علة عدم مغفرة الله تعالى للشرك
ماهر عبد الحميد صفصوف
الحمد لله الذي لَم يتَّخِذ ولدًا، ولَم يكنْ له شريكٌ في الْمُلك، ولَم يكنْ له وَلِيٌّ من الذُّل، المتفرِّد بالكَمال في ألوهيَّته وربوبيَّته، وأسمائه وصفاته، والصلاة والسلام على إمام الْحُنفاء، وسيِّد الموحِّدين، الداعي إلى إفرادِ الله بالتألُّه والخضوع والذُّل، والكُفر بكلِّ معبود وطاغوت يُدْعَى مع الله.
وبعدُ:
فإنَّ توحيدَ الله أعظمُ طاعة فرَضَها الله على العباد، كما أنَّ الشِّرْك هو أعظمُ سيِّئة نَهَى الله عنها، فالتوحيد أعظمُ الحسنات، والشِّرْك أعظمُ السيِّئات؛ قال - تعالى -: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[النمل: 89 - 90].
قال ابنُ كَثير - رحمه الله تعالى -: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا)، قال قَتَادة: بالإخلاص، وقال زين العابدين: هي لا إله إلا الله.
وقوله: (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ)؛ أي: مَنْ لَقِي الله مُسيئًا لا حَسَنة له، أو: قد رجحتْ سيِّئاتُه على حسناته، كلٌّ بحسبه؛ ولهذا قال: (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
وقال ابن مسعود، وأبو هريرة وابنُ عباس - رضي الله عنهم - وأنس بن مالك، وعَطاء، وسعيد بن جُبير، وعِكْرمة، ومُجاهد، وإبراهيم النَّخَعي، وأبو وائل، وأبو صالح، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسْلَم، والزُّهْري، والسُّدِّي، والضَحَّاك، والْحَسن، وقَتَادة، وابنُ زيد، في قوله: (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ) يعني: بالشِّرْك[1].
ومن عِظَم سيِّئة الشِّرْك عند الله - تعالى - أنَّ الله لا يَغْفر لصاحبها؛ (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا)[النساء: 116].
واستحقَّ صاحبُها من صفات السوء والذَّمِّ ما لَم يكنْ لأحد غيره، فالْمُشْرِك عدوُّ الله؛ قال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ)[الممتحنة: 1].
والمشْرِك يبغضه الله ولا يُحبُّه؛ (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَا تِ وَالْمُشْرِكِين َ وَالْمُشْرِكَات ِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)[الفتح: 6]، (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)[الروم: 45]، (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)[آل عمران: 32].
والمشِرك وَلِيٌّ للشيطان؛ (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)[النساء: 76].
والمشْرِك مَحرومٌ من رحمة الله في الآخرة، ومُخَلَّد في نار جهنَّم؛ لا يموت فيها ولا يَحيا، ولا يَقبل الله منه فِدَاءً ولو افْتَدَى بالأرض وما فيها؛ (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)[الزمر: 47].
وقال - تعالى - على لسان عيسى - عليه السلام -: (وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)[المائدة: 72]، وقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)[فاطر: 36 - 37]، وقال: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا)[الأحزاب: 64 - 66].
والمشْرِك مَغبون؛ يظنُّ نفسَه على شيءٍ عند الله وهو من الخاسرين؛ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)[النور: 39 - 40]، (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)[الفرقان: 23]، (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ )[الجاثية: 33 - 35]، (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِين َ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا)[الكهف: 103 - 106].
والمشْرِك حقيرٌ ذليلٌ، هَيِّن على الله؛ ولذا يُعطيه ويَرزقه في الحياة الدنيا، ويَحرمه الآخرة؛ (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)[الزخرف: 33 - 35].
والمشْرِك جاهلٌ ضالٌّ لا يَعْقل؛ (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)[الفرقان: 44]، (فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ)[الروم: 52 - 53]، (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[العنكبوت: 41].
