كف الأذى وتجنب الزحام



المؤمن سهل العريكة، جميل العشرة، حسن التعامل، لين الجانب، يبذل الندى، ويكف الأذى، وهذه الخصلة الأخيرة هي من أفضل خصال الإسلام فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله: أي الإسلام أفضل؟ قال: ((من سلم المسلمون من لسانه ويده)) رواه البخاري (10) ومسلم (59).
وقد دلَّت النصوص الشرعية على تحريم إيذاء المسلم بغير وجه حق بوجه من الوجوه من قول أو فعل، كما أمرت بوجوب رفع الأذى عن المسلمين فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} (سورة الأحزاب:58)، ووري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يتناج اثنان دون واحد؛ فإن ذلك يؤذي المؤمن))[1]، وفي رواية: ((والله عز وجل يكره أذى المؤمن))[2] يقول الفضيل رحمه الله: "لا يحلّ لك أن تؤذيَ كلباً أو خنزيراً بغير حقّ، فكيف بمن هو أكرم مخلوق؟"[3]، وعن قتادة قال: "إيّاكم وأذى المؤمن، فإنّ الله يحوطه ويغضب له"[4].
إن إيذاء المسلم ومكايدته، وإلحاق الشر به، واتهامه بالباطل، ورميه بالزور والبهتان، وتحقيره وتصغيره، وتعييره وتنقصه، وثلم عرضه، وغيبته وسبه، وشتمه وطعنه ولعنه، وتهديده وترويعه، وابتزازه وتتبع عورته، ونشر هفوته وإرادة إسقاطه، وفضيحته وتكفيره، وتبديعه وتفسيقه، وقتاله وحمل السلاح عليه؛ وسلبه ونهبه، وسرقته وغشه، وخداعه والمكر به، ومماطلته في حقه، وإيصال الأذى إليه بأي وجه أو طريق؛ هو ظلم وجرم وعدوان لا يفعله إلا دنيء مهين لئيم، وضيع ذميم، قد شحن جوفه بالضغناء والبغضاء، وأفعم صدره بالكراهية والعداء؛ فتنفش للمجابهة، وتشمر للمشاحنة، ينصب الشَّرَكَ، ويبري سهام الحتف، دأبه أن يحزن أخاه ويؤذيه، وهمه أن يهلكه ويرديه؛ وكفى بذلك إثماً وحوباً وفسوقاً فعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: ((يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفضِ الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله))؛ قال: ونظر ابن عمر يوماً إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك"[5].
وإن أفضل المسلمين هو من سلم المسلمون من لسانه ويده كما جاء في حديث أبى موسى رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي المسلمين أفضل؟ قال: ((من سلم المسلمون من لسانه ويده)) رواه البخاري (11) ومسلم (42).
ومن محاسن هذا الدين أن كان كف المرء شره وأذاه عن الناس صدقة يتصدق بها على نفسه جاء ذلك في حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله وجهاد في سبيله)) قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: ((أعلاها ثمناً، وأنفسها عند أهلها)) قلت: فإن لم أفعل؟ قال: ((تعين صانعاً، أو تصنع لأخرق)) قال: فإن لم أفعل؟ قال: ((تدع الناس من الشر فإنها صدقة تصدق بها على نفسك)) رواه البخاري (1108)، وعند مسلم برقم (119): ((تكف شرك عن الناس؛ فإنها صدقة منك على نفسك)).
ودفعُ الأذى عن المسلم أمرٌ محمود، وفعلٌ مرغوب عندَ الله جلّ وعلا يقول أحد السّلف معبِّراً عن منهاج النبوّة: "اجعَل كبيرَ المسلمين عندك أباً، وصغيرَهم ابناً، وأوسطَهم أخاً، فأيّ أولئك تحبّ أن تسيء إليه"، ويقول آخر: "ليكُن حظّ المؤمن منك ثلاثة: إن لم تنفعه فلا تضرَّه، وإن لم تُفرحه فلا تغمَّه، وإن لم تمدَحه فلا تذمَّه".
فيا مَن لا يزال على أذيّة المسلمين قائماً، ولإحداث الضّرر بهم ساعياً؛ تذكّر أنّ معهم سلاحاً بتّاراً، تذكّر أنّ الأذيّة ظلمٌ، والإضرار بالمؤمنين بغيٌ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((واتّق دعوةَ المظلوم فإنّه ليس بينها وبين الله حجاب)) رواه البخاري (2448)، ومسلم (19).
هذا رجلٌ مِن السلف دعا على امرأة أضرّته وأفسدَت عليه عِشرةَ زوجته له فذهب بصرها في الحال، وكذَب رجلٌ على مطرّف بن عبد الله رحمه الله فقال له: "إن كنتَ كاذباً فعجّلَ الله حتفَك" فمات الرّجل مكانَه[6]، وكان رجلٌ من الخوارج يغشَى مجلسَ الحسن البصري فيؤذيهم، فلمّا زاد في ذلك قال الحسن: "اللهمّ قد علمتَ أذاه لنا فاكفِناه بما شئتَ" فخرّ الرجل من قامتِه، فما حُمِل إلى أهله إلا ميتاً على سريره[7].
ومع هذا فأكثرُ مَن كان مجابَ الدّعوة من السلف كان يصبِر على الأذى والبلاءِ ابتغاءَ الأجر والثّواب من الله جلّ وعلا.
وبما أنك - أيها المسلم - قد يسر الله لك حج بيته الحرام؛ فإن من الأخلاق التي يجب عليك أن تتحلى بها كف الأذى عن الآخرين، بل عليك الصبر على آذاهم، وهذا هو درس من الدروس التي يجب عليك أن تتعلمها من مدرسة الحج.
