عناية الإمام المحدث ابن حبان بالأدب
شمس الدين درمش
يعد أبو حاتم محمد بن حبان البستي (280- 354 هـ) أحد أئمة الحديث في الرواية، وجمع الحديث بكتابه المسمى (التقاسيم والأنواع) والمعروف بـ(صحيح ابن حبان).
أما كتاباه (الثقات) و(المجروحين) فهو يعد بهما من صيارفة الرجال ونقدتهم الذين خدموا السنة النبوية خدمة منهجية جليلة حفظها من افتئات الكذابين، ودسائس الوضاعين الذين يهدفون إلى إفساد الدين الحنيف وهدم بناء الشريعة المنيف.
وقد قيل: "لولا علم الجرح والتعديل لقال من شاء ما شاء". وحفظت من شيخي عبد الوهاب سكر - رحمه الله - في الثانوية الشرعية بحلب، قول هارون الرشيد لأحد الوضاعين وقد أمر بقتله فقال: "ما ينفعك قتلي وقد وضعت عشرة آلاف حديث توزعت في الآفاق"؟! فقال الرشيد: "أنا أقتلك وسفيان يغربلها"!! يعني سفيان الثوري، وابن حبان - رحمه الله - هو أحد هؤلاء المغربلين الذين يفصلون صحيح الحديث من سقيمه فيصح للناس دينهم -بإذن الله-.
ولكن الذي لا يعرفه عامة طلبة العلم فضلاً عن عامة الأدباء أن ابن حبان كان يعرف للأدب وأساليبه فضله في مخاطبة العقول والنفوس لتقويم اعوجاجها ومداواة أمراضها، فالأدب يتخذ البيان بلاغاً ليدخل إلى مجاهيل القلوب وينير ظلماتها، وكتابه (روضة العقلاء ونزهة الفضلاء) خير شاهد على عنايته بالأدب وأساليبه.
وتتجلى هذه العناية بمظهرين: الأول: فيما ينقله عن الأدباء من شعر ونثر، والثاني: فيما يكتبه هو من نثر، وسأبدأ بالثاني قبل الأول؛ لأنه الغرض من الموضوع.
من النثريات الأدبية لابن حبان:
ديباجة الكتاب:
يعرض ابن حبان في مقدمة كتابه لكشف زيف ادعاء أقوام تمكنهم من العقل باستعمال ضد ما يوجب العقل فيقول: "أما بعد: فإن الزمان قد تبين للعاقل تغيره، وللبيب تبدله، حيث يبس ضرعه بعد الغزارة، وبشع مذاقه بعد العذوبة، فنبغ فيه أقوام يدعون التمكن من العقل باستعمال ضد ما يوجب العقل من شهوات صدورهم، وترك ما يوجبه نفس العاقل بهجسان قلوبهم، جعلوا أساس العقل الذي يعقدون عليه عند المعضلات: النفاق والمداهنة، وفروعه عنه ورود النائبات حسن اللباس والفصاحة، وزعموا أن من أحكم هذه الأشياء الأربعة فهو العاقل، الذي يجب الاقتداء به، ومن تخلف عن إحكامها فهو الأنوك -أي الأحمق - الذي يجب الازورار عنه" (1).
فنحن أمام ديباجة أدبية يمهد بها المؤلف لكتابه، يستعمل فيها الجمل القصيرة المسجوعة سجعاً لطيفاً، مع التقديم والتأخير في أجزاء الجملة لإفادة معنى بلاغي من جهة وإقامة توازن لإيقاع الجملة من جهة أخرى مع ما فيها من الترادف الذي يقصد به التأكيد، وكل هذا في الجملتين الأوليين: "قد تبين للعاقل تغيره، ولاح للبيب تبدله"، وفوق ذلك فإن في الجملتين مجازاً مرسلاً بذكر الزمان وإرادة أهله، فإن الزمان الذي هو الظرف لأفعال الإنسان لا يتغير، وإنما الذي يتغير هو أفعال الناس كما قال الشافعي - رضي الله عنه -:
"نعيب زماننا والعيب فينا*** وما لزماننا عيب سوانا"
ويتبع ذلك بجمل تتضمن من البيان والتشبيه القائم على الاستعارة، ومن البديع أسلوب التضاد لتكون الصورة أبلغ أثراً في النظر الذي ينقل إلى القلب معناه، فيقول: "حيث يبس ضرعه بعد الغزارة، وذبل فرعه بعد النضارة، ونحل عوده بعد الرطوبة، وبشع مذاقه بعد العذوبة..."، فهذا أسلوب فيه صنعة أديب ذل له القلم وخضع له أساليب البلاغة من البيان والمعاني والبديع، فجعل للزمان ضرعاً ييبس بعد الغزارة، وغصناً يذبل بعد النضارة، ويستعمل المدرك الذوقي إلى جانب المدرك البصري "وبشع مذاقه بعد العذوبة".
