وجوب التكلم بالفصحى
ووجوب دراستها وحمايتها والدعوة إليها*
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي

إن الحمد لله ! نستعينه ونستغفره ونتوب إليه . أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله والنبيّ الخاتم . اللهم صلّ على عبدك ورسولك محمد وسلم تسليماً كثيراً .
اللهم إنا نسألك الثبات على الحق ، والمضيّ على الدرب ، ونسألك رضاك والجنة .
أتقدم بالشكر والتقدير لمدارس منارات الرياض، لإدارتها وأساتذتها وطلابها والعاملين فيها، مع أصفى الدعاء وأصدق الأمنيات، لما أتاحوا لي هذه الفرصة لأقدم كلمتي حول وجوب التحدث بالعربية الفصحى.
ولندرك أهميّة هذه المسؤولية وخطورتها لابد أن نعرض بإيجاز بعض القضايا التي تكشف لنا أهمية اللغة بصورة عامة ، وأهمية اللغة العربية وتميّزها من غيرها ، وصِلتَها بالدين العظيم ـ الإسلام ـ وبالإيمان وبالحياة عامة ، عسى أن ندرك أن وجوبَ التحدّث بالفصحى ودراستها وحمايتها والدعوة إليها جزءٌ من دين الله لا تنفصل عنه .
فللُّغة بصورة عامة أثرها الكبير في حياة الإنسان ، فبها يتم التخاطب والتعارف والتفاهم وقضاء الحاجات وتطوير الحياة وميادينها . ومن بين أهم آثارها أثرها في عمليّة التفكير لدى الإنسان ، الأثر الذي تناول دراسته عدد من العلماء والفلاسفة ، حتى إن بعضهم اعتبر اللغة هي التفكير ، فاندماج التفكير باللغة تام عند هؤلاء ، بينما يرى آخرون أن اللغة هي وعاء للفكر ، ويزداد أثر اللغة بالفكر كلما ازدادت اللغة نموّاً وقوة وخصائص .
ثمّ إن اللغات في حياة البشرية مختلفة ، حتى كان هذا الاختلاف آيةً من آيات الله سبحانه وتعالى :
( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ ) [ الروم :22]
أعتقد أنه يمكن أن نعتبر جميع هذه اللغات في جذورها نابعة مما علّمه الله سبحانه وتعالى لآدم عليه السلام :
( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) [ البقرة :31]
وخاطب الله آدم عليه السلام ، وخاطب آدم ربّه ، وتخاطب أولاد آدم ، وتحاور ولداه بهذه اللغة ، ثم تفرّق أبناؤه في اتجاهات مختلفة في الأرض ، فتطورت اللغة مع كل اتجاه ، ونمت لغة كل قوم حسب مسيرتهم وبيئتهم على سنن ربّانية ماضية ، لا نعلم تفصيلات ذلك ، إلا أن المسيرة انتهت بلغات مختلفة كان اختلافها آية من آيات الله للعالِمين . ولكننا نعلم أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وعلمه البيان ، وعلمه القرآن ، فاقترن خلق الإنسان بتعليمه البيان :
(الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الإِنْسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) [ الرحمن :1ـ4]
فمن اللغة الأولى التي تعلمها آدم عليه السلام ، خرجت اللغات كلها ، ولكل لغة مسيرة وتاريخ ونمو وتطور . وكان من بين هذه اللغات اللغاتُ الساميّة التي خرجت منها لغة المسند التي هي اللغة الأصلية في الجزيرة العربية . ومن لُغَة المُسند خرجت اللغة العربية التي أخذت تنمو وتتطور قبل بعثة محمدr بثلاثة قرون حتى بلغت أوج نضجها وذروة نموّها عندما نزل بها الوحي الكريم على محمد r ، قرآناً عربيّاً ، فكانت لغةَ النبوّة الخاتمة ، ولغة الوحي ، والعبادة .
