي
أأبيتُ سهرانَ الدجى وتبيتُه *** نومًا وتبغي بعد ذاك لحاقي
وكذلك بيت أحمد شوقي - رحمه الله -:
أنا من بدّل بالصحب الكتابا *** لم أجدْ لي صاحبًا إلاّ الكتابا
كلما أخلقتُه جدّدني *** و كساني من حلى الفضل ثيابا
صحبةٌ لم أشكُ منها ريبةً *** وودادٌ لم يكلفني عتابا
فما أعظمها من متعة، وما أروعها من لذة... !!
وتأملت كذلك ما أثر العلم الذي أقرؤه في الكتب عليّ، وهي نقطة مفصلية لكل طالب علم ومثقف وقارئ، كيف عبادتي لربي، وكيف تطبيقي لسنة رسولي، وكيف سلوكي مع والديّ وزوجتي وأهلي عمومًا ومجتمعي، فرأيت قول الله - تعالى - وحسبي به - يهزني ويؤثر علي في الآية: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)؛ فعاهدت ربي أن أطبقها حتى ألقاه وأسأل الله العون منه - سبحانه -، وكذلك أحاول ألاّ أضيع وضوءًا إلاّ وأتبعه بصلاة ما أمكن، كما في حديث بلال - رضي الله عنه وأرضاه-، وبعدهما دعاء لله الكريم الجواد، لأن هذا العمل الصغير عظيم عند الله ومن أسباب دخول الجنة بإذن الله.
وينسحب على ذلك أيضًا، ما تقريرك الخاص في طلبك للعلم وضبطك له، ومتابعتك إياه، وهي نقطة مهمة أيضًا؛ فطالب العلم والقارئ عليه أن يبتكر إبان قراءته، ويؤلف، ويلخص ويجمع العلم بطريقة خاصة تفيده وتختصر عليه الحياة، ويكون له كنّاشة عن القرآن وما حوله، وعن تدوين السنة، وعن تلخيص الأحكام الفقهية بأدلتها، وعن جمع التجارب التي يقرؤها؛ حيث يكون له مذكرة شمولية ومختصرة حول كل شيء، وهو وإن كان عسرًا إلاّ أنه لا بد منه، وإلاّ فلا علم عندك؛ لأنك ستظل تقرأ وتقرأ دون ضبط ولا مراجعة، وبالتالي تشعر أنك لا شيء وتكون: (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً)، وهو أمر كذلك نهجه أهل العلم منذ القديم وأجمعوا عليه؛ فما كتبهم ودواوينهم إلاّ مذكرات من بنات أفكارهم وإبداعهم، وهاهي بقيت لنا علمًا يُنتفع به، وقديمًا قال أحد العلماء: "ما من شيء وجدته في العلم أشد عليّ من متابعة العلم" أو كما قال(2)، وهذا ما شعرت به أثناء الجرد؛ فكم من كتاب قرأته ولم ألخصه، فنسيت مادته ومحتواه إلاّ الفكرة العامة، وقد قال العقاد: "اقرأ كتابًا جيدًا ثلاث مرات أنفع لك من أن تقرأ ثلاثة كتب"، ويقول الدكتور عبد الكريم بكار: "لا أعتبر نفسي قرأت إلاّ إذا كان بجانبي دفتر أقيد فيه كل ما قرأته، وأعيد التفكير فيه في نصف ساعة أو ثلث ساعة".
فعقدت العزم أن أرتب قراءتي من جديد وألخّص كل كتاب، وكأني لم أقرأها من قبل، ومن أعظم الكتب التي تعين على إعادة النظر وبناء الهمة: كتاب صلاح الأمة في علو الهمة، وما أعظم مقدمته في السباق والقربة إلى الله - تعالى -، وكذلك صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل على استدراكات عليه، وصيد الخاطر لابن الجوزي ونصائحه لابنه في لفتة الكبد، وكذلك كتاب الأستاذ عباس العقاد (أنا) فصول في سيرته الذاتية، فهو كنـز عظيم من التجارب والحكم الرائعة والقيمة، وكتاب فكر ومباحث للشيخ الأديب القاضي علي الطنطاوي، وعلل وأدوية لمحمد الغزالي، وكذلك كتب اللغة الأربعة التي تُعدّ الأساس للباحث في اللغة والأدب وهي أدب الكاتب لابن قتيبة، والكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، والأمالي للقالي.