إنَّ هذه الآيات لتدْفَع بالمؤمن دفْعًا وثيقًا؛ لمعرفة العِلَّة التي مِنْ أجْلها استحقَّ المشْرِكُ كلَّ هذا الوعيد؛ من غَضَبِ الله ومَقْته، وبُغْضه وعَدَاوته، وإباحة دَمه وماله، وهَوَانه على الله وعذابه الشديد، وخُلوده فيه وعدم رحمة الله له، فما الذي أوْجَبَ للمشرك هذا وهو يظنُّ نفسَه على هدًى، ويَحسَب نفسَه على خيرٍ، ويَقصد بفِعْله كلِّه تعظيمَ جَناب الربِّ - تعالى - وعبادته؟
يُجيبنا الإمام ابنُ القَيِّم - رحمه الله - رحمة واسعة - عن هذا السؤال، فيقول:
"ووقعتْ مسألة، وهي: أنَّ المشرك إنما قصْدُه تعظيمُ جَناب الربِّ - تبارك وتعالى - أو أنَّه لعَظَمته لا يَنبغي الدخول عليه إلاَّ بالوسائط والشُّفعاء - كحال الملوك - فالمشْرِك لَم يَقصِدِ الاستهانة بِجَناب الربوبيَّة، وإنَّما قَصَد تعظيمَه، وقال: إنَّما أعبدُ هذه الوسائط؛ لتقرِّبَنِي إليه، وتُدْخِلني عليه، فهو المقصود، وهذه وسائل وشُفعاء، فلِمَ كان هذا القَدْرُ مُوجِبًا لسخطه وغَضَبه - تبارك وتعالى - ومُخلدًا في النار، وموجِبًا لسَفْك دماء أصحابه، واستباحة حريمهم وأموالهم؟
وترتَّب على هذا سؤال آخرُ، وهو: أنَّه هل يجوز أن يشرعَ الله - سبحانه - لعباده التقرُّبَ إليه بالشُّفعاء والوسائط، فيكون تحريمُ هذا إنَّما استُفِيَد من الشَّرْع، أو ذلك قبيحٌ في الفِطَر والعقول، يَمتنع أن تأتِيَ به شريعة؟ بل جاءتِ الشرائعُ بتقرير ما في الفِطَر والعقول من قُبْحه الذي هو أقْبَح مِن كلِّ قبيح؟ وما السببُ في كونه لا يغفره مِن دون سائر الذنوب؟ كما قال - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)[النساء: 48].
فتأمَّل هذا السؤال، واجمع قلبَك وذِهْنَك على جوابه ولا تستهونه؛ فإنَّ به يَحصل الفَرق بين المشركين والموحِّدين، والعالمين بالله والجاهلين به، وأهْل الجنة وأهل النار.
فتقول وبالله التوفيق والتأييد، ومنه نسألُ المعونة والتسديد، فإنَّه مَن يَهْده الله فلا مُضِل له، ومن يُضْلل فلا هادي له، ولا مانع لِمَا أعطى، ولا مُعْطي لِمَا منَع"[2].
ثم تكلَّم - رحمه الله - عن الشِّرْك وأنواعه، إلى أنْ وَصَل إلى حقيقة الشِّرْك ثم قال: "إذا عرَفْتَ هذه المقدمة، انفتَح لك الجوابُ عن السؤال المذكور، فنقول، ومِنَ الله وحْدَه نستمدُّ الصواب:
حقيقة الشِّرْك: هو التشبُّه بالخالق، وتشبيه المخلوق به - سبحانه -، هذا هو التشبيه في الحقيقة، لا إثبات صفات الكمال التي وصَف الله بها نفسَه، ووصَفه بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فعَكَس الأمر مَن نكَس اللهُ قلبَه، وأعْمَى عينَ بَصِيرته، وأرْكَسَه بكَسْبه، وجعَل التوحيدَ تشبيهًا، والتشبيه تعظيمًا وطاعةً، فالمشْرِك مُشَبِّه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهيَّة؛ فإنَّ من خصائص الإلهية التفرُّد بِمِلْك الضُّرِّ والنفْع، والعطاء والمنْع، وذلك يوجِب تعليقَ الدعاء والخوف والرجاء والتوكُّل به وحْدَه، فمَن علَّق ذلك بمخلوق فقد شبَّهه بالخالق، وجعَل مَن لا يَملِك لنفسه نفْعًا ولا ضُرًّا، ولا موتًا ولا حياة ولا نُشورًا - فضلاً عن غيره - شبيهًا بِمَنْ له الأمرُ كلُّه، فأَزِمَّة الأمور كلِّها بيَدَيه، ومرجعُها إليه، فما شاء كان وما لَم يَشَأْ لَم يكنْ، لا مانع لِمَا أعْطَى، ولا مُعطي لِمَا منْع، بل إذا فتَح لعبده بابَ رحمته لَم يُمْسِكْها أحدٌ، وإنْ أمْسَكها عنه لَم يُرْسِلْها إليه أحدٌ.
فمِن أقبح التشبيه: تشبيهُ هذا العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات.
ومن خصائص الإلهيَّة: الكمال المطْلَق من جميع الوجوه الذي لا نقْصَ فيه بوجْه من الوجوه، وذلك يوجِب أنْ تكون العبادة كلُّها له وحْدَه، والتعظيم والإجلال والخشية، والدعاء والرجاء والإنابة، والتوكُّل والاستعانة، وغاية الذُّلِّ مع غاية الحبِّ، كلُّ ذلك يجبُ - عقْلاً وشرعًا وفِطْرةً - أن يكونَ له وحْدَه، ويَمْتنِع - عقلاً وشرْعًا وفِطْرة - أن يكونَ لغيره، فمَن جعَل شيئًا من ذلك لغيره، فقد شبَّه ذلك الغير بِمَن لا شبيهَ له، ولا مثيل له، ولا ندَّ له، وذلك أقْبحُ التشبيه وأبْطله، ولشدَّة قُبْحه وتضمُّنه غايةَ الظلم، أخبرَ - سبحانه - عبادَه أنَّه لا يَغفره، مع أنَّه كتَب على نفسه الرحمة.