وإننا لنجد أنَّ اللغة الثمودية، لغة ثمود ولغة النبي صالح عليه السلام، على ضوء ما كشفت عنه الآثار، قريبة جدّاً من اللغة العربية التي نزل بها الوحي الكريم، وتحمل معظم خصائصها وقواعدها. وعلى ضوء ما سبق عرضه عن اللغات ونشوئها وتطورها، وعلى ضوء هذه الحقيقة عن لغة ثمود، أعتقد أن لغة جميع الأنبياء والمرسلين، خاصة الذين بعثوا في الجزيرة العربية، كانت اللغة العربية في مرحلة من مراحل نموها. فهي بتاريخها هذا لغة النبوة والرسالات الربانية.
ولقد حبا الله بفضله هذه اللغة العربية كثيراً من الخصائص والميِّزات، من الجمال والجرس والبيان والبلاغة وغير ذلك ، فاختارها لتكون لغة رسالته الخاتمة للبشرية كلها فزادها بذلك شرفاً وفضلاً .
وعن عليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن الرسول r قال : " أوّل من فُتِق لسانه بالعربية المبيَّنة إسماعيل وهو ابن أربع عشرة سنة " .
ونزل بها الوحي الكريم لتحمل رسالة الله إلى البشرية كلها حتى قيام الساعة ، لساناً عربيّاً :
( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) [ الأعراف :158]
( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ )
[سبأ :28]
فأنزل الله سبحانه وتعالى هذا القرآن العظيم لساناً عربيّاً للناس كافة ، فارتبطت اللغة العربيّة بذلك بالإيمان والتوحيد ، والقرآن الكريم ، وبميادين متعدّدة في الحياة ، كما نرى ذلك من الآيات الكريمة التالية :
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) [ الأنبياء : 107]
( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ . قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) [ الزمر :28،27]
( وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ ) [ الرعد :37]
( كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) [فُصِِّلت :3]
( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) [ الشعراء :192ـ195]
( وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ) [ طه :113]
(الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الإِنْسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) [ الرحمن :1ـ4]
فارتبطت اللغة العربية ، كما نجد في هذه الآيات الكريمة بميادين شتى من الحياة وأمور متعددة . ارتبطت : بالقرآن الكريم ، بالتشريع والحكم ، بالإيمان والتوحيد والتقوى ، بالدعوة والبلاغ والبيان ، بالتذكير ، بالبشرى والنـذر ، وكذلك بكل مثل ضربه الله للناس في كتابه الكريم . فارتبطت بذلك بجميع ميادين هذا الدين العظيم وجميع ميادين الإنسان ، وجميع ميادين الحياة، وارتبطت بالإنسان ، بخلقه وحياته ومماته ، فأصبحت اللغة العربيّة في ميزان الإسلام هي اللغة العالمية تمضي مع امتداد الرسالة الربانيّة وامتداد منهاج الله ، فأصبحت لغة الإنسان، وأصبحت بفضل الله لغة الفطرة التي فطر الله الناس عليها. وأصبحت تحمل الحقيقة الكبرى في الكون، والقضية الأخطر في حياة كل إنسان.
