أهم شروح "صحيح البخاري"

سؤال: ما أفضل شروح "صحيح البخاري"؟
وهل كتاب "فتح الباري" لابن حجر العسقلاني: أفضل الشروح، كما قال الشوكاني: لا هجرة بعد الفتح!
وهل يبدأ طالب العلم بقراءة "فتح الباري"، أو بغيره، وجزاكم الله خيرا.
الجواب: لقد أجمع أهل العلم على أن أصح كتاب بعد القرآن: "صحيح البخاري"!لذا كان واجبا شرعا على الطالب أن يقرأه قراءة تدبر واستنباط!
ولا يكون هذا التدبر إلا بشرح واف عند شيخ متمكن، أو من خلال بعض الشروح المعتمدة، وهذا السبيل من مهمات العلم ومسالك التعلم التي لا يجمل بطالب تجاهلها!
ثم بعد هذه المقدمات، كان علينا أن نتكلم عن معرفة أفضل شروح "صحيح البخاري"!
فأقول وبالله التوفيق: إن الأفضلية بين شروح "صحيح البخاري" تختلف باعتبارات علمية ليس هذا محل ذكرها، لكنها تندرج تحت ثلاثة أقسام باختصار: شرحٍ مختصرٍ، ومتوسطٍ، ومبسوطٍ.
فالأول: الشروح المختصرة، وهذا النوع من الشروح لا يمكن ضبطه؛ لكثرته واختلاف مسالك أصحابه، إلا أن أفضل هذه الشروح وأهمها: "التوشيح شرح الجامع الصحيح" للحافظ السيوطي ، لكونه محررا ومعتصرا؛ حيث أنتقاه السيوطي من شروح كثيرة من أهمها "فتح الباري" لابن حجر ، فشرحه هذا يعتبر أفضل المختصرات؛ لكونه أسهل عبارة وأوضح إشارة مع خلاصات علمية ما بين تحريرات حديثية وتقريرات فقهية تفيد المبتدئ والمنتهي على حد سواء، والله أعلم.
والثاني: الشروح المتوسطة، وهذا النوع أيضا لا يمكن حصره، بل أخاله من أكثر الكتب التي خدمت "صحيح البخاري" شرحا وتوضيحا وبيانا وتفسيرا، بل لا أبالغ إذا قلت: إن غالب شروح "صحيح البخاري" اليوم تدور في فلك هذا النوع من الشروح، والله أعلم.أما أفضل شروح هذا النوع فهو: "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للشهاب القسطلاني ، وهذا الكتاب من أفضل الشروح وأهمها وأفضلها، بل لا أتحرج إذا قلت: إن هذا الشرح يغني عن غيره ولا يغني عنه غيره!كما أنه خلاصة الشروح، ونقاوة الروايات، حيث تميز عن غيره بأمور كثيرة منها:
الأول: أنه اعتمد على أصح فروع النسخة اليونينية!وتعتبر النسخة اليونينية من أعلى وأفضل وأجود نسخ "صحيح البخاري"، فمن حصَّلها فقد حصَّل غالب روايات "صحيح البخاري"، لكونها اعتمدت على أربع روايات معتمدة، فهي في حقيقتها ناسخة لكل نسخ البخاري، لكونها أجودها تخريجا وأضبطها تحريرا وأوثقها روايةً وغير ذلك مما يعرفه عامة أهل العلم.وللقسطلاني قصة طويلة وطريفة في حصوله على الجزء الثاني من فروع النسخة اليونينية، ليس هذا محل ذكرها.
الثاني: أنه اعتمد في شرحه على أكثر شروح البخاري، وعلى رأسها: "فتح الباري" لابن حجر مع اختصار مفيد وتحرير علمي لا تجده عند غيره، بل أخذ من الشروح خلاصتَها ولبابَها وعيونَها.
الثالث: أن غالب شرحه يدور حول متون الأحاديث دون توسع في الأسانيد.
