بسم الله، الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و آله و صحبه و من والاه، أما بعد:
فقد نظمت قصيدة (خير جار) من ثلاثة أبيات في المدينة المنورة منذ زمن، و أشارككم بالقصيدة و بعض الفوائد.
خير جار
محمدُ داركم هي خير دار *** رسولَ الله أنتم خير جار
أتيت نبينا أرجو سلاماً *** فنحوكم فشوقي مثل نار
أيا خير الأنام عليك صلى *** إلهي ما سرى بالليل سار
الفوائد:
أولاً: الجار و الدار:
في البيت الأول استخدمت التصريع بين (دار) و (جار)، و عند العرب مثل جميل يقول: (الجار قبل الدار) و هذا المثل له أصل في القرآن الكريم كما قال علماء التفسير حينما ذكر الله دعاء آسية بنت مزاحم عليها السلام امرأة فرعون في سورة التحريم: (رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة)، فقد سألت الجار (عندك) قبل الدار (بيتاً).
ثانياً: خير جار بين المطلق و المقيد:
عند علماء العربية و الإسلام مصطلح مهم اسمه: (المطلق و المقيد).
عندما قلت: (رسول الله أنتم خير جار) فأنا أعني أن جوار رسول الله صلى الله عليه و سلم هو أفضل جوار من المخلوقين (أفضلية مقيدة) لأني أعتقد أن نبينا محمداً عليه الصلاة و السلام هو أفضل الخلق على الإطلاق كما يعتقد كثير من السلف و الخلف، قال ابن عباس رضي الله عنه: (ما خلق الله عز و جل و لا ذرأ و لا برأ نفساً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه و سلم، و ما سمعت الله أقسم بحياة أحد إلا بحياته، قال: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) [سورة الحجر]).
و قال إبراهيم اللقاني رحمه الله في قصيدته (جوهرة التوحيد) و التي هي عمدة في العقيدة عند الأشاعرة:
و أفضل الخلق على الإطلاق *** نبينا فمل عن الشقاق
إذاً فما هو أفضل جوار على الإطلاق أو من هو أفضل جار على الإطلاق؟ إن جوار الله عز و جل هو أفضل جوار على الإطلاق (أفضلية مطلقة)، و لا زال الشعراء يعبرون عن جوار الله عز و جل بأوصاف جميلة.
قال علي التهامي رحمه الله:
جاورت أعدائي و جاور ربه *** شتان بين جواره و جواري
و قال ابن نباتة المصري رحمه الله:
الله جارك إن دمعي جاري *** يا موحش الأوطان و الأوطار
و قال الشاعر رحمه الله:
إذا أمسى وسادي من تراب *** و بت مجاور الرب الرحيم
فهنوني أصيحابي و قولوا *** لك البشرى قدمت على كريم
و قال أبو بكر النابلسي رحمه الله بعد أن قتله أعداؤه لصاحبه الذي رآه في الرؤيا:
حباني مالكي بدوام عز *** و واعدني بقرب الانتصار
و قربني و أدناني إليه *** و قال انعم بعيش في جواري
ثالثاً: الكلام حمال أوجه:
كلام العرب حمال أوجه أي هناك بعض العبارات التي تحتمل أكثر من معنى و سأضرب مثالاُ على ذلك:
ذكرت في الفقرة السابقة قول ابن نباتة المصري رحمه الله:
الله جارك إن دمعي جاري *** يا موحش الأوطان و الأوطار
إن كلمة (جاري) تحتمل معنيين أو وجهين: الوجه الأول أن (جاري) بمعنى (جار لي - من الجوار) أما الوجه الثاني أن (جاري) بمعنى (يجري أي يسيل).
و خاصية (حمال أوجه) هي خاصية أصيلة من خواص القرآن الكريم فهناك عبارات في القرآن الكريم تحتمل أكثر من وجه للتفسير و سأضرب مثالين على ذلك:
قال الله تعالى في سورة الإسراء: (و آتينا موسى الكتاب و جعلناه هدى لبني إسرائيل) - إن الضمير المتصل في (جعلناه) يحتمل أن يكون عائداً إلى موسى عليه السلام أو إلى الكتاب أو إليهما معاً كما ذكر علماء التفسير.
قال الله تعالى في سورة الانشقاق: (يا أيها الإنسان إتك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه) - إن الضمير المتصل في (فملاقيه) يحتمل أن يكون عائداً إلى الكدح أي ملاق عملك، أو عائداً إلى الله عز و جل أي ملاق ربك أو إليهما معاً كما ذكر علماء التفسير.
لكن سؤال: هل يمكن للضمير المتصل المفرد في الآيتين السابقتين أن يكون معبراً عن المثنى؟
أي أن موسى عليه و السلام و الكتاب كلاهما هدى لبني إسرائيل و أنك أيها الإنسان ملاق ربك و ملاق عملك؟
نعم اللغة العربية بحر عميق لا ساحل له، فيمكن في اللغة أن تستخدم ضمير المفرد للتعبير عن المثنى كما قال الله تعالى في سورة التوبة: (يحلفون بالله لكم ليرضوكم و الله و رسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين)، فقد قال تعالى: (يرضوه) لأن رضا الله و رسوله رضا واحد و هما لا يتعارضان فمن أرضى الله فقد أرضى الرسول و من أرضى الرسول فقد أرضى الله.
و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين.