خواطر عن العرب البائدة
- أ. رشأ عبد الله الخطيب
هذه ملاحظات خطرت في نفسي بعد قراءة بحث الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد خواطر وملاحظات عن العرب البائدة(1)، وسمحتُ لنفسي باتخاذ عنوان قريب؛ لأنّ في ما يلي من السطور ما أظنه امتدادًا وبناء على ما وصل إليه الباحث من أفكار، أعانتني في تفسير بعض النصوص التي وقعت عليها عن العرب البائدة، وإضاءة جوانبها.
تستوقف الباحثَ في الشعر الجاهلي الروايات التي توردها المصادر وفيها أخبار عن أشعار قيلت تنسب إلى الأقوام البائدة، وبعضها مرفوع إلى الأنبياء حتى آدم باللغة العربية التي عرفنا الشعر الجاهلي بها، وهذه الأشعار بطبيعة الحال ينقض العقل صحتَها ولا يقبلها، وقد فنّدها رواةُ الشعر العربي والمهتمون به من القدماء قبلنا.
إلاّ أنّ طائفة من الشعر تنسب إلى بعض العرب البائدة ممن أخبر الله عنهم في كتابه أنهم ظَلَموا فأهلكهم، وصاروا عبرة للناظرين. لكن الآيات القرآنية نفسها تخبر بأنّ أولئك القوم الظالمين لم تنقطع صلتهم بعرب الجاهلية قبل الإسلام؛ بل إنّ العرب في الجاهلية عرفوا أولئك القوم وخالطوهم بل وسكنوا في ديارهم ومنازلهم أحيانًا.
ولذلك يمكن أن نفهم علاقة العرب في الجاهلية ببعض الأقوام البائدة في ضوء أنّ الله أخبرنا أنه أنجى أنبياءه والمؤمنين من العذاب، فالعرب في الجاهلية قد اختلطوا ببقايا الأقوام البائدة، وهم الناجون من العذاب. وهذا الاتصال بين عرب الجاهلية والبقية الباقية من العرب البائدة قد يكون سببًا فيما نجد من أشعار منسوبة للأقوام السابقين، وقد يساعدنا هذا الرأي في فهم تلك الأشعار في سياقها والاطمئنان إلى صحة الشعر الجاهلي.
فمن هم العرب البائدة؟ وما علاقتهم بعرب الجاهلية بالشعر المروي عنهم؟
يتفق الدارسون من قدماء ومحدثين على أنّ العرب تنقسم إلى: عرب بائدة وعرب باقية، \"فأمّا الفرقة البائدة فكانت أممًا ضخمة كعادٍ وثمودَ وطَسْمٍ وجَديسٍ والعماليق وَجُرْهُمٍ، أبادهم الزمانُ وأفناهم الدهر بعد أن سلف لهم في الأرض مُلْكٌ جليل وخبر مشهور، ولا يُنكِر لهم أحدٌ من أهل العلم بالقرون الماضية والأجيال الخالية\"(2).
وهكذا فالعرب البائدة كان لهم مُلكٌ قائم ولا يُنكَر أنه كانت لهم حضارة وإرث تاريخي، قد عمَروا الأرضَ حينًا من الزمان، وهذا من المتفق عليه، إذ يعيه أهل العلم بأحوال تلك الأمم الماضية، ومن النص نفهم أنه وُجد الناس –في عصر صاعد الأندلسي وهو من أهل القرن الخامس الهجري وفي العصور التي قبله بالضرورة لأنها أقرب زمنيًّا- وُجِد أناس يختصون بمعرفة أخبار الأمم الماضية وأحوالها، وهذا مما يُتَّفَق عليه أيضًا، لكن عدمَ المعرفة الدقيقة وعدم الوقت على جميع أخبار تلك الأقوام الغابرة –بالدقة العلمية المطلوبة- راجع إلى تباعد الزمن وانقراضهم من مدة.
