الذين أنعمت عليهم
ابن القيم الجوزية


قال الذين أنعمت عليهم ولم يقل المنعم عليهم كما قال المغضوب عليهم فجوابها وفيه فوائد عديدة :
إحداها أن هذا جاء على الطريقة المعهودة في القرآن الكريم وهي أن أفعال الإحسان والرحمة والجود تضاف إلى الله سبحانه وتعالى فيذكر فاعلها منسوبة إليه ولا يبني الفعل معها للمفعول فإذا جيء بأفعال العدل والجزاء والعقوبة حذف وبني الفعل معها للمفعول أدبا في الخطاب وإضافته إلى الله تعالى أشرف قسمي أفعاله
فمنه هذه الآية فإنه ذكر النعمة فأضافها إليه ولم يحذف فاعلها ولما ذكر الغضب حذف الفاعل وبنى الفعل للمفعول فقال المغضوب عليهم وقال في الإحسان الذين أنعمت عليهم
ونظيره قول إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين الشعراء 78 80 فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام والسقي إلى الله تعالى ولما جاء إلى ذكر المرض قال وإذا مرضت ولم يقل أمرضني وقال فهو يشفين
ومنه قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا الجن 10 فنسبوا إرادة الرشد إلى الرب وحذفوا فاعل إرادة الشر وبنوا الفعل للمفعول
ومنه قول الخضر عليه الصلاة و السلام في السفينة فأردت أن أعيبها فأضاف العيب إلى نفسه وقال في الغلامين فأراد ربك أن يبلغا أشدهما الكهف 82
ومنه قوله تعالى أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم البقرة 187 فحذف الفاعل وبناه للمفعول وقال وأحل الله البيع وحرم الربا البقرة 275 لأن في ذكر الرفث ما يحسن منه أن لا يقترن بالتصريح بالفاعل
ومنه حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير المائدة 3 وقوله قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا الأنعام 151 إلى آخرها
ومنه وهو ألطف من هذا وأدق معنى قوله حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم النساء 33 إلى آخرها ثم قال وأحل لكم ما وراء ذلكم النساء 24 وتأمل قوله فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم النساء 16 كيف صرح بفاعل التحريم في هذا الموضع وقال في حق المؤمنين حرمت عليكم الميتة والدم
الفائدة الثانية أن الإنعام بالهداية يستوجب شكر المنعم بها وأصل الشكر ذكر المنعم والعمل بطاعته وكان من شكره إبراز الضمير المتضمن لذكره تعالى الذي هو أساس الشكر وكان في قوله أنعمت عليهم من ذكره وإضافته النعمة إليه ما ليس في ذكر المنعم عليهم لو قاله فضمن هذا اللفظ الأصلين وهما الشكر والذكر المذكوران في قوله فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون البقرة 152
الفائدة الثالثة أن النعمة بالهداية إلى الصراط لله وحده وهو المنعم بالهداية دون أن يشرك أحد في نعمته فاقتضى اختصاصه بها أن يضاف إليه بوصف الإفراد فيقال أنعمت عليهم أي أنت وحدك المنعم المحسن المتفضل بهذه النعمة وأما الغضب فإن الله سبحانه غضب على من لم يكن من أهل الهداية إلى هذا الصراط وأمر عباده المؤمنين بمعاداتهم وذلك يستلزم غضبهم عليهم موافقة لغضب ربهم عليهم فموافقته تعالى تقتضي أن يغضب على من غضب عليه ويرضى عمن رضي عنه فيغضب لغضبه ويرضى لرضاه وهذا حقيقة العبودية
واليهود قد غضب الله عليهم فحقيق بالمؤمنين الغضب عليهم فحذف فاعل الغضب وقال المغضوب عليهم لما كان للمؤمنين نصيب من غضب الله عليه بخلاف الإنعام فإن لله وحده فتأمل هذه النكت البديعة
الفائدة الرابعة أن المغضوب عليهم في مقام الإعراض عنهم وترك الإلتفات والإشارة إلى نفس الصفة التي لهم والإقتصار عليها وأما أهل النعمة فهم في مقام الإشارة إليهم وتعيينهم والإشادة بذكرهم وإذا ثبت هذا فالألف واللام في المغضوب وإن كانتا بمعنى الذين فليست مثل الذين في التصريح والإشارة إلى تعيين ذات المسمى فإن قولك الذين فعلوا معناه القوم الذين فعلوا وقولك الضاربون والمضروبون ليس فيه ما في قولك الذين ضربوا أو ضربوا فتأمل ذلك فالذين أنعمت عليهم إشارة إلى تعريفهم بأعيانهم وقصد ذواتهم بخلاف المغضوب عليهم فالمقصود التحذير من صفتهم والإعراض عنهم وعدم الإلتفات إليهم والمعول عليه من الأجوبة ما تقدم فصل تعدية الفعل بنفسه