ومن خصائص الإلهيَّة: العبودية التي قامتْ على ساقين لا قِوامَ لها بدونهما: غاية الحبِّ، مع غاية الذُّل، هذا تمام العبوديَّة، وتفاوت منازل الْخَلْق فيها بحسبِ تفاوتهم في هذين الأصْلين.
فمَن أعْطَى حبَّه وذُلَّه وخضوعَه لغير الله، فقد شبَّهه به في خالص حقِّه، وهذا من المحال أنْ تأتِيَ به شريعة من الشرائع، وقُبْحه مستقرٌّ في كل فِطْرة وعقْل، ولكنْ غيَّرتِ الشياطين فِطَر أكثرِ الْخَلْق وعقولهم، وأفسدتْها عليهم، واجْتَالتهم عنها، ومَضَى على الفطرة الأولى مَن سبقَتْ له من الله الْحُسنى، فأرْسَل إليهم رسله، وأنْزَل عليهم كُتبه بما يوافِق فِطَرهم وعقولَهم، فازدادوا بذلك نورًا على نور؛ (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ)[النور: 35].
إذا عُرِف هذا، فمن خصائص الإلهيَّة السجود، فمَن سَجَد لغيره، فقد شبَّه المخلوقَ به.
ومنها: التوكُّل، فمَن توكَّل على غيره فقد شبَّهه به.
ومنها: التوبة، فمن تابَ لغيره، فقد شبَّهه به.
ومنها: الْحَلف باسمه تعظيمًا وإجلالاً له، فمن حَلَف بغيره فقد شبَّهه به، هذا في جانب التشبيه.
وأما في جانب التشبُّه به: فمن تعاظَم وتَكبَّر، ودعا الناس إلى إطْرائه في المدح والتعظيم، والخضوع والرجاء، وتعليق القلب به؛ خوفًا ورجاءً، والْتِجَاءً واستعانة، فقد تشبَّه بالله، ونازَعَه في ربوبيَّته وإلهيَّته، وهو حقيقٌ بأن يُهينَه غايةَ الْهَوَان، ويُذِلَّه غايةَ الذُّلِّ، ويَجعلَه تحت أقدام خَلْقه.
وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يقول الله - عز وجل -: العَظَمة إزاري، والكبرياء رِدَائي، فمَن نازَعَني واحدًا منهما عذَّبْتُه))[3].
وإذا كان المصوِّرُ الذي يَصنع الصورة بيده من أشدِّ الناس عذابًا يوم القيامة؛ لتشبُّهه بالله في مجرَّد الصَّنْعَة، فما الظنُّ بالتشبُّه بالله في الربوبيَّة والإلهيَّة؟ كما قال: النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة المصوِّرون، يُقال لهم أَحْيُوا ما خَلَقْتُم))[4].
وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ((قال الله - عز وجل -: ومَن أظْلم ممن ذهَب يَخلُق خَلْقًا كخَلْقي، فليخلقوا ذَرَّة، فليخلقوا شعيرة))[5]؛ فنبَّه بالذَّرَّة والشعيرة على ما هو أعظم منهما وأكبر.
والمقصود: أنَّ هذا حال مَن تشبَّه به في صَنعة صورة، فكيف حال مَن تشبَّه به في خَواص ربوبيَّته وإلهيَّته؟! وكذلك مَن تشبَّه به في الاسم الذي لا يَنبغي إلاَّ لله وحْدَه، كمَلِك الأملاك، وحاكم الْحُكَّام ونحوه.
وقد ثبَتَ في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنَّ أخْنَع الأسماء عند الله رجلٌ يُسَمَّى: بشاهان شاه - أي مَلِك الملوك - لا مَلِك إلاَّ الله))، وفي لفظ: ((أغْيَظُ رجلٍ على الله رجلٌ يُسَمَّى بِمَلك الأملاك))[6].
فهذا مَقْتُ الله وغَضَبه على مَن تشبَّه به في الاسم الذي لا ينبغي إلاَّ له؛ فهو - سبحانه - مَلك الملوك وحْدَه، وهو حاكم الْحُكَّام وحْدَه، فهو الذي يَحكم على الْحُكَّام كلِّهم، ويَقضي عليهم كلِّهم لا غيرُه.
يتبع