فالعرب في الجاهلية كانوا أصحاب علم، وإن كان ذلك العلم هو العلم باللغة واللسان، فهو الذي به تفاخر العرب، وهم \"أهل علم الأخبار ومعدن معرفة السير والأعصار... ليس يوصَل إلى خير من أخبار العرب والعجم إلا بالعرب ومنهم؛ ذلك أنّ من سكن بمكة من العماليق وجُرْهم وآل السَّمَيْدَع ابن هونا وخُزاعة أحاطوا بعلم العرب العاربة والفراعين العاتية وأخبار أهل البلاد... وعنهم صدر أكثر ما رواه عُبَيد بن شَرْيةَ الجُرْهُمي ومحمد بن السائب الكلبي والهيثم بن عَدِي\"(3).
وهذا يعني أنّ العرب كانوا على معرفة بالأقوام البائدة، ويعرفون من أخبارهم شيئًا جيّدًا وصل إلى الرواة أمثال هؤلاء، ولا نستطيع أن نقول إنّ ما عرفوه من أخبار تلك الأمم كان قليلاً، ولا أن نجزم أنه كان كثيرًا، لكنه كان كافيًا لأن تؤلِّف فيه الكتب. فقد وفد عبيد بن شرية الجرهمي النسابة (ت67هـ) على معاوية بن أبي سفيان \"فسأله عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم وسبب تبلبل الألسنة وأمر افتراق الناس في البلاد، وكان استحضره من صنعاء اليمن فأجابه إلى ما أمر... وله كتاب الملوك وأخبار الماضين\"(4).
\"ولوهب بن منبه، صاحب الأخبار والقصص، المتوفى سنة (ت110هـ) كتاب في الملوك المتوجين من حمير وأخبارهم وأشعارهم وقصصهم؛ قال ابن خَلِّكان إنه شاهده بنفسه، وإنه في مجلد واحد، وهو من الكتب المفيدة\"(5). وكتاب ابن منبه هو كتاب \"التيجان في ملوك حمير\"، وفي قسم منه أخبار عبيد بن شرية في أخبار اليمن.
وفي أخبار ابن هشام محمد الكلبي (ت206هـ)، وهو عالم بالنسب وأخبار العرب، أنه له كتب في أخبار الأوائل منها: كتاب \"ملوك اليمن من التبابعة\"، وكتاب \"طَسْمِ وجَديس\" وكتاب \"عاد الأولى والآخرة\"، وكتاب \"أمثال حِمْيَر وغيرها\"(6).
وفي اسم كتابه \"كتاب عاد الأولى والآخرة\" ما يجعلنا نرجح أنّ العرب كانت تميّز بين عادٍ أولى انقرضت، وبين أخرى من بقيتها الباقية ، وبناء على الفكرة التي ذكرها الدكتور الأسد في بحثه من أنّ الله قد أهلك من أولئك الأقوام الذين ظلموا، وأنه أنجى أنبياءه والمؤمنين، وأنّ بقية هذه الأقوام البائدة من المؤمنين قد انساحوا في القبائل الأخرى، فإنّ الجاحظ يذكر في \"البيان والتبيين\" بيتين لأبي الطمّحان القَيني في ذكر لقمان، ويعلّق بعدهما تعليقًا مهمًّا، والبيتان هما:
إنّ الزمان ولا تفنى عجائبُه
أمستْ بنو القَين أفراقًا موزَّعةً
فيه تَقَطَّعُ أُلاَّفٌ وأَقرانُ
كأنهم من بقايا الحيِّ لقمانُ
وقد ذكرت العربُ هذه الأممَ البائدةَ والقرون السالفة، ولبعضهم بقايا قليلة وهم أشلاء في العرب متفرقون مغمورون مثل جُرْهُم وجاسم ووبار وعملاق وأميم وطَسْم وجَديس ولقمان
فهذا نص صريح للجاحظ بأنّ من العرب البائدة من نجا ولهم بقية، لكنهم لم يعد لهم الغلبة والمنعة كالسابق فأصبحوا مغمورين وتفرّقوا في القبائل الكبرى حتى ذابوا فيها فلم يعد لهم شأن يذكر، وهو يشير إلى أنّ العرب كانوا على عهد قريب من أولئك الأقوام الذين حلّ عليهم العذاب فبادوا.