ولذلك حثَّ الله سبحانه من دخل في نسك الحج أن يتحلى بالأخلاق الفاضلة، وأن يبعد عن الأخلاق المشينة، فقال سبحانه: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (سورة البقرة:197)، وهذه الآية فيها النهي عن عدة أمور ومن ضمنها المجادلة والمخاصمة، والمماراة والمنازعة وهو ما يشمل الجدال الذي يوغر الصدر، ويشغل عن ذكر الله قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: "والجدال: وهو المماراة والمنازعة والمخاصمة لكونها تثير الشر، وتوقع العداوة، والمقصود من الحج: الذل والانكسار لله، والتقرب إليه بما أمكن من القربات، والتنزه عن مقارفة السيئات، فإنه بذلك يكون مبروراً، والمبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وهذه الأشياء (الفُسُوقَ وَالجِدَالَ)، وإن كانت ممنوعة في كل زمان ومكان فإنه يتغلظ المنع عنها في الحج"[8].
ويستثنى من الجدال ما كان لبيان حق، أو رد على باطل؛ فإنه واجب في الحج وغيره لقوله تعالى: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (سورة النحل:125)، لذلك وجب على جميع الحجاج المحافظة على حجهم من النقص، وأن يحجوا على أكمل الوجوه، وليتحمل بعضهم خطأ بعض ويعفوا عنه، ويكفوا آذاهم، ويصبروا على أذية غيرهم لهم، ويبتعدوا عن الأذية مطلقاً في تلك الأماكن المقدسة، بل عليهم الابتعاد عن التفكير في الأذية فضلا عن فعلها في الحرم؛ ذلك أن الله قد توعد من همَّ بالذنب والظلم في الحرم بالعقوبة الشديدة فقال تعالى: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (سورة الحج:25) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقَب البادي فيه الشر إذا كان عازماً عليه، وإن لم يوقعه"[9]، وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "قال بعض أهل العلم: "من همَّ أن يعمل سيئة في مكة أذاقه الله العذاب الأليم بسبب همِّه بذلك وإن لم يفعلها، بخلاف غير الحرم المكي من البقاع فلا يعاقب فيه بالهم"، وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لو أن رجلاً أراد بإلحاد فيه بظلم وهو بِعَدَنٍ أَبْيَن لأذاقه الله من العذاب الأليم" يقول الشنقيطي معلقاً على هذا الأثر: "وهذا ثابت عن ابن مسعود، ووقفه عليه أصح من رفعه"[10].
وقوله سبحانه: {بظلم} يدل على الأمر خطير جداً، فالظلم يكون في المعاصي، ويكون في التعدي على الناس، ويكون بالشرك بالله، فإذا كان إلحاده بظلم نفسه بالمعاصي أو بالكفر فهذا نوع من الإلحاد، وإذا كان إلحاده بظلم العباد بالقتل أو الضرب، أو أخذ الأموال أو السب، أو غير ذلك فهذا نوع آخر, وكله يسمى إلحاداً وظلماً، وصاحبه على خطر عظيم, لكن الإلحاد الذي هو الكفر بالله، والخروج عن دائرة الإسلام هو أشدها وأعظمها كما قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (سورة لقمان:13).
ولما كانت الأذية في الحرم كبيرة من الكبائر وجب على كل مسلم ومسلمة الكف عنها، والابتعاد عن كل ما يؤذي زوار بيت الله الحرام.
ومن الأذى الذي يجب على الحاج كفه عن الآخرين المزاحمة بخاصة في أماكن الزحام مثل الوقوف بعرفة، أو عند الإفاضة منها، أو عند رمي الجمرات وبخاصة جمرة العفبة يوم العيد.
ويزداد الأمر خطورة عند مزاحمة الرجال للنساء فإن في ذلك مفاسد عظيمة.
فليتق كل حاج ربه في ذلك، وليحافظ على حجه مما ينقصه أو يخل به، وليبتعد عما حرم الله عليه، وليستفد من حجه في تحقيق التقوى، وأن تستمر هذه التقوى بعد عودته إلى بلده، بحيث يسير في درب عباد الله الأتقياء إلى يتوفاه الله وهو على ذلك.
نسأل الله أن يوفقنا لطاعته، وأن يجنبنا معصيته، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[1] علقه الترمذي في كتاب الأدب (2825).

[2] أخرجه الترمذي في البر (2032) وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسين بن واقد"، وصححه ابن حبان (5763)، وهو في صحيح الترغيب (2339).

[3] انظر: تهذيب الكمال (23/291)، وسير أعلام النبلاء (8/427).

[4] أخرجه ابن جرير في تفسيره (22/45).

[5] أخرجه الترمذي (1955)، وهو في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2339).

[6] انظر: صفة الصفوة (3/225)، وجامع العلوم والحكم (ص368).

[7] انظر: جامع العلوم والحكم (ص368).

[8] تفسير ابن سعدي (ص91).

[9] تفسير ابن كثير (3/263).

[10] انظر: أضواء البيان (4/294).
منقول