كيف يساهم حافظ القرآن الكريم في توعية المجتمع تنمويا؟
هدى بنت دليجان الدليجان



من خصائص الرسالة الخاتمة عنايتها بالعلم، وكان من أكبر التغيرات التي أحدثتها هذه الرسالة في
الواقع الإنساني دعوتها للواقعية، ونبذها المثالية الفلسفية؛ فقد أكمل الله - جل جلاله - الإسلام ديناً، وارتضاه للبشرية إلى قيام الساعة، قال - تعالى -: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) [المائدة: 3]، ومع هذا الإكمال والتمام الإلهي سمح بالاجتهاد البشري العلمي، وفتح أبوابه ونوافذه لكل من يطيقه في كل زمان ومكان، في صورة رائعة من الواقعية.
فهذا الأصل العظيم، وهو الدعوة إلى الاجتهاد العلمي في المجتمع الإسلامي، خلص إلى تكريم عقل الإنسان واجتهاداته وابتكاراته، وفق الشروط التاريخية، والظروف التطورية التي تطرأ على المجتمع الإنساني، وتلبية لاهتماماته الفورية، وتطلعاته المستقبلية، وفي نطاق معطياته التراثية والواقعية، وفي حدود حاجاته الروحية والزمنية، وإمكاناته الشعورية والعقلية [انظر: حقيقة الفكر الإسلامي، د. عبد لرحمن الزنيدي، 11].
وكان من أصول القابلية لاجتهادات العلماء هو حفظهم للقرآن الكريم، وعلمهم بعلومه، ومقدرتهم على التأمل والتدبر في آياته وأدلته العظيمة، وفق منهجية علمية متماهية مع أسلوبه البياني المعجز، في ظاهرة فريدة أقر بها الأولون والآخرون في الشرق والغرب، فحفظ القرآن الكريم تحقيق لمنافسة عظيمة على الارتقاء في الدرجات الدنيوية والأخروية، لكن يظل الحفظ الحرفي منسجماً مع القدرة على تطبيق هذه الحروف المحفوظة على أرض الواقع الإنساني، علماً وحكمة، وأنموذجاً خلقياً يقتدى به، ووعياً متجدداً بمتغيرات المجتمع.
فالنتيجة: إن العلم بالقرآن الكريم هو القدرة على التقارب لدراسة الإعجاز الإلهي، وفهم مراد معانيه بحكم الطاقة البشرية، وتدبر أحكامه وحكمه، ويدخل فيها مناقشة اجتهادات العلماء في سائر العلوم الطبيعية والإنسانية، وما تؤول إليه النتائج الموضوعية لتلك الاجتهادات.
* كيف يدعو القرآن الكريم إلى العلم؟
فمن خصائص حفظ القرآن الكريم أنه مقياس للتفاوت في المقدرة العقلية على ترديده آناء الليل وأطراف النهار، فيدعوه ذلك إلى التأمل والتدبر، الذي يعنيه قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "لا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد".
لماذا؟ لأن قارئ القرآن، العالم بأساليبه وإعجازه قادر على استحضار معان عظيمة متجددة كل مرة. من أجل هذا؛ كان من الأصول العلمية أن قارئ القرآن لديه القدرة على قبول أية فكرة قبل رفضها ومحاربتها، لمناقشتها ودراستها وعرضها على مائدة القرآن الكريم، فالقرآن الكريم بما يملكه من الحق العظيم والإعجاز البليغ لديه القابلية لعلاج أية فكرة منهجية ملتزمة بضابط الحق والدعوة إليه؛ لذا جاءت الدعوة إلى إعمال العقل أكثر من مرة: (لعلكم تعقلون)، (لعلكم تتفكرون)، وغيرها من الآيات الكريمة.
وقد نقل عن ابن تيميه - رحمه الله - في فتاويه (5/101) عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قوله: "اقبلوا الحق من كل من جاء به، وإن كان كافراً - أو قال: فاجراً - واحذروا زيغة الحكيم"، قالوا: كيف نعلم أن الكافر يقول كلمة الحق؟ قال: "إن على الحق نوراً".
ومن ذلك حلف الفضول في الجاهلية، وهو فكرة حسنة واعية واقعية لمحاربة الظلم، اتفق عليها المشركون، حتى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مدحه: ((لقد شهدت في دار ابن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت)) أخرجه ابن هشام في السيرة النبوية (1/145)، وقال عنه الألباني: صحيح.
فدور العلماء في تطبيق الواقعية على آيات القرآن الكريم له ميادين ثلاثة في حياة الناس، يصول فيها ويجول، والأصل أن يكون له في كل ميدان من هذه الميادين أسلوب يختلف عن غيره وهي: العقائد، والعبادات، والمعاملات، وهذا الأسلوب الواقعي في فهم القرآن الكريم يحتم على العلماء أساليب للتعامل مع الآيات، كما يلي:
1- أسلوب المخبر الواصف: وهي العلم بالعقيدة التي ذكرها الله - تعالى - في كتابه الكريم، وأكد عليها في جميع الآيات، فلا مجال للاجتهاد، وإنما هو التعليم والتأكيد على حقائق العلم بهذه العقيدة شرعاً وعقلاً، قال - تعالى -: (لو كان فيهما آلهةٌ إلا اللهُ لفسدتا) [الأنبياء: 22].