ولخطورة هذه القضية بالنسبة لهذا الدين ، وبالنسبة للإنسان ومصيره بين يدي الله ، وبالنسبة للدعوة الإسلامية وأهميتها في إنقاذ الإنسان من فتنة الدنيا ومن عذاب الآخرة ، فقد تعهّد الله بحفظ هذا الذكر قرآناً ولغة عربية :
( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) [ الحجر :9]
ولا يُعقل أبداً أن ينزل الله لعباده كتاباً لا يُفهم ولا يُتدبَّر ، وقد أنزله للناس كافّة على مدى العصور حتى قيام الساعة . إنّ الله سبحانه وتعالى قد أنزل هذا القرآن العظيم معجزاً لا يستطيع أحد من الإنس والجنّ أن يأتيَ بمثله ، ولكنه مع إعجازه هذا جعله الله ميسّراً للذكر ، للتلاوة والتدبر، والحفظ والتعهّد، وللممارسة في الواقع في ميادين الحياة :
( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) [ القمر :40،32،22،17]
ولقد تكررت هذه الآية الكريمة في سورة واحدة هي سورة القمر أربع مرات . ولا يكرر القرآن الكريم آية أو نصّاً فيه إلا للأهمية القصوى . فكذلك في سورة الشعراء تكرر قوله سبحانه وتعالى : " إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين . وإن ربك لهو العزيز الرحيم " وفي سورة الرحمن تكرر قوله سبحانه وتعالى : " فبأيّ آلاء ربكما تكذّبان " . ولذلك جاء أمره سبحانه وتعالى بتلاوة القرآن الكريم وتدبره .
( وَاتل مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً )
[ الكهف :27]
( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) [ محمد :24]
ويتأكد هذا الأمر بآيات وأحاديث كثيرة ، بعد أن يسّر الله القرآن الكريم للذكر . ولكن كثيراً من الناس اليوم لا يشعرون بأن القرآن الكريم ميسّر للذكر . وسبب ذلك أنهم فقدوا أحد الشرطين أو الشرطين معاً اللذين جعلهما الله سبب التيسير . فقد جعل الله لتدبّر كتابه مفتاحين ، يعملان معاً ، لا يُغني أحدهما عن الآخر . هذان المفتاحان هما : صدق الإيمان وصفاؤه ، وإتقان اللغة العربية . وقد بيَّنهما الله لنا في كتابه الكريم . أما بالنسبة لضرورة الإيمان وصدقه لفهم كتاب الله فذلك في آيات كثيرة نأخذ قبسات منها :
( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً )
[الإسراء :82]
( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) [فُصلت :44]
أما بالنسبة للمفتاح الثاني هو اللغة العربية ، فقد سبق أن ذكرنا بعض القبسات من القرآن الكريم ، نذكر هنا قبسات أخرى :
( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) [ الشورى :7]
( وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ) [ الأحقاف[ :12]
( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) [ يوسف :2]
( بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )
[ النحل :44]
" فارتبطت اللغة العربيّة هنا بالقرآن الكريم ، بالعقل : لعلكم تعقلون ، وبالفكر والتفكير : " ولعلهم يتفكّرون " .
هذه هي منزلة اللغة العربية عند الله ، وفي دينه الإسلام . وهبها الله من الخصائص المميّزة التي شرفها الله بها والتي اختارها بها وفضلها على سائر اللغات .
وقد تحدّث عن عظمة اللغة العربية كثيرون من أئمة الإسلام وعلماء اللغة ورجال الغرب ، مما يطول عرضه . ولكن نذكر بعض هؤلاء : الإمام الشافعي(204هـ) ، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (255هـ) ، محمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة (276هـ) وكثيرون آخرون . ومن المستشرقين : آرنست رينان ، وغليوم بوستل الفرنسي ، والمسيو بارثلمى هربلو الذي قال : " إن اللغة العربية أعظم اللغات آداباً ، وأسماها بلاغة وفصاحة ، وهي لغة الضاد " وآخرون . وحسبنا دليلاً على عظمتها وتميّزها أن الله سبحانه وتعالى اختارها لرسالته لتكون رسالة للعالمين .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : تعلّموا العربيّة فإنها تثبِّت العقل وتزيد المروءة ([i]) . وقال : " تعلّموا النحو كما تتعلمون السنن والفرائض " ([ii]) . وقال : " تعلموا إعراب القرآن كما تعلمون حفظه ([iii]) " .
ومرّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قوم يسيئون الرمي فقرَّعهم . فقالوا : إنا قوم }متعلّمين{. فأعرض مغضباً وقال : والله لخطؤكم في لسانكم أشدّ عليّ من خطئكم في رميكم . سمعتُ رسول الله r يقول : " رحم الله امرءاً أصلح من لسانه "([iv]) . ولحن رجلٌ أمام الرسول r فقال : " علموا أخاكم " .