وفي نص أكثر صراحة بأنّ الأقوام السابقة لم ينقطع نسلها تمامًا -ما قاله ابن الكلبي ففي نسب ثقيف: \"...ويقال إنّ ثقيفًا كان عبدًا لأبي رغال، وكان أصله من قوم نَجَوْا من ثمودَ فانتمى، بعد ذلك إلى قيس... وأنّ الحجّاج قال في خطبة خطبها في الكوفة: بلغني أنكم تقولون إنّ ثقيفًا من بقية ثمود! ويلكم، وهل نجا من ثمودَ إلا خيارهم ومن آمن بصالح فبقي معه\"(8).
وهذا صريح في أنّ العرب كانوا يعلمون تمام العلم أنّ ثمودًا نجا منها بعض أهلها ولم يذهبوا جميعًا، وأنّ من نجا من أولئك كانوا قلّة، ثم انتموا إلى قبائل أكبر كما يقتضي التطور الاجتماعي للجماعات البشرية.
* * *
وفي نص آخر لا يقل صراحة بأنّ العرب البائدة بقيتْ منهم قلة قليلة، وهم من أنجاهم الله، لكنهم ذابوا في القبائل الأخرى، ونُسِيت نسبتُهم الأولى، يقول المسعودي: \"...وانقرضت العرب العاربة من عاد وثمود وعُبَيد وطَسْم وجَديس والعماليق ووبار وجُرْهم، ولم يبق مِن العرب إلاّ مَن كان من عدنان وقحطان، ودخل مَن بقي ممن ذكرنا من العرب البائدة في عدد قحطان وعدنان فانمحت أنسابهم وزالت آثارهم\"(9). وروي عن عمرو بن عبيد عن الحسن أنه سئل عن جُرْهم: هل بقي منهم أحد؟ قال: ما أدري، غير أنه لم يبق من ثمود إلاّ ثقيف في قيس عيلان، وبنو لجا في طيئ، والطُّفاوة في بني أعصُر\"(10).
وفي السؤال وحده عن أحوال الأمم البائدة ما يدل على أنّ العرب قد فكّروا في أمر تلك الأقوام، وأنهم لم يُبادوا كلهم وإنما بقي منهم من بقي، فذاب ودخل في القبائل الكبرى، غير ما أقرّه الحسن بأنّ لثمود بقية ذابت في قبيلة أخرى.
ومما ورد في المصادر ويدل على أنّ العرب كانوا على معرفة بالأقوام السابقة ما قاله الهمداني في \"صفة جزيرة العرب\" بأنّ \"القرية الخضراء خضراء حِجْر التي التقطها عبيد بن ثعلبة بن الدُّول ولم يشرك فيها أحدًا، وهي حصون طَسْم وجَديس، وفيها آثارهم وحصونهم وبُتُلهم الواحد بَتيل، وهو هنٌّ مربع مثل الصومعة، مستطيل في السماء من طين، وكانت جديس تسكن الخِضرِمة، وطسم تسكن الخضراء\"(11).
وأنّ هناك حصنًا يقال له مُرْغِم، أي يرغم العدوّ بامتناعه دونه، وهو لبني أبي سَمُرَة والقصر العادي بالأثْل من عهد طسم وجَديس، وصفته أنّ بانيه بنى حصنًا من طين ثلاثين ذراعًا دكَّهُ، ثم بنى عليه الحصن وحوله منازل الحاشية، وساكنه اليوم بنو أبي شمسة(12). وهذا يعني أنّ العرب في الجاهلية قد عاينوا آثار من سبقوهم من الأقوام البائدة وشاهدوها بأعينهم ووصفوها كما في النص، بل وسكنوا ديارهم التي خلّفوها وراءهم، وهذا مما يرجّح أنّ أهل الجاهلية كانوا قريبي عهد بزمان تلك الأقوام ومكانها وآثارها.