2- أسلوب الناشئ المحدد: وهي العلم بالعبادات التي لا مجال للاجتهاد فيها، كعدد الصلوات، وعدد الركعات، وأصناف الزكاة، وحرمة الخمر والزنا من قطعيات الدين وكلياته التي لا مجال للاجتهاد فيها، قال - تعالى -: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) [البقرة: 189].
3- أسلوب الناقد المهذب: وهي دراسة المعاملات والإجراءات والوسائل الموصلة للغاية الحقيقية من خلق الإنسان وهي الاستخلاف في الأرض؛ لإقامة دين الله الحق، مثل: التنظيمات الأسرية، والتعليمية، ووسائل المواصلات والتقنيات، وغير ذلك.
ومن أمثلة الوعي بأسلوب النقد المهذب دعوة العلماء إلى كفالة اليتيم المقننة في العصر الحاضر، التي تقوم بها جمعيات البر والإحسان في مناطق العالم، سواء لمسلمين أو غيرهم، على الجانبين الكافل أو المكفول، انطلاقاً من الوعي بمفهوم الآية الكريمة، قال - تعالى -: (و يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير) [البقرة: 220].
فالوعي العلمي بأصول القرآن الكريم وعلاقة المنطوق بالمفهوم والقابلية للتطبيق جعلت من أوائل المسلمين مثالاً يحتذى في القابلية للطموح الواعي، والانطلاق في صورة عجيبة أوقدها حفظ القرآن الكريم، فقد أورد الإمام ابن حجر العسقلاني في كتابه الإصابة (3/539) قصة النابغة الجعدي عندما أنشد قصيدة عند الرسول - صلى الله عليه وسلم - يمدح بها قومه فقال:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا *** وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فأوقفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - قائلا: إلى أين يا أبا ليلى؟
قال النابغة الجعدي: إلى الجنة يا رسول الله، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: أجل إن شاء الله.
* هل نحن بحاجة إلى ولادة عالم بالقرآن الكريم حافظ له؟
هذا السؤال من الأسئلة المهمة جداً، فالفكر السليم مثل العافية للجسم، لا يسأل عنها إلا من يدرك قيمتها، خاصة إذا باتت مهددة بمرض أو عوز، فالسؤال عن الفكر السليم سؤال له حق مشروع؛ لأنه دلالة على اضطراب مؤشر قياس الاعتلال في المجتمع، وتبلد الأذهان، ووقوف سيل الإبداع والإتقان. فحافظ القرآن الكريم إذا تأخر عن وظيفته في الإصلاح لجأت العقول إلى الأباطيل والخرافات والسحر والشعوذة، وإذا آثر حافظ القرآن الكريم الانعزال والسكوت والسلامة، فالنتيجة خبو جذوته في القلوب، وانطفاء فاعليته في المجتمع، وخسارة العالم عالماً حافظاً وعاملاً، فالتزاوج بين الربانية والعلم دلالة على أهمية العالم الرباني وضرورته للحياة، كضرورة الماء والهواء، وإذا فقد العالم الإنساني العلماء الربانيين فسيؤول الحال بالبشرية إلى الانغلاق والتعصب والخسارة، قال - تعالى -: (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) [آل عمران: 79].
* فهل حفاظ القرآن الكريم يمرون بأزمة وعي؟
يقول الدكتور عبد الكريم بكار: "المجتمع يؤثر في الأفكار، والأزمات تصنع الأفكار".
((فالأزمات محطات مهمة في تاريخ الشعوب لا تفوت، فيها تراجع القناعات، وتصنع المعجزات، وفيها يعاد رسم الشخصية الجماعية للمجتمع، وهي فرص نادرة الحدوث))، فحفظ القرآن الكريم غاية رفيعة وعظيمة؛ لأنها تساوق بين المنطوق والمفهوم، لا يختلف عليها اثنان، بل سجل هذا الحفظ المتقن أحد العجائب الكونية العظيمة في مسابقات دولية لحفظ القرآن الكريم دون معرفة لغته والحديث بها، بل قراءة حروفه من أي إنسان تدعوه إلى السكينة والطمأنينة في عجب!!
وفي هذا العصر الكريم كثرت - بحمد الله - الطبعات الموثقة للمصحف الشريف، وتوفر نسخه الجميلة وتراجمه باللغات المختلفة في أزهى حلة بين أيدي الصغار والكبار، في القرى والمدن، وفي كل بقعة من بقاع الأرض، إذن ما الذي نحتاج إليه؟
ألمس في المجتمع العالمي الكبير أفراداً وشعوباً حباً للقرآن، وبحثاً عن أخلاقه، وتلقفاً لأحكامه، امتثالاً وانقياداً وقبولاً؛ لذا فنحن بحاجة ماسة إلى ولادة علماء ربانيين نابهين، يحفظون القرآن الكريم حرفاً ومعنى، منهجاً وأسلوباً، فيولدون منه أفكاراً صالحة للمجتمع، وذلك يستدعي ما يلي:
أولا: إدراك الواقع.
