في ظلال سورة العصر
عبدالله بن عبده نعمان العواضي






إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70-71].

أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.


أيها المسلمون، قال تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 1 - 3].


هذه السورة سورة مكية أُنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة، وقد عُدت السورةَ الثالثة عشرة في عداد نزول السور، وقد نزلت بعد سورة الانشراح وقبل سورة العاديات، وهذه السورة الكريمة آياتها ثلاث آيات، وهي بذلك تنضم إلى أقصر سور القرآن الكريم آياتٍ، وهذه السور هنَّ: سورة العصر، وسورتا الكوثر والنصر [2].


إن هذه السورة وإن كانت قليلة الآيات، قصيرة المقاطع، فإنها سورة عظيمة في معانيها، بليغة في مبانيها، وقد ذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب، وذلك بعدما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أن يسلم عمرو، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة؟ فقال: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة، فقال: وما هي؟ فقال: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ، ففكر مسيلمة هُنيهة، ثم قال: وقد أُنزل عليَّ مثلها، فقال له عمرو: وما هو؟ فقال: "يا وَبْرُ يا وَبْرُ! إنما أنت أُذنانِ وصدر، وسائرك حَفْر نقْر"، ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلمُ أنك تكذب" [3].


وقد تحدثت هذه السورة عن إثبات الخسارة التامة لكل إنسان كفر بالله تعالى، وحاد عن طاعته، واستثنت من الخسارة العامة أهلَ الإيمان والعمل الصالح، الذين من أعمالهم: التواصي بالحق والتواصي بالصبر.


عباد الله، إن هذه السورة عظيمة القدر، عميقة المضمون، كثيرة النفع لمن تدبَّرها وعمل بما فيها، ومما يدل على هذا: إدراك سلفنا الصالح لذلك، فقد جاء عن أبي مدينة الدارمي - وكانت له صحبة - قال: كان الرجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر: ﴿ والعصر إن الإنسان لفي خسر"[4].


وقال الشافعي رحمه الله: "لو تدبَّر الناس هذه السورة لوسعتهم"[5].
فما أحسن أن نقف معشر المسلمين اليوم مع هذه السورة الكريمة وقفات تأمُّل وتدبر؛ لنأخذ منها العلم، ثم ننتقل بعد ذلك إلى العمل والامتثال.


أيها الأحباب الفضلاء، يقول تعالى بعد بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ: ﴿ وَالْعَصْرِ.
هذا افتتاح مشوق افتتحت به السورة الكريمة؛ حيث ابتدأ بأسلوب قسم، وهو من أساليب التوكيد، والقسم يؤذن بأهمية ما بعده، وهي طريقة من طرق الكلام الذي يراد الانتباه له والعناية به، والقسم في العربية يتكون من: مقسِم، وأداة قسم، ومقسَم به، وجواب قسم، فالمقسم هنا هو الله تبارك وتعالى، وأداة القسم هي الواو، وهي حرف من أحرف القسم الثلاثة، والمقسم به هو العصر، وجواب القسم قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ.


ولله تعالى أن يقسم بما شاء؛ فيقسم بنفسه؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَيَسْتَنْبِئُو نَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [يونس:53]، ويقسم بما شاء من خلقه، كما هنا، وكقوله تعالى: ﴿ وَالضُّحَى [الضحى:1].


فهنا أقسم الله تعالى بالعصر، والمراد بالعصر: الدهر كله، أقسم الله به لما فيه من العجائب؛ أمة تذهب وأمة تأتي، وقدَر ينفذ وآية تظهر، وهو هو لا يتغير، ليل يعقبه نهار، ونهار يطرده ليل، فهو في نفسه عجب...
وكما قيل:
وأرى الزمانَ سفينةً تجري بنا *** نحوَ المنونِ ولا نرى حركاتِهِ


فهو في نفسه آية سواء في ماضيه لا يعلم متى كان أو في حاضره لا يعلم كيف ينقضي، أو في مستقبله، وقيل المراد: عصر الإنسان؛ أي: عمره ومدة حياته الذي هو محل الكسب والخسران؛ لإشعار السياق، ولأنه يخص العبد في نفسه موعظة وانتفاعًا[6].


أما المكلف فلا يحل له أن يقسم إلا بالله؛ باسم من أسمائه تعالى أو صفة من صفاته، وإقسامه بغير الله لا يجوز؛ كأن يقسم بمخلوق، بآبائه أو أولاده، أو بالأمانة، أو بالحرام والطلاق، أو غير ذلك؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت) [7].


معشر المسلمين، ثم قال تعالى: ﴿ إِنَّ الإِنسَانَ، صُدِّر جواب القسم بحرف: "إن" الذي يفيد التوكيد، وهذا يعني هنا تحقق ما بعد هذه الأداة وحصوله بلا ريب.


