سئل: الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى: ما قول علماء المسلمين - كشف الله بهم كل غمة، وجلا بهم كل ظلماء مدلهمة - في "قرية"، هل هي من أعمال نجد، أم من أعمال الساحل؟ وهل هي داخلة في ولاية إمام المسلمين: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، أم لا؟ وإذا كانت من أعمال نجد وولاية المسلمين، فهل تسمى دار هجرة لمن هاجر فيها؟ وهل يعاب من انتقل إليها ونزل بها من دار هجرته أول ما نزل، أم لا؟ وهل يستوي من ارتحل من منـزله الأول بسبب، أو من ارتحل بغير سبب؟ وهل يطلق اسم دار الهجرة على الديار النجدية؟ أم يقيد على ديار النازلين من الإخوان في هذا الزمان، أم لا؟ أفتونا
وبينوا لنا
، فإن الأمر مهم، وليل الجهل مدلهم؛ فرحم الله من أبان الدليل، وهدى الضال إلى سواء السبيل.
فأجاب: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما قول السائل: ما قول علماء المسلمين، في "قرية"، هل هي من أعمال نجد، أم من أعمال الساحل؟ وهل هي داخلة في ولاية إمام المسلمين: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، أم لا؟ فاعلم يا أخي، وفقك الله: أن هذه الأرض المسماة بـ"قرية" من أعمال نجد الداخلة في حدوده، وليست هي من أعمال الساحل،[ يقصد جهمية دبي وأبي ظبي الذين بالساحل من أرض عمان فى ذلك الوقت] بل كانت من قديم الزمان وحديثه من أعمال نجد، الكائنة في ولاية المسلمين؛ وهذا مما لا شك فيه عند كل أحد.
وأما قوله: وإذا كانت من أعمال نجد وولاية المسلمين، فهل تسمى دار هجرة لمن هاجر فيها؟
فنقول: إذا نزل بها طائفة من المسلمين بإذن الإمام، واستقروا بها، فهي دار هجرة لمن هاجر إليها من المسلمين، من بلاد الكفر، أو من البادية التي قد غلب عليهم الجفاء، والغفلة عن تعلم ما ينفعهم في دينهم. والمهاجر إليهم يسمى مهاجراً، إذا قام بأعباء الهجرة وحقوقها، كما في الحديث
الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه" 1، رواه البخاري في صحيحه.

وأما قوله: وهل يعاب من انتقل إليها، ونزل بها من دار هجرته أول ما نزل، أم لا؟
فالجواب أن نقول: لا يعاب من انتقل إليها، ونزل بها من دار هجرته أول ما نزل، ومن عاب من نزل بها بهذا السبب، فهو جاهل مركب، لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، لأن الصحابة، رضي الله عنهم، الذين هاجروا إلى المدينة من مكة وغيرها، قد انتقل كثير منهم منها إلى الأمصار والأقطار، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ومن أجلهم: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه انتقل من دار هجرته إلى الكوفة، واستقر بها، إلى أن قتله عبد الرحمن بن ملجم الخارجي بها، ودفن بقصر الإمارة بالكوفة; وكذلك الزبير بن العوام رضي الله عنه، لما رجع عن قتال علي، قصد راجعاً إلى الكوفة، فقتل في أثناء الطريق، ثم حمل إلى موضع الزبير الآن فمات به.
وكذلك ابن عباس رضي الله عنه، خرج من المدينة