* * *
وفي نص آخر عن العرب المتعربة (المستعربة) أنهم \"بنو قحطان بن عابر الذين نطقوا بلسان العرب العاربة وسكنوا ديارهم\" والعرب العاربة هم البائدة من \"عاد وثمود وطسم وجديس وعمليق وجرهم ووبار\"(13).
إذن فقد عرف العرب في الجاهلية لسان تلك العرب العاربة وديارَهم، بل سكنوا فيها أيضًا،
كما تدل بعض الأخبار على أنّ العرب عرفوا تلك الأقوام عن قرب، واختلطوا بهم وشاهدوهم، ففي مادة (أجأ) -وهو أحد جبلَيْ طيِّئ- في قصة عمرو بن طيِّئ الذي وجد بلادًا واسعة كثيرة المياه والشجر. فرجع إلى أبيه وأخبره بها، فلمّا سار إليها نزل الجبلَيْن\" ورأى فيها شيخًا عظيمًا جسيمًا، مديدَ القامة، على خَلْق العاديين ومعه امرأة على خلْقه يقال لها سلمى\"(14). وفي خلال الحديث عن هذا الجبل يذكر ياقوت: \"... بينما طيئ ذات يوم جالس مع ولديه إذ أقبل رجل من بقايا جَديس ممتد القامة عاري الجبلَّة، كاد يسدّ الأفق طولاً ويفرعهم باعًا\"(15).
فهذان نصان صريحان على أنّ العرب في الجاهلية قد شاهدوا واتصلوا بالقوم الذين بادوا من بقايا عاد وجديس وغيرها؛ فهم يعرفون أوصافهم وسماتهم ويستطيعون تمييزهم بين الناس.
وكذلك في وضوح الحجة على ما سبق النص التالي للمسعودي، الذي يبين أنّ العرب عرفوا الأقوام البائدة وميّزوا صفاتهم؛ إذ يقول في سياق ذكره لأخبار ثمود: \"...وبيوتها إلى وقتنا هذا أبنية منحوتة في الجبال، ورسومهم باقية وآثارهم بادية، وذلك في طريق الحاجّ لمن ورد من الشام بالقرب من وادي القرى، وبيوتهم منحوتة في الصخر بأبواب صغار، ومساكنهم على قَدْر مساكن أهل عصرنا؛ وهذا يدل على أن أجسامهم على قدر أجسامنا، دون ما يخبر به القُصّاص من بُعد أجسامهم. وليس هؤلاء كعاد؛ إذ كانت آثارهم ومواضع مساكنهم وبنيانهم بأرض الشِّحْر تدل على بُعد أجسامهم\"(16).
فأيّ كلام أوضح من هذا الذي يفصِّل في أوصاف تلك الأقوام من العرب البائدة بما يدل على معرفة العرب لهم وتمييزهم إياهم، وأي وعي كان عليه صاحبه وهو يفصِّل ويشرح الفروق بين الأقوام البائدة نفسها من جهة، وبينها وبين أهل زمانه من جهة أخرى. ويوضح سوء الخلط الذي نشأ عند الناس بسبب ما قد يصيب مثل تلك الروايات في سابق الأزمان من مبالغة أو زيادة؛ إمعانًا في التشويق وزيادة في الرهبة التي تضفيها المبالغة على أخبار القدماء.
وفي قصة أخرى أنّ \"عبد الله بن جدعان كان في ابتداء أمره صعلوكًا... فتوصل إلى جبل فوجد فيه شقًّا فدخل فيه... ثم وجد داخله بيتًا فيه جثث طوال بالية... فإذا هم رجال من جُرْهم...\"(17).
* * *
يتبع