قوله: (ألهاكم التكاثر)

يقول سبحانه وتعالى: ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ))؛ هكذا تبدأ السورة، كما يقول بعض التربويين: بهجوم أدبي على القلوب اللاهية الساخرة المخمورة بخمر الدنيا.
إن الدنيا تسكر العبد وتسكر الروح، كما تسكر الخمر العقول، فالله عز وجل قد بدأ أول السورة بضرب عنيف، وكأنه يوقظ الغافلين ويقول: انتبهوا! فكروا! تدبروا! حاسبوا! فإن وراءكم عقاباً، ووراءكم حساباً، ووراءكم ثواباً، ووراءكم جنة وناراً.
((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)) ألهاكم، أي: أشغلكم وأبعدكم وخلف بكم عن الركب وعن المسير، فما لكم متخلفين؟
((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)) فما هو التكاثر؟
قال العلماء: التكاثر أنواع، منها:
1- التكاثر بالعلم، فالعلم إذا لم يرزقك خشية وإنابة فهو ضلال.

إذا ما لم يفدك العلم شيئاً فليتك ثم ليتك ما علمت

وإن ألقاك فهمك في مهاو فليتك ثم ليتك ما فهمت

فناد إذا سجدت له اعترافاً بما ناداه ذو النون بن متى

وأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرت

فالعلم إذا لم ينفعك ولم يفتح بصيرتك، ولم يجعلك تحضر الصلوات الخمس متوضئاً طاهراً، تغض بصرك عن المحارم، ولا تسمع أذنك حراماً، ولا تتلاعب بك الأهواء، ولا تجلس الليالي الحمراء مع أعداء الله الفجرة.
إذا لم ينفعك العلم هذا النفع فليتك ثم ليتك ما علمت.
وستصبح في علمك كالكفار الذين قال الله فيهم: ((يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)) وقال: ((بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ)) أما في الدنيا أذكياء؟
فهم قد صنعوا الطائرة والصاروخ، وقدموا المصنع والثلاجة والبرادة والسخانة، لكنهم رسبوا في عالم الآخرة.
ولذلك نعى سبحانه وتعالى على المتكثرين بالعلم، فيقول عن بني إسرائيل: ((كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا))، فحمار عليه أسفار ومجلدات هل ينفعه ذلك شيئاً؟
اللهم لا، فهو حمار كيفما كان.
ووصفهم سبحانه بالكلب فقال: ((وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) .
التكاثر بالعلم: أن تجد المرء يفرح بالشهادات العلمية إذا حصل عليها، ولكن إذا نظرت إلى سلوكه لم تجده عاملاً بما علم، فأين هؤلاء من علماء الصحابة؟
ابن مسعود كان من علماء الدنيا، علمه كان رحباً كأنه الميدان الواسع، أو كأنه الوادي المتسع إذا ملئ ماءً، لم يكن عنده شهادة، ولكنه أطل في الدنيا كالنجم من قمر محمد صلى الله عليه وسلم.
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري

وابن عباس أخذ علمه من مناجاته لله في الليل، فقد كان يسجد ويبكي ويقول: [يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني] فأصبح حبر الأمة وترجمان القرآن.. ولم يكن يحمل شهادة.
قال الخطيب البغدادي في كتاب اقتضاء العلم العمل : العلم كالكنز، لا ينفعك إلا إذا أنفقت منه.
فإذا لم ينفعك العلم فما هي الفائدة؟
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من أعراض الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) (1) فإنسان أتى ليتعلم (قال الله وقال رسوله) للوظيفة وللشهادة وللسمعة، ثم لم يظهر عليه أثر العلم، فحرام عليه أن يجد عرف الجنة.
وهذا الحديث يُبكي، والله، نسأل الله أن يتوب علينا وعليكم، وأن يعطف علينا برحمته وفضله ومنه وكرمه.
ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تعلم العلم ليجاري به العلماء، وليماري به السفهاء، فليتبوأ مقعده من النار) (1) . فهو يدخل في جلسة العلماء، فيدخل معهم في صراع ومشاجرة، ومناظرة ساخنة ومباحثة، ليكون محسوباً منهم.
أو ليماري به السفهاء، أي: يتفيهق به في المجالس ليماري به كل سفيه، فليتبوأ مقعده من النار.
2- والتكاثر قد يكون في الأموال، وهذا الذي تعنيه الآية أصلاً.
التكاثر في الأموال، هو: أن يكون الإنسان همه في الحياة زيادة دراهمه ودنانيره، لكنه يضيع حسناته عند الله ولا يشعر بذلك، فلا دين ولا استقامة، ولا رصيد من العمل الصالح ولا زاد.
فلو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حي

ولكنا إذا متنا بعثنا ويسأل ربنا عن كل شيء

الزاد، هو: العمل الصالح.
ثابت البناني أحد الصالحين من التابعين، ذهب إلى خراسان في نزهة يريد مهمة هناك، فمر بالحدائق الغناء، والبساتين الفيحاء، والأنهار المتدفقة، والتلال المترعة، فكأنه ما رآها.
فلما عاد إلى البصرة سأله أهل البصرة : كيف رأيت جمال الطبيعة؟
قال: والله، ما كأني رأيت شيئاً، وما أعجبني في سفري هذا إلا أنني رأيت عجوزاً تصلي ركعتي الضحى!
ثابت البناني يقول عنه الذهبي : كان يبكي من خشية الله حتى كادت أضلاعه أن تختلف.
في سفرته كلها ما رأى جميلاً من الأشياء إلا عجوزاً تصلي ركعتين!
وفي حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) (1) .
فأين أهل القناطير المقنطرة من الذهب والفضة؟
أين أهل البنوك؟
أين أهل الشركات الذين ظنوا أن المستقبل لهذا الرصيد؟
لا، والله، لا رصيد إلا لمن له رصيد عند الله، سبحانه وتعالى.
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على ألا تكون كمثله وأنك لم ترصد كمن كان أرصدا