وقد سُمي الإنسان إنسانًا قيل من النسيان؛ لنسيان آدم؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه:115].
قال الشاعر:
لا تنسين تلك العهود فإنما *** سميت إنسانًا لأنك ناسي

وقال آخر:
فإن نسيت عهودًا منك سالفة *** فاغفِر فأول ناس أول الناس

وقيل من الأُنس، قال الشاعر:
وَمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ إِلَّا لأُنْسِهِ *** وَلَا الْقَلْبُ إِلَّا أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ [8]


و(ال) في الإنسان للاستغراق، يعني: كل إنسان في خسارة، إلا من استثناهم الله تعالى.
ولفظ الإنسان يطلق على الذكر والأنثى، ولا يقال للمرأة إنسانة إلا على قلة.


وقوله تعالى: ﴿ لَفِي خُسْرٍ، يعني: إن الإنسان غارق في الخسارة، وتحيط به من كل جانب، وهذا أبلغ من أن يقال: إن الإنسان لخاسر"[9].


والخسر ضد الربح، ومعناه: الهلاك والنقصان، والمراد بالخسارة: دخول النار، ونيل غضب الجبار، وعدم دخول الجنة وعدم نيل رضوان.


أيها المسلمون، إن خسارة الإنسان البعيد عن الله تعالى كبيرة، وهي حاصلة بترك أوامر الشرع وفعل نواهيه، وهي على مراتب، تتفاوت بتفاوت المعاصي، فهناك خسارة كبرى، وهناك خسارات صغرى:
فالكافر خاسر، والمنافق خاسر، والمشرك خاسر، والمرتد خاسر، فمن ترك الإيمان والعمل الصالح وصار إلى النار بكفره أو بشركه أو بنفاقه واتباعه للشيطان، فهو في خسران مبين؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا [النساء: 119]، وقال: ﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ [الأنعام: 31]، وقال: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج: 11]، وقال: ﴿ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر: 85]، وقال: ﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر: 15].


والمبتدع في دين الله خاسر، وأهل الربا خاسرون، ومستبيحو الدماء بالباطل خاسرون، وهاتكو الأعراض خاسرون، وآخذو أموال الناس بالباطل خاسرون، ومطلقو ألسنتهم في الباطل خاسرون، والذين ما وجدوا لذة الإيمان، ووجدوها في مقارفة العصيان خاسرون.


ولن يدرك الجميعَ الربحُ والفلاح حتى يتوبوا إلى الله توبة نصوحًا؛ قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ [القصص: 67].


أيها الإخوة الفضلاء، ثم يقول تعالى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 3].


هذا استثناء من عموم الخسارة التي تلحق كل إنسان، ولا يسلم منها إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.


فأولى هذه الصفات: الإيمان، وهي كلمة لها حقيقة وبرهان، فحقيقتها استقرارها في الجَنان، وبرهانها ظهور آثارها على الجوارح والأركان، وليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، إنما الإيمان ما وقر في القلب وصدَّقه العمل؛ كما قال الحسن البصري [10].


وقد تحدث القرآن الكريم والسنة النبوية عن الإيمان حديثًا كثيرًا؛ عن كنهه ومعناه، وعن أعماله، وأسباب الحصول عليه ووسائل زيادته، وعوامل نقصانه، وعن ثمراته وآثاره، وعن صفات أهله وجزائهم في الدنيا والآخرة؛ يقول تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2]، ﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الأنفال: 3] ﴿ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 4].


وفي الصحيحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون شعبة، فأفضلها: قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، وفي رواية لمسلم: (بضع وسبعون شعبة).


فعلى المسلم أن يرقى من درجة الإسلام إلى درجة الإيمان؛ فإن درجة الإيمان رفيعة، وأن يسعى إلى زيادة إيمانه على مراقي الأعمال الصالحة، وترك الأعمال السيئة؛ حتى يصل إلى درجة الإحسان.


وقوله تعالى: ﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وهذا هو برهان الإيمان وجناح النجاة الآخر، فالطيران إلى آفاق الفوز لا يكون إلا على جناحي الإيمان والعمل الصالح؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [يونس: 9]، وقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف: 107].


والعمل الصالح هو العمل بالأوامر، واجتناب النواهي الشرعية الواردة في الكتاب والسنة.


والعمل الصالح متنوع؛ فمنه ما يكون عملًا باطنًا؛ كالتوحيد ومحبة أولياء الله، وبُغض أعدائه، والإخلاص لله تعالى، ومنه ما يكون ظاهرًا، وأمثلته كثيرة غير محصورة.


ومنه ما يكون بين العبد وربه؛ كالصلاة والصيام والدعاء، وتجنُّب الحرام في المطعم والمشرب والملبس، ومنه ما يكون بين العبد وغيره من المخلوقين؛ كالإحسان إلى الوالدين وذوي القربى والجيران، وسائر الناس، حتى مع الحيوان، والابتعاد عن إيذائهم بالباطل بقتل أو انتهاك، أو أخذ حق، وغير ذلك.