في العقل والعقلاء:
الكلام العقلي يكون أقرب إلى الواقع والتجريد والبعد عن الزخرفة والخيال، لأن العقل ينزع إلى المنطق وإن كان هو نفسه محل الخيال لدى الكتاب والأدباء، بعكس الكلام القلبي الذي ينزع إلى العاطفة المتمردة على قيود العقل، لذلك قد يحب القلب ما حقه الكره في العقل، وقد يبغض القلب ما حقه الحب في العقل.
فلنتأمل ما قاله ابن حبان في العقل والعقلاء بأسلوب الأدباء: "العقل نوعان: مطبوع ومسموع، فالمطبوع منهما كالأرض، والمسموع كالبذر والماء، ولا سبيل للعقل المطبوع أن يخلص له عمل دون أن يرد عليه العقل المسموع، فينبهه من رقدته، ويطلقه من مكامنه، كما يستخرج البذر والماء ما في قعور الأرض من كثرة الريع. فالعقل الطبيعي من باطن الإنسان بموضع عروق الشجرة من الأرض، والعقل المسموع من ظاهره كتدلي ثمرة الشجرة من فروعها". (2)
فقد بنى ابن حبان معانيه على التشبيه التمثيلي المركب من عناصر متعددة في وجه الشبه، والتشبيه فيه قائم على البيئة الزراعية التي هي أقرب ما يكون إلى الإنسان خصوصاً في ذلك العصر، فهو عندما قسم العقل إلى المطبوع الموهوب من الله - سبحانه -، وإلى المسموع المكتسب بالسماع والقراءة في طلب العلم، أضاف الثاني إلى الأول إضافة البذر والماء إلى الأرض الخصبة، لينتج محصولاً صالحاً.
وفي قوله: "فينبهه من رقدته، ويطلقه من مكامنه" أضاف عنصراً جمالياً حركياً في التشبيه، فالاستيقاظ من النوم عودة للحياة، والانطلاق من المكامن حرية بعد انحباس. ثم رسم صورة بصرية كاملة يمكن لأدنى رسام أن ينقله إلى لوحة جميلة عندما جعل "العقل الطبيعي من باطن الإنسان بموضع عروق الشجرة من الأرض، والعقل المسموع من ظاهره كتدلي ثمرة الشجرة من فروعها"، فضلا على ما في الصورة من تذكير بالآية الكريمة (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا)(إبراهي م: 24-25).
والمتأمل في هذا التشبيه يجده مخالفاً لما قبله الذي جعل فيه العقل المسموع كالبذر والماء، لأن ثمرة الشجرة لا تكون (العقل المسموع) بل هي نتاج تفاعل العقل المسموع بالعقل المطبوع.
وقد يأتي ابن حبان بتشبيهات متعددة للعقل يرفع من مكانته، فيقول: "العقل دواء القلوب، ومطية المجتهدين، وبذر حراثة الآخرة، وتاج المؤمن في الدنيا، وعدته في وقوع النوائب، ومن عدم العقل لم يزده السلطان عزاً، ولا المال يرفعه قدراً، ولا عقل لمن أغفله عن أخراه ما يجد من لذة دنياه، فكما أن أشد الزمانة -أي المرض الزمن - الجهل، كذلك أشد الفاقة عدم العقل" (3). فهو في هذا النص يعرض للعقل من جانب وجوده وجانب فقدانه، وعدد صور فوائده وصور أضرار فقده ليؤكد ما يريده في الأذهان، ولا غرابة في اهتمامه بالعقل فهو مناط التكليف الشرعي، وليس هذا الاهتمام من إعلاء المعتزلة لمكانة العقل من شيء، فذلك باب آخر.
ولما كان للعقل هذه المكانة ينبه ابن حبان على ما يفسده من الأعداء والأدواء، فيقول: "العقل والهوى متعاديان، فالواجب على المرء أن يكون لرأيه مسعفاً، ولهواه مسوفاً، فإذا اشتبه عليه أمران اجتنب أقربهما من هواه، لأن في مجانبة الهوى إصلاح السرائر، وبالعقل تصلح الضمائر" (4)، فقد جعل ابن حبان العلاقة بين العقل والهوى علاقة عداوة، يجب فيها مناصرة العقل على الهوى ليستقيم حياة صاحبهما، وهذا في باب البيان من التشبيه التمثيلي أيضاً.
وينبه ابن حبان إلى أمراض أخرى تضر العقل وتقضي عليه، فيقول: "آفة العقل الصلف، والبلاء المردي، والرخاء المفرط، لأن البلايا إذا تواترت عليه أهلكت عقله، والرخاء إذا تواتر عليه أبطره، والعدو العاقل خير للمرء من الصديق الجاهل" (5). فهذه العبارات فيها تصوير المعنوي بالمحسوس على سبيل الاستعارة حتى إنه ليقبح الحسن في الطبع، فإن الإنسان يميل إلى الرخاء لكنه إذا علم أن الرخاء من آفات العقل اقتصد ولم يسرف، ويأتي بالجملة المشهورة "عدو عاقل خير من صديق جاهل" لتقرير قيمة العقل ولو كان عند من يكره، وإقامة الجملة على المقابلة المتضادة فيها تحريك للذهن بين طرفي المعادلة ووسطيها، إذ الأصل أن يكون العدو جاهلاً، والصديق عاقلاً.