وقيل :
لا خيـر في الـمـرء إذا مـا غـدا
لا طالب العلـم ولا عـالمـا([v])
ولما امتدت الدعوة الإسلامية خارج الجزيرة العربية إلى شعوب مختلفة، أصبحت اللغة العربية لغة تلك الشعوب التي آمنت ، دون أن يصدر قرار أو إكراه من سلطان، ولكن ذلك كان استجابة القلوب التي آمنت بربها وبدينه الإسلام، ورأت الإسلام مطبقاً مع الدعاة المقبلين ، والتي عرفت أن اللغة العربية بها وحدها يُتدبَّر كتاب الله .
واللغة العربيّة تجد اليوم تحدّيات كثيرة . ولقد عرف أعداء الله أن أول ما يجب أن يحاربوه في حربهم على الإسلام اللغة العربيّة . وجرت محاولات كثيرة لتغيير الحروف ، وحذف الحركات ، وتجهيل الناس بها . ولكنها تحدّت ذلك ، ومازالت اللغة العربية صامدة في الميدان تواجه التحديات ، وأقسى هذه التحدّيات إساءة بعض أبنائها لها . وإنها مسؤولية كلِّ مسلم أن ينهض للدفاع عن لغة القرآن وحمايتها . وإن أساس هذا الدفاع وهذه الحماية أن يكون عملاً منهجيّاً يمضي على خطة ، تدفعه النيّة الصادقة والعزيمة الصادقة . وأول خطوة في هذا النهج هي منك أيها المسلم ، حين تبدأ بنفسك لتتقن اللغة العربية نطقاً وحديثاً وأدباً . تتدرّب على استخدام اللغة العربية الفصحى في بيتك ومدرستك وحياتك كلها . ثم تنطلق لتستكمل عملك بلغة القرآن ، وتدعو غيرك وتعينه على ذلك ، حين تدرك أن هذا العمل عبادة لله وطاعة له وجهاد في سبيله .
فعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه عن الرسول r قال : " المجاهد من جاهد نفسه في الله " .
فجاهدوا أنفسكم وانطقوا العربية الفصحى ، واحموا لغة دينكم وبذلك تحمون دينكم . لينطلق هذا كله من إِيمان بالله صادق ويقين حق ، وإيمان بأن اللغة العربيّة مرتبطة بالإيمان والتقوى . ومن هذا الإيمان واليقين تنطلق النيّة الواعية الصادقة تحمل العزيمة والتصميم والحوافز الإيمانية والمبادرة الذاتية بأن لا تتكلموا إلا باللغة العربية الفصحى . فأصلحوا من لسانكم كما أمر رسول الله r في حديثه الذي سبق ذكره : " رحم الله امرءاً أصلح من لسانه " !
إن هذه الخطوةَ المباركةَ دفاعٌ عن دينٍ وعن أمة وعن تاريخ ، إنه واجب شرعيٌّ على كل مسلم . ولن تكون وحدك في هذا الأمر ، فمعهدك يدرّبك ويعلمك ويعينك ، وإخوانُك ، ومَنْ حولك من العلماء ، وإنها مهمّة يجب أن تتعاون الأمة كلها عليها ، فكن أنت الانطلاقة إلى ذلك بعزمك وصدقك وبذلك .
إنها ليست مهمة آنيّة تنتهي بين ليلة وضحاها ، ولكنها مهمة عمر ممتد لتكون جزءاً من منهج متكامل لا تنفصل عنه ، منهج يجمع الأسس كلها والخطوات كلها لنصرة دين الله وإعلاء كلمته .