نسأل الله أن يجعلنا من المؤمنين العاملين الصالحات، وأن يُبعدنا عن الخسارة في الدنيا والآخرة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيها المسلمون، ثم قال تعالى: ﴿ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ، والتواصي بالحق هو من جملة العمل الصالح، وإنما خصَّه تعالى بالذكر لأهميته، ولفت الانتباه إليه؛ إذ قد يظن بعض الناس أنه يكفيه للنجاة أن يكون مؤمنًا وعاملًا بالصالحات فحسب، ولا يهمه غيره بعد ذلك، وربما يستدل بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: 105]، وهو استدلال خاطئ، فعن قيس بن أبي حازم قال: قام أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: 105].


وإنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا المنكر لا يغيِّرونه، أوشك أن يعمَّهم الله بعقابه) [11].


فالمؤمن الصالح لا يكتفي بصلاح نفسه فقط، بل يسعى إلى إصلاح غيره، ولا يكفيه أن يكون صالحًا، بل عليه أن يرقى إلى أن يكون مصلحًا؛ عن جرير بن عبدالله رضي الله عنه قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم) [12].


والخير لا ينتشر ولا يُعرَف إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن على من أراد السعي إلى ذلك أن يكون على علمٍ وحكمة؛ لأنه إذا لم يكن كذلك فقد يفسد أكثر مما يصلح؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف: 108]، وقال: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين َ [النحل: 125].


وبقاء هذه الشعيرة في الأمة من علامات الخير فيها؛ كما قال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110].


فالمؤمنون يتواصون بينهم بالحق، وهو: كل ما كان طاعة لله تعالى؛ فالتواصي بالحق من ذلك، والتواصي بإقام الصلاة من ذلك، والتواصي بترك المعاصي من ذلك، والتواصي بإصلاح الظاهر والباطن من ذلك، وهذا الموقف الأسبوعي بين أيديكم - أعني خطبة الجمعة - هو من التواصي بالحق.


عباد الله، ثم قال تعالى: ﴿ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ، ما أحسن هذا وأجمله، وأنفعه وأفضل أثره! نعم، فكما أننا محتاجون إلى التواصي بالحق، فنحتاج كذلك إلى التواصي بالصبر على ذلك الحق؛ التواصي بالصبر على طاعة الله، والتواصي بالصبر عن معصية الله، والتواصي بالصبر على قدر الله تعالى، وكما قلنا في التواصي بالحق من حيث التخصيص، فالتواصي بالصبر هو من التواصي بالحق، لكن الله تعالى خصَّه بذلك لأهميته، ولأن التواصي بالحق يحتاج إلى صبر كبير على أذى الناس؛ ولهذا قال لقمان لابنه كما قال الله تعالى: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان: 17].


وكذلك التواصي بالحق يحتاج إلى لزوم حصن الصبر الذي يمنع من الاندفاع والطيش الذي يوصل إلى نتائج غير محمودة، ولو كانت نية صاحبه صالحة، فما أحسن هذا التخصيص بعد التخصيص بعد التعميم! ومما لا شك فيه أن الصبر عبادة عظيمة، وقربة إلى الله تعالى كبيرة؛ ولهذا كثُر ذكرُ الصبر في لسان الوحي؛ أمرًا به، ونهيًا عن ضده، وبيانًا لمنزلته وثمراته، وذكرًا للمقامات العلية التي ينالها أهل الصبر.


فهو بلا ريب نصف الإيمان ومجمع الفضائل، وسد مَنيع أمام طوفان الشهوات والهوى التي تحب أن ترتع في الرذائل؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 200]، وقال: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن يتصبَّر يصبِّره الله، وما أُعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر) [13].


فيا أيها المسلمون، تدبروا سورة العصر، واتَّجهوا بعد ذلك للعمل بها، واحذَروا أن تكونوا من أهل الخسارة، ولكن لنكن جميعًا من أهل الإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.


فما أجمع ما تحتويه هذه السورة من المعاني! وما أحوجنا إلى العمل بما تضمنته من الخير! وما أجمل العاقبة التي تنتظر العاملين بما دعت إليه هذه السورة الكريمة!
هذا وصلُّوا وسلِّموا على المبعوث رحمةً للعالمين.



[1] ألقيت في مسجد ابن الأمير الصنعاني في: 21 /8 /1440هـ، 26 /4 /2019م.

[2] ينظر: التحرير والتنوير (30/ 463).

[3] تفسير ابن كثير (4/ 671).

[4] رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح.

[5] تفسير ابن كثير (4/ 671).

[6] أضواء البيان (9/ 87-88).

[7] متفق عليه.

[8] تفسير القرطبي (1/ 193).

[9] التحرير والتنوير (30/ 466).

[10] مصنف ابن أبي شيبة (6/ 163).


[11] رواه ابن ماجه وغيره، وهو صحيح.

[12] متفق عليه.

[13] متفق عليه.