لزوم العلم والمداومة على طلبه:
وننتقل إلى باب آخر وهو الحث على لزوم العلم والمداومة على طلبه ومكانته. فنجد ابن حبان يصوغ جملاً أدبية تحبب العلم وأهله، فيقول: "العلم زين في الرخاء، ومنجاة في الشدة، ومن تعلم ازداد، كما أن من حلم ساد، وفضل العلم -أي زيادته- في غير خير مهلكة، كما أن كثرة الأدب في غير رضوان الله موبقة، والعاقل لا يسعى في فنونه إلا بما هو أجدى عليه نفعاً في الدارين معاً، وإذا رزق منه الحظ لا يبخل بالإفادة، لأن أول بركة العلم الإفادة، وما رأيت أحداً قط بخل بالعلم إلا لم ينتفع بعلمه، وكما لا ينتفع بالماء الساكن تحت الأرض ما لم ينبع، ولا بالذهب الأحمر ما لم يستخرج من معدنه، ولا باللؤلؤ النفيس ما لم يخرج من بحره، كذلك لا ينتفع بالعلم ما دام مكنوناً لا ينشر ولا يفاد" (6).
فقد أثنى ابن حبان على العلم في حالي الرخاء والشدة، ثم جعله كالماء تحت الأرض، واللؤلؤ تحت البحر، والذهب الأحمر في معدنه، فهو محمود في ذاته لكن نفعه لا يتحقق ما لم يكن مبذولاً للناس. والنص بعد ذلك مبني على عدة تشبيهات كل منها يتضمن وجهاً مختلفاً مع غيره ومتفقاً معه، فالماء واللؤلؤ والذهب متشابهة في مكنونيتها والحاجة إلى الجهد في الوصول إليها، ولكنها مختلفة في نوع الإفادة ومقدار حاجة الناس إليها، وأعلاها الماء الذي لا يستغني عنه أحد من الناس، بخلاف الذهب واللؤلؤ.
إظهار البشاشة من العلماء:
وفي ترغيب ابن حبان بإظهار البشاشة من العلماء للناس، يقول: "البشاشة إدام العلماء، وسجية الحكماء، لأن البشر يطفئ نار المعاندة، ويحرق هيجان المباغضة، وفيه تحصين من الباغي، ومنجاة من الساعي، ومن بش للناس وجهاً لم يكن عندهم بدون الباذل لهم ما يملك"(7).
ففي هذا النص جعل ابن حبان البشاشة كالطعام الذي لا يستغني عنه العلماء، ولا ينفك عنه الحكماء، وهذا يعني أن العالم والحكيم الذي يفتقد البشاشة في تعامله مع الناس فإنهم لا يستفيدون من علمهما وحكمتهما كما ينبغي، وبين أن البشر كالماء يطفئ نار المعاندة، وهو يقيه من بغي الباغي لأنه دفع بالتي هي أحسن، وقوله: "يحرق هيجان المباغضة" محل تأمل ومراجعة لأن الهيجان هو الغضب، والغضب نار يطفأ بالماء كما أمر به الشارع الحكيم، وأنه من الشيطان يستعاذ منه، فكأن جملته "يحرق حريق المباغضة" وهي لا تفهم إلا بتأويل يحرق بـ"يزيل". أما قوله "منجاة من الساعي"، فالظاهر أنه يقصد بالساعي الذي يسعى بالنميمة آخذاً بالحديث: ((وأما الآخر فكان يسعى بالنميمة))، والنميمة إفساد ذات البين، والبشر يصلح ما بين المرء وغيره، أما قوله: "ومن بش للناس وجهاً لم يكن عندهم بدون الباذل لهم ما يملك"، فمعناه مأخوذ من حديث: ((تبسمك في وجه أخيك صدقة))، فالبشاشة بذل يساوي التصدق بالمال، ولعل أثره أعم؛ لأن صدقة المال خاصة بالفقراء، وصدقة البشاشة لكل الناس!!
من المنقولات الأدبية النثرية لابن حبان:
وقد عني ابن حبان بمأثور ما نقل من أدب النثر عن العلماء والحكماء ممن سبقوه، وسأنقل من كلام هؤلاء دون ما أورده من الأحاديث النبوية، لأن أساليبها وأنوارها فوق هذا البحث الذي يهدف إثبات ما ينفيه طوائف من النقاد المعاصرين من اهتمام علماء الإسلام بالأساليب الأدبية، وأن ما لديهم منها ليس بشيء، وهو خطأ متداول سببه غلبة علم هؤلاء الأفذاذ على آدابهم بمعناها الفني، لا بمعناه الخلقي!
يتبع