وصار إلى البصرة، ثم نزل بمكة ومات بالطائف. وكذلك سلمان الفارسي رضي الله عنه، كان أميراً على المدائن، في ولاية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد خرج من المدينة دار المهاجرين; وكذلك أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، وغيرهم من الصحابة، ممن لا يحصى عددهم، ولا نعلم أن أحداً من العلماء عاب ذلك، أو أنكره.
ومن عاب ذلك أو أنكره، فقد عاب على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، خصوصاً أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي! تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" . وعلي رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين المهديين، الذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتمسك بسنتهم وهديهم. فمن أنكر ما ذكرناه وعابه، فقد أخطأ وأضاع نصيبه من العلم، وتكلف ما لا علم له به.
وأما قول السائل: وهل يستوي من ارتحل من منـزله الأول بسبب، أو من ارتحل بغير سبب؟
فنقول: قد ذكرنا آنفاً، من انتقل من الصحابة من المدينة، بأسباب اقتضت ذلك، مذكورة في مظانها; ومنهم من انتقل منها، ولم نطلع على السبب الذي أوجب له ذلك; ولا شك أن من انتقل منها بسبب، كان أعذر ممن لم ينتقل عنها بلا سبب
وقد خرج سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى قصره بالبادية، أيام الفتنة التي وقعت بين علي ومعاوية، رضي الله عنهما، وقيل له في ذلك، فقال:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ
عوى وصوت إنسان فكدت أطير
وكذلك سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، خرج أيام الفتنة من المدينة. فمن خرج من دار هجرته إلى بلد من بلدان المسلمين من غير سبب، لا نعيب عليه ذلك، إلا بدليل شرعي، فمن كان عنده في ذلك دليل، فليرشدنا إليه.

وأما قول السائل: وهل يطلق اسم دار الهجرة، على الديار النجدية؟ أم يقيد على ديار النازلين من الإخوان في هذا الزمان، أم لا؟
فنقول: نعم، يطلق اسم دار الهجرة على الديار النجدية، ولا يقيد ذلك بديار النازلين من الإخوان في هذا الزمان؛ بل من هاجر من ديار الكفر أو من البادية، إلى بلد من بلدان المسلمين، فهو مهاجر، فلا فرق في ذلك بين الديار التي نزلها الإخوان في هذا الزمان، وبين قرى المسلمين. ولا يفرق بين ذلك إلا من أعمى الله بصيرة قلبه، وكان على نصيب وافر من الجهل، والقول على الله بلا علم.
ثم إن في تسمية هذه البلدان التي نزلها الإخوان من البادية، حيث سموها الهجر، نظراً؛ فإن هذا اسم حادث. فإن الصحابة، رضي الله عنهم، لما فتحوا الأمصار والبلدان،
واختطوا لهم منازل، وسكنوا بها، لم يسموها بهذا الاسم. وعمر رضي الله عنه هو الذي بصر البصرة، وكوف الكوفة، فسموها بالبصرة والكوفة، وكذلك سائر القرى، التي نزل بها الصحابة، رضي الله عنهم، والتابعون، إنما سموها باسمها الذي سماها به أهلها.

وكذلك ما أحدثوه من تسمية، من سكن من الأعراب والبلدان التي اختلطوا بها منازل، حيث سموهم "الإخوان" وجعلوا هذا الاسم خاصاً بهم، دون الإخوان من المسلمين الحاضرة، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} الآية [سورة الحجرات آية: 10]، مع بغي بعضهم على بعض، ومقاتلة بعضهم لبعض. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 102-103]، فسماهم الله جميعاً إخواناً ولم يفرق بينهم.
وقد بلغنا: أن بعض الجهال المتعمقين من هؤلاء الدوارين، لما سأله بعض البادية: هل يجوز أن نهاجر؟ ونبني مساكن في "نفي" أو غيره من قرى السر؟ فقال: لا يجوز أن يبنى بها، أو تكون محل هجرة، لأنها مؤسسة على الكفر
وما علم هذا المسكين الجاهل: أن المدينة التي هاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قد كانت مؤسسة على الكفر قبل الإسلام، وكان الذي أسسها الأوس والخزرج، وحلفاؤهم من اليهود، وكانوا إذ ذاك كفاراً مشركين، فلما ظهر بها الإسلام، وهاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، صارت دار الهجرة، ولم يضرها تأسيس من أسسها على الكفر
.
وبلغنا أيضاً، من مجازفة بعض هؤلاء الأعراب المهاجرين في هذه البلدان، ومجاوزتهم للحد بالغلو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحب في الله والبغض فيه، والموالاة والمعاداة فيه، أنه لما سافر بعضهم إلى بعض بلدان المسلمين من بلدان نجد، ومكث فيها نحواً من أربعة أشهر، هجروه من السلام، لزعمهم أنه متربص في هذه البلاد؛ ولازم قولهم: أن هذه البلدة إما بلاد كفر، أو بلاد فسق، يجب على من لم يقدر على إظهار دينه فيها الهجرة عنها، لأنها على زعمهم، لا يحل لأحد المقام بها.[الدرر السنية فى الاجوبة النجدية]