ثانيا: فهم الواقع.
ثالثا: معالجة الواقع وإصلاحه.
وهذه صلة قرآنية كريمة ثلاثية الأبعاد، سواء في التعليم أو في التربية، أو في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتنموية عموماً، في صورة حضارية رائعة لمقولة: "صلاحية القرآن الكريم لكل زمان ومكان".
* لكن ما علاقة حافظ القرآن الكريم بالوعي التنموي؟
إن كثيراً من الأفكار تصاغ بسبب الظروف، فتساير تلك الأفكار نزعات المفكر وهواه، بل تحمل شبه شخصيته؛ مما يسبب - في بعض الأحيان - نزاعاً بين أصل الفكرة والمفكر الذي يعتنقها.
ومن المهم جداً أن نبحث عن الوسائل الكفيلة لتوليد الأفكار لدى المجتمع؛ لمعالجة ما يمر به من الأزمات، أو القدرة على التطوير، فهناك وسائل مساعدة ومناسبة لحافظي القرآن الكريم لتغيير الواقع من حولهم بتوليد الأفكار في ضوء القرآن الكريم، الذي فيه العلاج لكل داء، وهي على سبيل الإجمال:
أولا: القراءة:
وهي تمثل عصب الفكر بأول، فأول كلمة نزلت من كتاب الله المجيد: (أقرأ)، وتبين الدراسات التربوية العزوف الشديد لدى المجتمع عن القراءة، فكيف إذا كان حافظ "اقرأ" لا يقرأ، فتلك خسارة كبرى، فالحفظ إذا مورس بشكل تلقيني أصم نتج عنه حفاظ لديهم القدرة على الترديد وليس التدبير، والانعزال وليس الاندماج، وهذا يشي بالخطر الشديد على ولادة الأفكار البناءة في المجتمع، وعلى تقلص الربانية في صالح المادية المقيتة.
ثانيا: التأمل والتدبر:
وهي وظيفة العقل، فالعقل عادة يؤدي وظيفته مما يكتسبه من العلوم والمعارف التي تفرزها البينات الكونية والآيات العلمية، قال - تعالى -: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) [محمد: 24]، وقال - تعالى -: (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) [الجاثية: 13].
فالعقل البشري الكريم خلقه الله - تعالى - لينظر ويتأمل ويتدبر؛ ليبني الحضارة المشهودة بما يتأمله في الكتاب المسطور والكتاب الكوني المنشور، فنحن بحاجة ماسة إلى حافظين للقرآن الكريم يتميزون بأنواع العقول قراءة وتدبراً، فحصيلة القراءة المقننة نتائج مذهلة من التحضر والإبداع، وأن يمسكوا بزمام الوعي والفضيلة، وهم من امتلكوا العقول التي جاء ذكرها في القرآن الكريم:
- برهاني: وهو الذي يبحث عن الأدلة والبراهين، وهم العلماء، قال - تعالى -: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) [فاطر: 28].
- منطقي: وهو يرتب الأحداث تراكمياً حتى يصل إلى النتيجة المطلوبة، قال - تعالى -: (قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين) [يونس: 104].
- وعظي: وهو العقل المستجيب، الذي يستسلم للحقائق ويقبل عليها بطواعية، قال - تعالى -: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين * وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم) [الجمعة: 2].
والعقل التوليدي، وهو العقل الذي يمكن أن يجمع بين هذه الأنواع الثلاثة لتمكنه من الاستجابة لقراءة الواقع، ورغبته الفكرية في التغيير والإصلاح، بالاستدلال عليها بالأدلة، والتفاوض عليها بالبراهين القاطعة.
ثالثا: ترسيخ البحث العلمي:
وهذه إحدى التحديات الكبرى التي تواجه العقل العربي، بالتركيز على الدعم المادي بالوقف على المراكز البحثية المتخصصة في الدراسات القرآنية؛ لحاجة العالم كله بأكمله لباحثين علماء في مجالات علوم القرآن الكريم، فالواجب التوعوي يحتم علينا النظر في الأمور القريبة المرئية، ومعالجة جذور المشكلات الخانقة، سواء الاجتماعية أو العلمية أو التنموية، والتدرج بالبحث والتحليل والاستنتاج ضمن خطوط عريضة مناسبة لتغير الزمان وظروف المكان.
فهل يتمكن المجتمع بمؤسسات التنشئة الأسرية والمدرسية والإعلامية والبيئة الجامعية وجمعيات تحفيظ القرآن الكريم والمؤسسات الخيرية والمراكز العلمية من ولادة علماء ربانيين حافظين لحروف القرآن الكريم وآياته وسوره، واعين بأحكامه وحكمه، متدبرين في أخلاقياته ومجالاته ورؤيته الشاملة؛ ليوافق القول العمل في عالم متغير؟
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..