ومع ذلك تتبعت المكتبة: فوجدت فيها رسائل صغيرة فيها من العلم النافع الشيء الكثير والعظيم، وليس بالضرورة أن يكون العلم في مكتبة ضخمة، أو في كتب جديدة منمقة بعناوينها ومحتواها الفكري؛ فنحن كم سنقرأ مهما طال بنا العمر وارتفعت الهمة، لكن الأهم ماذا نقرأ، ولو رسالة صغيرة نافعة كفضل علم السلف على علم الخلف لابن رجب - رحمه الله -.
وهناك بنيات طريق في درب القراءة والتدوين: وهو الفتور والانقطاع، أو الانشغال بتدوين الملح أكثر من اللازم، وهي وإن كانت مهمة إلاّ أنه ينبغي ألاّ تأخذنا عن التأصيل العلمي للمتون نفسها، وبعض الطلبة ربما أضاع الوقت في فائدة لغوية على حساب التأصيل، كمن أضاع الوقت يبحث في مسألة إتيان الفاء بعد (أما بعد)، ويشغل نفسه والآخرين بها. وأفضل من ذلك ما كان يفعله شيخ الإسلام - رحمه الله - مثلًا في قراءة مئة تفسير حول آية واحدة.
ومن جرد المكتبة أنظر فأجد كتبًا عرفتها من مشايخ أو زملاء لي، فأدعو لهم؛ لأنهم ممن دلّ على علم نافع، كالنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، والتقريب لعلوم ابن القيم لبكر أبو زيد وغيرها، وهـذا إن دلّ فإنما يدلّ على أثر المجالسة وعظيم شأنها، وكذلك من أهداني كتبًا ومراجع ضخمة نفعتني نفعًا عظيمًا، ووفّرت عليّ مالًا طبعًا، فجزاهم الله خير الجزاء وأوفاه، ولا حرمهم الأجر.
وتأمّلت أخيرًا فرأيت أني -ولله الحمد- من الذين أبلوا شبابهم في طلب العلم النافع والقراءة منذ الصغر، وأني عرفت الطريق، وهُديت إليه فضلًا من ربي ونعمة فأقولها محدثًا بنعمته، فحلّق بي الذهن إلى يوم موتي ونهاية عمري، وسألت الله - تعالى - أن يستعملني في طاعته، وأن أموت مع العلم، حتى أجيبه يوم القيامة أني أبليت شبابي في القراءة، وأفنيت عمري في طلب العلم مع صفاتك وأسمائك الحسنى، وسيرة وسنة رسولك الكريم - عليه الصلاة والسلام - وصحابته الكرام والتابعين، ومع تفسير آيات كتابك، وأحكام دينك حتى أعبدك على بصيرة، وأنفع خلقك بشيء يبقى لي بعد موتي. فاحشرني مع من أحببت، ولا تخذلني يوم ألقاك. وكم رأينا من مات على طربه في المسرح، ومن مات على لعبه في الملعب، ومات وهو يعلم القرآن في المسجد، وذلك لأنهم ساروا على هذا الدرب، والله عليم خبير، وعلى كل شيء قدير، ونسأل الله أن يختم لنا بخير، وأن يجعلنا ممن يعمل بعمل أهل الجنة ويكون من أهلها.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.. واهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلاّ أنت، واصرف عنا سيّئها لا يصرف عنا سيئها إلاّ أنت.. وبصّرنا بأعمالنا واهدنا سبل الحق والرشاد.. ومن أمّن على الدعاء..
___________
(1) راجع كتاب تجارب وخبرات قد تغير مسار حياتك، باسل شيخو، ولأنور الجندي موسوعة رائعة وضخمة في مقدمات العلوم والمناهج لها أثر كبير على قارئها في تكوين ثقافته ومعرفته.
(2) لي حديث بإذن الله عن ابتكارات أهل العلم عبر القرون، وما زلت أجمع فيه منثورات وفوائد