رحلة ملبي

الحج ركن من أركان الإسلام، وشعيرة من شعائره العظام؛ دعا إليه رب العالمين، وحثَّ عليه عباده
المؤمنين، وأمر نبيه إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس به يأتون من كل فج عميق وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (سورة الحـج : 27) ، فما هو إلا أن سمعوا النداء حتى تفتحت له أسماعهم، وارتاحت له قلوبهم، فصاروا له مجيبين، ولداعيه ملبِّـين، قطعوا الوهاد، وساروا الفيافي، وجاوزوا النجاد، محبة ومرضاة لرب العباد، ساروا إلى الله ملبين، ولرحمته راجين، خرجوا وما للدنيا خرجوا، خرجوا وهم برحمة الله طامعين، وبجوده وإحسانه وعظيم كرمه آملين.
والحاج يخرج حين يخرج من بيته مفارقاً للأهل والأحباب، تاركاً وراءه المال والمتاع، مُقْبلاً على الله بقلب خاشع، ولسان ذاكر، غاية همِّه أن يصل إلى الله بقلبه، فيرجع من الحج بذنب مغفور، وحج مبرور، وتجارة رابحة لن تبور.
وحين يلبس المحرم لباس الإحرام يرى أول هالات الروحانية من الإخلاص لله وحده، والتجرد لفاطر السماوات والأرض من خلال نداء التوحيد "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"، فيتذكر لقاء الله عز وجل، ورحلته إلى الدار الآخرة.
وبمجرد دخول هذا المحرم إلى البلد الأمين يجد قوافل الإيمان التي جاءت تطلب العفو والمغفرة من الله تعالى، هتافهم تسبيح، ونداؤهم تلبية، ودعاؤهم تهليل، ومشيهم عبادة، وزحفهم صلاة، وسفرهم هجرة إلى ربهم، وغايتهم مغفرة من الله ورضوان، مجتمعين على كلمته، متأملين لبيته، مظهرهم كأنهم بنيان مرصوص، تركوا البلاد والديار، والأهل والأولاد، والتجارة والأعمال، قاصدين بيت الله الحرام، يعيشون في رحابه، وينعمون بقدسيته، متشرفين بضيافته، متلمسين لرحمته، مستهدفين المغفرة، مستمطرين الرضوان كما قال ربهم: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً(سورة البقرة:125).
وهاهي جموع الحجيج تشخص أبصارهم إلى كعبة الله المشرفة، بناء عظيم راسخ، تكسوها الهيبة والعظمة، الجباه نحوها ساجدة امتثالاً لأمر الله عز وجل، والأبدان حولها تطوف تعظيماً لشعائر الله تعالى، يقفون أمام رب لا تُغلق رحابه، ولا تُسد أبوابه، لا يخيِّب سائلاً، ولا يردُّ طالباً، فهو الحليم الذي لا يعجل، والكريم الذي لا يبخل، وفي ميدان هذا البيت يتجلى الدين في أروع صورة وأبدع مظهر.
وفي عرفات لا يقع البصر على مكان إلا ويرى عابداً يتبتل، أو مذنباً يتوجع، أو مؤمناً يخشع، أو مصلياً يركع، أو عاصياً ذا عين تدمع، فكأنه بحيرة قدسية تغسل الآثام، وتمسح الخطايا، وتمحو السيئات.
وعند رمي الجمرات يتجلى الانقياد والطاعة والامتثال في أبهى صورة، ويتذكر العبد ما حصل لإبراهيم عليه السلام حين أمر الله نبيه إبراهيم أن يذبح ولده، فسعى هذا النبي الكريم إلى تنفيذ ذلك؛ وحينها اعترضه الشيطان ووسوس له بألا ينفذ، فرماه بسبع حصيات، ثم انطلق، فاعترضه أخرى فرماه بسبع، ثم انطلق، فاعترضه ثالثة فرماه، وأضجع ولده على جبينه، وأجرى السكين على عنقه فلم تقطع، وناداه الله بقوله: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (سورة الصافات:104-105) أي امتثلت ما أمرك الله به، وعصيت الشيطان.
وفي الرمي إرغام للشيطان، وإغاظة له؛ فإنه يغتاظ حين يرى الناس يرجمون المكان الذي اعترض فيه خليل الله إبراهيم عليه السلام.
فيا من وفقك الله إلى حج بيته العتيق: لقد فتحت في حياتك صفحة بيضاء نقية، ولبست بعد حجِّك ثياباً طاهرة نقية، فحذار حذار من العودة إلى الأفعال المخزية، والمسالك المردية، والأعمال الشائنة، فما أحسن الحسنة تتبعها الحسنة، وما أقبح السيئة بعد الحسنة، وما أجمل أن يعود الحاج بعد حجه إلى أهله ووطنه بالخلق الأكمل، والعقل الأرزن، والوقار الأرصن، والعرض الأصون، والشيم المرضية، والسجايا الكريمة.
ما أجمل أن يعود الحاج حَسَنَ المعاملة لأهله، كريم المعاشرة لأولاده، طاهر الفؤاد، ناهجاً منهج الحق والعدل والسداد، المضمر منه خير من المظهر، والخافي أجمل من البادي، طاهر السريرة، وصاحب عبادة كثيرة، فذاك هو الموفق عند الله تعالى .. نعم إنه الموفق.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً من الموفقين المقبولين.
منقول