وإنّ أول خطوة في هذا النهج مصاحبة منهاج الله ـ قرآناً وسنة ولغة عربيّة ـ صحبة عمر وحياة ، صحبة منهجية ، صحبة لا تتوقّف حتى يلقى المسلم ربّه . إن كتاب الله يقوّم اللسان ، ويدرّبك على اللغة الفصحى ، ويُغني القلب ، ويوفر لك الزاد العظيم على درب الحياة . ومن خلال هذه الصحبة المنهجية الممتدة لمنهاج الله تعرف مسؤولياتك الفردية التي وضعها الله في عنقك والتي ستحاسَب عليها بين يدي الله ، يوم لا يُغني مولى عن مولى شيئاً .
وإن كان هذا الخطاب موجَّهاً إليكم أيها الشباب المؤمنون ، فإنه في الوقت نفسه نداء لكل مسلم ، نداء للوالدين في البيوت ، والأساتذة في المعاهد ، ورجال الإعلام في ميدانهم ، فكلنا مسؤولون عن ذلك ومحاسبون .
وفي الحقيقة فإن كل أمور التربية والبناء في الأمة تبتدئ في البيـت والمعهد ، والوالدان مسؤولان عن ذلك ومحاسبان ، ليحفظا لأبنائهم الفطرة السليمة التي فطرهم الله عليها ، ويزودانهم بالزاد الطاهر النظيف الغني . والمربون كذلك مسؤولون ومحاسبون. فإن أوّل حق من حقوق الإنسان في ميزان الإسلام هو حماية الفطرة التي فطر الله الناس عليها من أن تشوه أو أن تفسد . والآباء والمربون مسؤولون ومحاسبون عن حماية الفطرة كذلك . وهذا الحق الأول أهملته جميع لجان حقوق الإنسان الدولية .
وبحماية الفطرة يقوى المسلم على التكلم باللغة العربيّة الصحيحة ، ويقوى على فهم اللغة العربيّة الفصيحة ومعرفتها ومعرفة أساليبها وبيانها ليسهل من خلال ذلك تدبّر كتاب الله وسنة نبيه ، ولتتفتح المواهب والقدرات !


وأختم هذه الكلمة بقصيدتي والتي بعنوان : " لغتي الجميلة " :
مالـي خَلَعْـتُ ثيابي وانْطَلَقْـتُ إِلى
سِـواي أَسـأَلهُ الأثـوابَ و الحُـلَلا
قَـدْ كانَ لي حُلَـلٌ أزْهـو بِبْهجَتهـا
عِزّاً وَيزْهو بِها مَنْ حَـلَّ وارْتحَـلا
أَغْنى بِها ، وَتمدُّ الـدفْءَ في بَدَنـي
أَمْنـاً وتُطْلِقُ مِنّي العـزْمَ والأَمَـلا
تمـوجُ فيهـا الـّلآلي مِنْ مآثِرهـا
نوراً وتبْعَـثُ مِنْ لألائهـا الشُّعَـلا
حتى أفاءتْ شُعوبُ الأرْضِ تَسألُهـا
ثـوباً لتستُرَ مِنْها السُّـوءَ و العِـلَلا
مـدَّت يَدَ الجودِ كَنْزاً مِنْ جَواهِرهـا
فَزَيَّنتْهُـم وكانـوا قبـلـها عُطُـلا
جـادتْ عليهم وأوفَـتْ كلَّ مسْألـةٍ
بِـرّاً تَوالى ، وأوْفَـتْ كلَّ مَنْ سَـألا
** **
*
** **
هذا البيـانُ وقـدْ صاغتْـهُ معْجِـزةٌ
تمضي مع الدّهرِ مجْـداً ظلَّ مُتَّصلا
