التبصُّر بلغة العرب من ضرورات الفقيه


مشاري الشثري




التبصُّر بلغة العرب والخبرة بأساليبهم في البيان من ضرورات الفقيه إذا ما أراد أن يكون لفقهه تحريرٌ وتحقيق، سواء في بنائه أم نقده، وفيما يلي مثالٌ يبين لك كيف يستثمر الفقيه عدته اللغوية في تحرير استدلالاته، وتمحيص بناءاته، وذلك أن بعض الفقهاء استدل على أن المراد بالقروء في قول الله -تعالى-: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} الأطهار بدخول تاء التأنيث على العدد؛ حيث إن العرب تدحل التاء في عدد المذكر من الثلاثة إلى العشرة وتحذفها من المؤنث.


ومع قول المازري بأن المراد بالقروء في الآية الأطهار، إلا أنه انتقد هذا التعليل بقوله: «وهذا غلط؛ لأن العرب قد تراعي في التذكير والتأنيث اللفظَ المقرونَ به العدد فتقول: ثلاثة منازل، وهي تريد ثلاث ديار، وإن كانت الدار مؤنثة؛ لأن لفظ المنزل مذكر، وقد تعد المعنى أحيانًا، قال ابن أبي ربيعة:
فَكَانَ مِجَنِّي دُونَ مَا كُنْتُ أتَّقِي
ثَلاَثُ شُخُوصٍ كَاعِبَان وَمُعْصِرُ
فأنث على معنى الشخوص لا على اللفظ.
وحكى أبو عمرو بن العلاء أنه سمع أعرابيا يقول: فلان جاءته كِتَابي فاحتقرها، قال: فقلت له: أتقول: جاءته كتابي؟ فقال: نعم أليس بصحيفة؟ فأخبر أنه أنَّث مراعاة للفظ صحيفة الذي لم يذكره لما كانت في المعنى هي الكتاب المذكور، ونحو من هذا قول الشاعر:
أَتَهْجُرُ بَيْتًا بِالحِجَازِ تَلَفَّعَتْ
بِهِ الخَوْفُ وَالأعْدَاءُ أمْ أنْتَ زَائِرُهْ؟
أراد المخافة، فأنَّثَ لذلك.
وقال آخر:
غَفَرْنا وَكَانَتْ مِنْ سَجِيَّتِنَا الغُفْرُ
أنَّثَ الغفر لأنه أراد المغفرة
والأمثلة في هذا الباب كثيرة، ومن عجبٍ أن ترى من المتفقهة من لا يحفل بكتب اللغة، ولا يعاني قراءتَها ودراستَها، بل ربما جرَّهُ جهلُه إلى انتقادِ المشتغلِ بها المستكثرِ منها!
قال الإمام الشافعي في (الرسالة): على كلِّ مسلمٍ أن يتعلمَ من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يشهد به ألا إله إلا الله، وأن محمدًا عبدُه ورسولُه، ويتلو به كتابَ الله، ويَنطِقَ بالذِّكر فيما افتُرِضَ عليه من التكبير، وأُمِرَ به من التسبيح والتشهد وغير ذلك.
وما ازداد من العلم باللِّسان الذي جعله الله لسانَ مَن خَتَمَ به نبوتَه وأَنزَلَ به آخرَ كتبه، كان خيرًا له، كما عليه يتعلَّمُ الصلاةَ والذِّكرَ فيها، ويأتي البيتَ وما أُمِرَ بإتيانه، ويتوجَّهُ لِمَا وُجِّهَ له، ويكونُ تبعًا فيما افتُرِضَ عليه ونُدِبَ إليه لا متبوعًا.
وإنما بدأتُ بما وصفتُ من أن القُرآن نزل بلسان العرب دون غيره؛ لأنه لا يَعلَمُ مِن إيضاح جُمَلِ علم الكتاب أحدٌ جَهِلَ سعةَ لسان العرب، وكثرةَ وجوهه، وجِمَاعَ معانيه، وتَفَرُّقَها، وَمَن عَلِمَه انتفتْ عنه الشُّبَهُ التي دخلتْ على مَن جَهِلَ لسانَها.
فكان تنبيهُ العامَّةِ على أنَّ القُرآن نزل بلسان العرب خاصَّةً نصيحةً للمسلمين، والنصيحةُ لهم فرضٌ لا ينبغي تَرْكُه، وإدراكُ نافلةِ خيرٍ لا يدعُها إلَّا مَن سَفِهَ نفسَه، وتَرَكَ موضعَ حظِّه، وكان يجمعُ مع النصيحة لهم قيامًا بإيضاحِ حَقٍّ، وكان القيامُ بالحق ونصيحةُ المسلمين من طاعة الله، وطاعةُ الله جامعةٌ للخير.
وقال الجاحظ: «للعرب أمثالٌ واشتقاقاتٌ وأبنيةٌ، وموضعُ كلامٍ يدلُّ عندهم على معانيهم وإراداتهم، ولتلك الألفاظ مواضعُ أُخَرُ، ولها حينئذٍ دلالاتٌ أُخَرُ، فمن لم يعرفها جَهِلَ تأويل الكتابِ والسنَّةِ، والشاهدِ والمثلِ؛ فإذا نظر في الكلام وفي ضروبٍ من العلم وليس هو من أهل هذا الشأن هَلَكَ وأَهلَكَ» الحيوان (1: 154).