وأما المسألة السابعة وهي تعدية الفعل هنا بنفسه دون حرف إلى فجوابها أن فعل الهداية يتعدى بنفسه تارة وبحرف إلى تارة وباللام تارة والثلاثة في القرآن
فمن المعدى بنفسه هذه الآية وقوله ويهديك صراطا مستقيما ومن المعدى ب إلى قوله وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم وقوله تعالى قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ومن المعدى باللام قوله في قول أهل الجنة الحمد لله الذي هدانا لهذا الأعراف 43 وقوله تعالى إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم الإسراء 9
والفروق لهذه المواضع تدق جدا عن أفهام العلماء ولكن نذكر قاعدة تشير إلى الفرق وهي أن الفعل المعدى بالحروف المتعددة لا بد أن لا يكون له مع كل حرف معنى زائد على معنى الحرف الآخر وهذا بحسب اختلاف معاني الحروف فإن ظهر اختلاف الحرفين ظهر الفرق نحو رغبت عنه ورغبت فيه وعدلت إليه وعدلت عنه وملت إليه وعنه وسعيت إليه وسعيت به وأن تفاوت معنى الأدوات عسر الفرق نحو قصدت إليه وقصدت له وهديته إلى كذا وهديته لكذا وظاهرية النحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر
وأما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف ومعنى مع غيره فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال فيشربون الفعل المتعدى به معناه
هذه طريقة إمام الصناعة سيبويه رحمه الله تعالى وطريقة حذاق أصحابه يضمنون الفعل معنى الفعل لا يقيمون الحرف مقام الحرف وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار تستدعي فطنة ولطافة في الذهن
وهذا نحو قوله تعالى عينا يشرب بها عباد الله الإنسان 6 فإنهم يضمنون يشرب معنى يروي فيعدونه بالباء التي تطلبها فيكون في ذلك دليل على الفعلين أحدهما بالتصريح به والثاني بالتضمن والإشارة إليه بالحرف الذي يقتضيه مع غاية الإختصار وهذا من بديع اللغة ومحاسنها وكمالها
ومنه قوله في السحاب شربن بماء البحر حتى روين ثم ترفعن وصعدن وهذا أحسن من أن يقال يشرب منها فإنه لا دلالة فيه على الري وأن يقال يروى بها لأنه لا يدل على الشرب بصريحه بل باللزوم فإذا قال يشرب بها دل على الشرب بصريحه وعلى الري بخلاف الباء فتأمله
ومن هذا قوله تعالى ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه الحج 25 وفعل الإرادة لا يتعدى بالباء ولكن ضمن معنى يهم فيه بكذا وهو أبلغ من الإرادة فكان في ذكر الباء إشارة إلى استحقاق العذاب عند الإرادة وإن لم تكن جازمة وهذا باب واسع لو تتبعناه لطال الكلام فيه
ويكفي المثالان المذكوران فإذا عرفت هذا ففعل الهداية متى عدي ب إلى تضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة فأتى بحرف الغاية ومتى عدي باللام تضمن التخصيص بالشيء المطلوب فأتى باللام الدالة على الإختصاص والتعيين فإذا قلت هديته لكذا فهم معنى ذكرته له وجعلته له وهيأته ونحو هذا وإذا تعدى بنفسه تضمن المعنى الجامع لذلك كله وهو التعرف والبيان والإلهام
فالقائل إذا قال اهدنا الصراط المسقيم هو طالب من الله أن يعرفه إياه ويبينه له ويلهمه إياه ويقدره عليه فيجعل في قلبه علمه وإرادته والقدرة عليه فجرد الفعل من الحرف وأتى به مجردا معدى بنفسه ليتضمن هذه المراتب كلها ولو عدي بحرف تعين معناه وتخصص بحسب معنى الحرف فتأمله فإنه من دقائق اللغة وأسرارها فصل تخصيص أهل السعادة بالهداية
وأما المسألة الثامنة وهي أنه خص أهل السعادة بالهداية دون غيرهم فهذه مسألة اختلف الناس فيها وطال الحجاج من الطرفين وهي أنه هل لله على الكافر نعمة أم لا
فمن ناف محتج بهذه وبقوله ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا النساء 69 فخص هؤلاء بالإنعام فدل على أن غيرهم غير منعم عليه ولقوله لعباده المؤمنين ولأتم نعمتي عليكم البقرة 150 وبأن الإنعام ينافي الإنتقام والعقوبة فأي نعمة على من خلق للعذاب الأبدي