والتكاثر بالمال فهم وفلسفة لبعض الناس، فهو يترك كل شيء إلا المال، هل يسبح بحمد الله؟
، لا، بل بعض الناس يعبد المال من دون الله، فيسجد للريال! ويركع للريال! ويسبح ويحمد بالريال.
ولو سألته عن اسمه، ربما غلط وقال: ريال.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث لهؤلاء: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة) (1) لماذا؟
لأن أكبر معلم عندهم في الحياة الدنيا، هو: المال، فحديثهم في المجالس في المال، وكلامهم في المال، وأخذهم وعطاؤهم ومحبتهم وبغضهم على المال، وهذه عبودية من دون الله عز وجل.
قال ابن تيمية : لا بد للإنسان من معبود غير الله يعبده إذا لم يعبد الله؛ لأن الإنسان همام حارث، فقلبه همام، وأعضاؤه حارثة فاعلة، تتحرك وتزاول، فلا بد له من مقصود.
ولذلك لفظ الجلالة قيل معناه: أنه الذي تألهه القلوب، فلا تأله إلا الله، ولا تسكن إلا إلى الله، ولا تطمئن إلا إلى الله، ولا تصمد إلا إلى الله، ولا ترتاح إلا إلى الله ((أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ))
فالتكاثر بالمال مذموم إذا وصل إلى حد يشغلك عن طاعة الله، فإذا أشغلك عن طاعة الله فاعلم أنه عار ودمار وشنار في الدنيا والآخرة.
3- التكاثر بالأولاد، فبعض الناس لقلة فهمهم يتصور أنه إذا رزق ذرية كثيرة من الأبناء أن ذلك لمكانته عند الله، وكذلك المال والعلم.
بل هذه كلها ابتلاءات من الله ((فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ))، ((وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ))، ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))، ((كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا)).
والأولاد قد يكونون فتنة ولعنة، وسخطاً وغضباً، وقد يكونون شقاءً، وقد يدخلون عليك البؤس والحسرة واللوعة والحرقة والفتنة.
وفي بعض الآثار التي لا تصح مرفوعة إلى المعصوم صلى الله عليه وسلم، بل هي من كلام بعض الحكماء: (لأن يربي أحدكم جرواً خير له من أن يربي ولداً) وهذا يكون في بعض الأماكن يوم أن يرفع القرآن من البيت، ويوم تنزع السنة من البيت، فتتربى الأسرة على غير (لا إله إلا الله)، بل على الأغنية الماجنة، وعلى الصورة الخليعة، وعلى السهرة الآثمة، فلذلك ينشأ الجيل معوجاً غير مستقيم، الابن ضال مضل، والبنت فاتنة مفتونة؛ لأن غرساً لا يربى على نهر محمد عليه الصلاة والسلام غرس ميت، غرس آثم.
وقد ذكر القرآن قصة الوليد بن المغيرة الذي كان له عشرة أبناء: منهم خالد بن الوليد ، سيف الله المسلول؛ قال عنه العلماء: حضر أكثر من مائة معركة في سبيل الله فما به موضع شبر إلا وأصابته طعنة برمح، أو ضربة بسيف، أو رمية بسهم.
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها

وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها

ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها

أبوه كافر بالله العظيم، فخرج من صلبه هذا المؤمن العظيم ((وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ))،
الوليد بن المغيرة كان يحضر أندية قريش ويدخل الحرم، وعن يمينه خمسة أبناء، وعن يساره خمسة، كانوا عشرة، وكان لمجسهم الحرير وأساور الذهب وتيجان اللؤلؤ؛ لأنه كان تاجراً، ذهبه يكسر بالفؤوس في مكة .
فدعاه صلى الله عليه وسلم إلى لا إله إلا الله، فكفر بلا إله إلا الله، قرأ عليه القرآن.
فرجع إلى قريش.
فقالوا: لا نتركك، يا أبا المغيرة ، حتى تقول في القرآن شيئاً وكلاماً.
فقال: هذا القرآن سحر.
فأنزل الله قوله: ((ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا))، يشهدون معه الحفلات والمراسيم ((وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا)) أي: سهلت له أموره.. فهل هذا الجزاء والمعروف؟
وهل هذا الحفظ الجميل؟
((ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا))، فجزاؤه ((سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا))، وهو جبل في جهنم، يصعد فيه الإنسان سبعين سنة إذا انتهى إلى أعلاه سقط إلى آخره (1) .
((إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ)).
نعوذ بالله من النار! نعوذ بالله من سقر! نعوذ بالله من الفجور!
4- ومن الناس من يتكثر من الظهور والزينة، ويتكثر بالشهرة، وهي أمور مغروسة في الفطر، محببة إلى النفس، لا يوجهها إلا الإسلام.