تكسو مِنَ الهـدْيِ ، مِنْ إعجازِهِ حُللاّ
أو جَوْهَراً زيَّنَ الأعطافَ والعَطَـلا(1)
نسيجُـه لغـةُ القَرآنِ ، جَـوْهـرُهُ
آيٌ مـنَ اللهِ حقّـاً جَـلّ واكْـتَمـلا
نبعٌ يفيـضُ على الدّنيـا فيملـؤُهـا
رَيّـاً وَيُطلقُ مِنْ أحواضِهِ الحَفَـلا(2)
أو أنه الروّضُ يُغْني الأرْضَ مِنْ عَبَقٍ
مِـلْءَ الزَّمانِ نديّـاً عـودُهُ خَضِـلا
تَـرِفُّ مِنْ هَـدْيِهِ أنـداءُ خـافِقَـةٍ
معَ البكـورِ تَمُـدُّ الفَيْءَ و الظُّـلَلا
وكـلُّ مَنْ لوّحتْـه حَـرُّ هـاجِـرةٍ
أوى إلـيه ليلْقـى الـرّيَّ و البَـلَلا
** **
*
** **
عجبتُ !! ما بالُ قومي أدْبَروا وجَرَوْا
يرْجونَ ساقطـةَ الغايـاتِ والهَمَـلا
لمْ يأخذوا مِنْ ديارِ الغـرْبِ مكرُمـةً
مِنَ القناعـةِ أوْ علمـاً نَمـا وَعَـلا
لكنّهـمْ أخـذوا لَـيَّ اللّسـانِ وقـدْ
حباهُـمُ اللهُ حُسْنَ النُّطْـقِ مُعْتـدِلا
يـا ويحهمْ بـدَّلوا عيّـاً بِفصحِهـمُ
وبالبيـانِ الغنيِّ استبـدلـوا الزَّلَـلا
إن اللّسـانَ غـذاءُ الفكـرِ يحْملُـهُ
عِلْمـاً وفنّـاً صواباً كانَ أو خَطَـلا
يظلُّ ينسـلُّ منـه الـزّادُ في فِطَـرٍ
تلقى بـه الخَيْرَ أو تلقى بِهِ الزَّلـلا
الأَعْجَمِـيُّ لِسـانٌ زادُهُ عَـجَــبٌ
تَـراهُ يَخْلـطُ في أَوْشابِـهِ الجـدَلا
لمْ يَحْمِلِ الهدْيَ نـوراً في مَصـادِرِهِ
ولا الـحقيقـة إلا كـانت الـوَشـلا
** **
*
** **
فحسبُنـا مِنْ لِسانِ الضّـادِ أنّ لـه
فيضاً من النّور أو نبعاً صَفا وجَـلا
وأنه اللغة الفصحـى نمـت وزهـتْ
مَـعَ النّبُـوَّة تاريخـاً لهـا وعُـلا
حَتّى أتى الوحْـيُ قُرْآنـاً ومُعْجـزَةً
تنزّلـتْ وبـلاغـاً بالهُـدى نـزلا
وأنـه ، ورسـول الله يُـبـلـغـه
ضمَّ الـزمان وضمَّ الآيَ وَالـرُّسـلا
وأنـه الكنـزُ لا تفنـى جـواهـرهُ
يُغْنـي الليـاليَ مـا أغْنى بِهِ الأُوَلا
يظـلُّ يُـطْلِـقُ مـن لأْلائِــهِ دُرراً

عـلى الزمان غنيَّ الجـودِ متصـلا
وأَنّـه لـغَـةُ الإنْسَـانِ عـزَّ بهـا
دِيـنـاً لـه خـاشِعـاً لله مُبْتَهـلا
وأَنّـه حِكْمَـةُ الـرَّحْمـن بالـغَـةٌ
لمَّـا ارتضاه بَيـانَ الحقِّ والمُثُـلا


* محاضرة ألقيت في مدارس منارات الرياض بمدينة الرياض ، في يوم الأحد 19/11/1427هـ الموافق 10/12/2006م .

(1) أخبار عمر : ص:282 .

(2) البيان والتبيين (ص:171) .

(3) أخبار عمر : ص :282 .

(4) معجم الأدباء :1/17 .

(1) معجم الأدباء :1/18 .