حكم الإصرار على الصغائر ------ ذهب الجماهير من السَّلَف والخلف إلى انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر، وقد تظاهر على ذلك دلائل من الكتاب والسنة واستعمال سلف الأمة وخلفها.( النووي في شرح صحيح مسلم 2/58 ) - ومما اتفق عليه الفقهاء كما في الفروق ( 4/67 ) للقرافي المالكي : أن الصغيرة تعظم مع الإصرار عليها. - ويُطلق المصر على المعصية على مَن تلبّس من أضداد التوبة باسْم العزم على المعاودة، أو باستدامة الفعل بحيث يدخل به ذنبه في حيّز ما يُطلق عليه الوصف بصيرورته كبيراً عظيما. (أفاد بذلك النووي نقلاً عن ابن الصلاح كما في شرح صحيح مسلم 2/82) - ولأهل العلم في الإصرار على الصغيرة هل يُصيِّرها كبيرة ؟ قولان : الأول : أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة، وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما، وروي عن غيره من الصحابة، وهو قول أكثر أهل العلم. قال النووي رحمه الله : قال العلماء : والإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة، وروي عن عمر، وابن عباس وغيرهما رضي الله عنهم : لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار . ومعناه أن الكبيرة تُمحى بالاستغفار، والصغيرة تصير كبيرة بالإصرار. وقال ابن القيم : الإصرار على الصغيرة قد يساوي إثمه إثم الكبيرة أو يربو عليها. ( إغاثة اللهفان 2/151 ) الثاني : أن الإصرار على الصغيرة لا يصيّرها كبيرة. وقد احتج أصحاب كل قول بحجج تعضد ما ذهبوا إليه، وأبرز ما احتج به أصحاب القول الأول، ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار . وقد روي مرفوعا من وجوه ضعّفها ابن رجب وغيره من المحدثين . وأما أصحاب القول الثاني فاحتجوا بالنصوص المفرّقة بين الكبائر والصغائر، كقوله تعالى: " إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً " [سورة النساء : 31 ] وكقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : ( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر ) وقد قيل: إن الصغيرة لا تصير كبيرة بتكرارها، والمداومة عليها، سواء أكان التكرار لصغيرة بعينها، أو لجنس الصغائر، وأما ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما فمحمول على أن الإصرار هو استدامة غير الآبه بحدود الله، ولا المبالي بحرماته، ولا المعظم لأمره ونهيه، ولا الخائف من عقوبته.. وهذا لا ريب أنه من كبائر ذنوب القلوب، وأما الاستدامة لغلبة الشهوة ونحو ذلك، مع خوف العقوبة، ووجل المؤاخذة، فليس كبيرة. وإتماماً للفائدة فأورد لك مكفرات الذنوب : - فأما صغائر الذنوب فتمحى بعدة أمور، منها : 1- التوبة إلى الله عزوجل. قال الله تعالى: "وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى" [سورة طه : 82 ] 2- الاستغفار. قال الله تعالى على لسان نوح عليه الصلاة والسلام: " فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا " [ سورة نوح : 10 ] 3- الحسنات الماحية. فإن الحسنات يذهبن السيئات. قال تعالى "إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ " [سورة هود : 114 ] قال ابن كثير -رحمه الله-: إن فعل الخيرات يكفّر الذنوب السالفة. (تفسير ابن كثير 2/462) وقال صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها) رواه أحمد في مسنده. وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رجلاً أصاب من امرأة قُبلةً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، قال: فنزلت: {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَىِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ إِنَّ ٱلْحَسَنَـٰتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيّئَـٰتِ ذٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذكِرِينَ} قال: فقال الرجل: إليّ هذه يا رسول الله؟ قال: ((لمن عمل بها من أمتي)) قال النووي رحمه الله: هذا تصريحٌ بأن الحسنات تكفّر السيئات. (شرح صحيح مسلم17/79) 4- ابتلاء الله تعالى إياه بمصائب تكفّر عنه. عن أبي سعيد وأبي هريرة -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يصيب المسلم من نصبٍ ولا وصبٍ ولا همٍ ولا حزنٍ ولا أذىً ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) [ متفق عليه ] 5- الصلوات الخمس. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يومٍ خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟)) قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: ((فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)) [ متفق عليه واللفظ لمسلم ] وهناك غير ما ذُكر من المكفرات. - وأما كبائر الذنوب فتكفر بالتوبة إلى الله . قال العلامة الخازن في تفسيره ( 2/507 ) : قال العلماء : ( الصغائر من الذنوب تكفرها الأعمال الصالحات مثل الصلاة والصدقة والذكر والاستغفار ونحو ذلك من أعمال البر، وأما الكبائر من الذنوب فلا يكفرها إلا التوبة النصوح، ولها ثلاثة شروط : الشرط الأول: الإقلاع عن الذنب بالكلية. الشرط الثاني: الندم على فعله. الشرط الثالث: العزم التام أن لا يعود إليه في المستقبل، فإذا حصلت هذه الشروط صحت التوبة، وكانت مقبولة إن شاء الله تعالى ) -وأما محو الحسنات لكبائر الذنوب ففيه خلاف بين أهل العلم . ولعل الراجح عدم دخول الكبائر فيها، وقد ردّ ابن عبد البر على من قال: إن الكبائر تمحوها الحسنات، فقال: ( وهذا جهلٌ بيّن، وموافقة للمرجئة فيما ذهبوا إليه من ذلك، وكيف يجوز لذي لبٍ أن يحمل هذه الآثار على عمومها وهو يسمع قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} وقوله تبارك وتعالى: {وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، في آي كثيرة من كتابه. ولو كانت الطهارة والصلاة وأعمال البرّ مكّفرة للكبائر، والمتطهر المصلي غير ذاكر لذنبه الموبق، ولا قاصد إليه، ولا حضره في حينه ذلك أنه نادم عليه، ولا خطرت خطيئته المحيطة به بباله لما كان لأمر الله عز وجل بالتوبة معنى، ولكان كل من توضأ وصلى يُشهد له بالجنة بأثر سلامه من الصلاة، وإن ارتكب قبلها ما شاء من الموبقات الكبائر، وهذا لا يقوله أحدٌ ممن له فهمٌ صحيح. [التمهيد 4/44-45] إلا أن مما لاشك فيه أن الإيمان يزداد بالطاعات والحسنات، ويتناقص بالذنوب والمعاصي، ومتى ازداد المرء من الحسنات فإنه سيجد في نفسه إقبالاً على الطاعات، إدباراً عن المعاصي واستقباحاً لها . فكثرة التزود من الطاعات باب عظيم للخلاص والفكاك من الذنوب والمعاصي صغيرها وكبيرها. والله تعالى أعلم. ----[دائرة الشؤن الاسلامية]