الرابع: أنه اقتصر على مهمات المسائل وعيون الفوائد ودرر الفرائد، وهذا وغيره مما امتاز به شرحه عن غيره.ومن أسف أن "إرشاد الساري" لم يلقَ حتى ساعتي هذه على تحقيقٍ علمي يليق به!ومع هذا، فهناك دراسات جامعات علمية جارية في تحقيقه.وهناك أيضا جهود من بعض طلبة العلم ساعية في تحقيقه، أسأل الله التوفيق للجميع!
والثالث: الشروح المبسوطة، وهذا النوع للأسف قليل جدا!
أما قول الشوكاني عن "فتح الباري": لا هجرة بعد الفتح، فليس على إطلاقه!
بل هي كلمة ذهبت مشرقةً حتى حجّرت واسعا وأقفلت الطريق أمام كثير من طلاب العلم، بحيث ركنوا إلى هذه المقولة، وتركوا أكثر شروح "صحيح البخاري"!
هذا إذا علمنا: أن "فتح الباري" هو للشروح المتوسطة أقرب منه للشروح المبسوطة!
مع كونه لم يسلم من بعض الاستدراكات العلمية، منها باختصار:ـ أنه مغرم بالخلافات والاعتراضات التي ربما أفسدت كثيرا من شرح متون الأحاديث، حيث اشتغل ابن حجر غالبا بالاعتراضات والردود على المخالفين أكثر منه شرحا وتوضيحا للمتون الحديثية!
لذا أضحى شرحه أحدَ الشروح التي غلبت عليها الفوائد الحديثية واللطائف الأسنادية أكثر من غيرها.
ـ أنه اتخذ نسخة أبي ذر الهروي عمدةً في شرحه، كما هو شرطه في مقدمته؛ لكنه مع هذا لم يعتمدها في جميع الشرح، بل لفَّق معها بعضَ النسخ!
ـ أن القارئ "للفتح" يجد نفسه سائرا وراء خلافات حديثية ومنازعات فقهية بعيدا عن فهمه "لصحيح البخاري" فهما محررا مختصرا، بل ربما انتهى من قراءة "الفتح" وهو لم يفهم منه إلا خلافات واعتراضات أكثر منها فهما لمتون الأحاديث، وهناك بعض الملحوظات قد ذكرتها في كتابي "تحفة القارئ في اختصار فتح الباري"، يسر الله إخراجه.
أما أفضل الشروح المبسوطة فهو: "التوضيح شرح الجامع الصحيح" لابن الملقن الشافعي، فهو بحق آيةٌ في الشرح وأعجوبةٌ في الطرح، فمن وقف عليه علم حقيقة الأمر، وعلم دعوى الشوكاني !
هذا إذا علمنا أن ابن حجر قد اعتمد كثيرا في "فتحه" على "التوضيح" غير أنه لم يُسمِّه إلا نادرا!
وخلاصة القول: أن شروح "صحيح البخاري" تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
١ـ "التوشيح شرح الجامع الصحيح" للسيوطي ، المتوفى سنة (٩١١)، تحقيق رضوان جامع رضوان، طبعة مكتبة الرشد بالرياض.
٢ـ "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للشهاب القسطلاني، المتوفى سنة (٩٢٣)، المطبعة البولاقية بمصر.
٣ـ "التوضيح شرح الجامع الصحيح" لابن الملقن الشافعي ، المتوفى سنة (٨٠٤)، تحقيق دار الفلاح، أو دار غراس، وليس بين الدارين كبير فرق في التحقيق، والله أعلم.
وأخيرا؛ فمن قرأ هذه الشروح الثلاثة: فقد أحاط "بصحيح البخاري" فهما وتدبرا ـ جملة وتفصيلا ـ إلا ما ندر من المسائل المتعلقة باللطائف الإسنادية، وهذا باب واسع لا يجمعه كتاب، ولا يغلق دونه باب!

وكتبه
الشيخ د/ ذياب بن سعد آل حمدان الغامدي
الطائف المأنوس(٤/ شوال/ ١٤٤٠)