ومن مثبت محتج بقوله وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إبراهيم 34 وقوله لليهود يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم البقرة 40 وهذا خطاب لهم في حال كفرهم وبقوله في سورة النحل التي عدد فيها نعمه المشتركة على عباده من أولها إلى قوله كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون النحل 81 83 وهذا نص صريح لا يحتمل صرفا واحتجوا بأن البر والفاجر والمؤمن والكافر كلهم يعيش في نعمة الله وكل أحد مقر لله تعالى بأنه إنما يعيش في نعمته وهذا معلوم بالإضطرار عند جميع أصناف بني آدم إلا من كابر وجحد حق الله تعالى وكفر بنعمته
وفصل الخطاب في المسألة أن النعمة المطلقة مختصة بأهل الإيمان لا يشركهم فيها سواهم ومطلق النعمة عام للخليقة كلهم برهم وفاجرهم مؤمنهم وكافرهم فالنعمة المطلقة التامة هي المتصلة بسعادة الأبد وبالنعيم المقيم فهذه غير مشتركة ومطلق النعمة عام مشترك فإذا أراد النافي سلب النعمة المطلقة للكافر أخطأ وإن أراد إثبات مطلق النعمة أصاب وبهذا تتفق الأدلة ويزول النزاع ويتبين أن كل واحد من الفريقين معه خطأ وصواب والله الموفق للصواب
وأما قوله تعالى يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم فإنما يذكرهم بنعمته على آبائهم ولهذا يعددها واحدة واحدة بأن أنجاهم من آل فرعون وأن فرق بهم البحر وأن وعد موسى أربعين ليلة فضلوا بعده ثم تاب عليهم وعفا عنهم وبأن ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى إلى غير ذلك من نعمه التي يعددها عليهم
وإنما كانت لأسلافهم وآبائهم فأمرهم أن يذكروها ليدعوهم ذكرهم لها إلى طاعته والإيمان برسله والتحذير من عقوبته بما عاقب به من لم يؤمن برسوله ولم ينقد لدينه وطاعته وكانت نعمته على آبائهم نعمة منه عليهم تستدعي منهم شكرا فكيف تجعلون مكان الشكر عليها كفركم برسولي وتكذيبكم له ومعاداتكم إياه وهذا لا يدل على أن نعمته المطلقة التامة حاصلة لهم في حال كفرهم والله أعلم فصل غير مكان لا
وأما المسألة التاسعة وهي أنه قال غير المغضوب ولم يقل لا المغضوب عليهم فيقال لا ريب أن لا يعطف بها بعد الإيجاب كما تقول جاءني زيد لا عمرو وجاءني العالم لا الجاهل وأما غير فهي تابع لما قبلها وهي صفة ليس إلا كما سيأتي
وإخراج الكلام هنا مخرج الصفة أحسن من إخراجه مخرج العطف وهذا إنما يعلم إذا عرف فرق ما بين العطف في هذا الموضع والوصف فتقول لو أخرج الكلام مخرج العطف وقيل صراط الذين أنعمت عليهم لا المغضوب عليهم لم يكن في العطف بها أكثر من نفي إضافة الصراط إلى المغضوب عليهم كما هو مقتضى العطف فإنك إذا قلت جاءني العالم لا الجاهل لم يكن في العطف أكثر من نفي المجيء عن الجاهل وإثباته للعالم وأما الإتيان بلفظ غير فهي صفة لما قبلها فأفاد الكلام معها وصفهم بشيئين
أحدهما أنهم منعم عليهم والثاني أنهم غير مغضوب عليهم فأفاد ما يفيد العطف مع زيادة الثناء عليهم ومدحهم فإنه يتضمن صفتين ثبوتية وهي كونهم منعما عليهم وصفة سلبية وهي كونهم غير مستحقين لوصف الغضب وأنهم مغايرون لأهله
ولهذا لما أريد بها هذا المعنى جرت صفة على المنعم عليهم ولم تكن صفة منصوبة على الإستثناء لأنه يزول منها معنى الوصفية المقصود وفيها فائدة أخرى وهي أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى ادعوا أنهم هم المنعم عليهم دون أهل الإسلام فكأنه قيل لهم المنعم عليهم غيركم لا أنتم وقيل للمسلمين المغضوب عليهم غيركم لا أنتم فالإتيان بلفظة غير في هذا السياق أحسن وأدل على إثبات المغايرة المطلوبة فتأمله
وتأمل كيف قال المغضوب عليهم ولا الضالين ولم يقل اليهود والنصارى مع أنهم هم الموصوفون بذلك تجريدا لوصفهم بالغضب والضلال الذي به غايروا المنعم عليهم ولم يكونوا منهم بسبيل لأن الإنعام المطلق ينافي الغضب والضلال فلا يثبت لمغضوب عليه ولا ضال فتبارك من أودع كلامه من الأسرار ما يشهد بأنه تنزيل من حكيم حميد .
منقول