اللغة العربية !

تنعى حظّها بين أهلها

حافـظ إبراهيـم


رجَعْـتُ لنَفْسِي فاتَّهَمـتُ حَصاتِـي

ونادَيْتُ قَوْمِي فآحْتَسَبْتُ حَياتِـي([1])

رَمَوْني بُعُقْمٍ في الشَّبـابِ وليْتَنـي

عَقِمتُ فلَـمِ أَجَزَعْ لَقْول عُداتـي([2])

وَلَـدْتُ ولَّمـا لَـم أَجِـدْ لَعرائِسِـي

رِجـالاً وأَكْـفـاءً وَأَدْتُ بَناتـي([3])

وسِعْـتُ كِتـابَ الله لَفْظـاً وغايـةً

وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظـاتِ([4])

فكيف أَضِيقُ اليومَ عنَ وَصْفِ آلَـةٍ

وتَنْسِيـقِ أسـمـاءٍ لمُخْترعَـاتِ

أنا البَحْـرُ في أَحْشائِه الدُّرُّ كامِـنٌ

فهل سَأَلوا الغَوَّاصَ عن صَدَفاتـيِ

فيـا وَيْحَكُمْ أَبْلَـى وتَبْلَى مَحاسِنـي

ومنكْم وإنْ عَـزَّ الدّواءُ أساتِـي([5])

فـلا تَكِلُـوني للـزّمـانِ فـإنّنـي

أَخافُ عليكمْ أنْ تَحِيـنَ وَفَاتِـي ([6])

أَرَى لرِجـالِ الغَـرْبِ عِزّاً ومَنْعَـةً

وكـم عَـزَّ أَقوامٌ بِعـزِّ لُغـاتِ([7])

أَتَـوْا أَهْلَهُـمْ بالمُعْجِـزاتِ تَفَـنُّنـاً

فـيـا لَيْتَكُـمْ تأتـونَ بالكَلِمَـاتِ

أَيُطْرِبُكُـمْ مِنْ جانِبِ الغَربِ ناعِـبٌ

يُنادِى بِوَأْدِي في رَبِيـعِ حياتِـي([8])

ولو تَزْجُـرُونَ الطَّيْرَ يوماً عَلِمْتُـمُ

بما تَحْتَـه مِنْ عَثْـرَةٍ وشَتـاتِ([9])

سَقَى اللهُ في بَطْـنِ الجَزِيرةِ أَعْظُماً

يَعِـزُّ عليهـا أنْ تَلِيـنَ قَناتِـي([10])

حَفِظْـنَ وِدادِي في البِلى وحَفِظْتـه

لـهـنّ بقَلْـبٍ دائـمٍ الحَسَـراتِ

وفَاخَرْتُ أَهلَ الغَرْبِ والشرقُ مُطْرِقٌ

حَياءً بتلكَ الأَعْظُـمِ النَّخِـراتِ([11])

أَرَى كـلَّ يـومٍ بالجَرائِـدِ مَـزْلَقـاً

مِنَ القَبْـر يُدْنيني بغَيْـرِ أَنـاةِ([12])

وأَسْمَعُ للكُتّـابِ في مِصْـرَ ضَجّـةً

فأَعْلَـمُ أنّ الصّائحِـين نُعاتِـي([13])

أيَهْجُرُني قَوِمي ـ عفا اللهُ عَنْهُمُ ـ

إلى لُغَـةٍ لَـمْ تتصِـلْ بـرُواةِ ([14])

سَـرَتْ لُوثَةُ الإِفْرَنْجِ فيها كماً سَرَى

لُعابُ الأَفاعي في مَسِيلِ فُـرات ([15])

فجاءَتْ كثَـوْبٍ ضَمَّ سَبْعِـين رُقْعَـةً

مُـشَكَّلَـةَ الأَلْـوانِ مُخْتَلِـفـاتِ

إِلى مَعْشَـرِ الكُتّـابِ والجَمْعُ حافِـلٌ

بَسَطْتُ رَجائي بَعْدَ بَسْطِ شَكاتِي([16])

فإمّا حياةٌ تَبْعَـثُ المَيْـتَ في البِلـى

وتُنْبِتُ في تِلْكَ الرُّمُوسِ رُفاتـي([17])

وإمّـا مَمـاتٌ لا قِيـامـةَ بَـعْـدَهُ

مَماتٌ لَعَمـري لَمْ يُقَـسْ بمَمـاتِ

(1) رجعت لنفسي ، أي تأملت . والحصاة : الرأي والعقل . واحتسبت حياتي : عددتها عند الله فيما يدخر . يقول على لسان اللغة العربية : إنني عدت إلى نفسي وفكرت فيما آل إليه أمري ، فأسأت الظن بمقدرتي ، كدت أُصدِّق ما رموني به من القصور ، وناديت الناطقين بي أن ينصروني فلم أجد منهم سميعاً ، فادخرت حياتي عند الله .

(2) العداة : الأعداء : يقول : اتهموني بأني لا ألد على حين أني في ريعان شبابي ، وليتني كنت كما قالوا فلا يحزنني قولهم . وكني بالعقم هنا عن ضيق اللغة وجمودها .

(3) يريد " بالعرائس " الألفاظ المجلوة الحسنة . ووأد البنت : دفنها حية .

(4) الآي : جمع آية .

(5) الأساة : جمع الآسى ، وهو الطبيب .

(6) تكلوني : تتركوني . وتحين : تحل .

(7) يقال : هو في منعة ، أي في قوم يمنعونه ويحمونه .

(8) الناعب : المصوت بما هو مستنكره . ربيع الحياة : أيام الشباب والقوّة .

(9) زجر الطير ، وهو أن ترمي الطائر بحصاة أو تصبح به ، فإن ولاك في طيرانه ميامنه تفاءلت به خيراً ، وإن ولاك مياسره تطيرت منه . والعثرة : السقوط . والشتات : التفرق . يقول : لو استنبأتم الغيب بزجر الطير ، كما كان يفعل العرب ، لعلمتم ما يجر دفني عليكم من السقوط والانحلال .

(10) القناة : الرمح . ولينها : كناية عن الضعف . ويريد " بالأعظم " : من دفن في الجزيرة من العرب الأوّلين .

(11) النخرات : البالية المتفتتة .

(12) المزلق : مكان الانزلاق ، أي السقوط والزلل . والأناة : التأني والإبطاء . ويريد وصف لغة الجرائد اذ ذاك بالضعف .

(13) النعاة : جمع ناع ، وهو المخبر بالموت .

(14) لم تتصل برواة ، أي لم يأخذها الخلف عن السلف بطريق الرواية التي تحفظها من التغيير كما هو الشأن في العربية . ويشير إلى تلك اللغة المرقعة التي كانت مستعملة أيام نشر هذه القصيدة .

(15) اللوثة ( بالضم) : عدم الإبانة . ولعاب الأفاعي : سمها . والفرات : الماء العذب .

(16) الشكاة : الشكوى .

(17) تبعث الميت : تحييه . والرموس : القبور ، الواحد رمس . والرفات : كل ما تكسر وبلي : يريد ما بقى من الجسد بعد الموت .