بسم الله الرحمن الرحيم
الأديب الإسلامي
هوية وأخلاق وعقيدة
بقلم الدكتور أحمـد الخانـي
الحمد لله القائل في كتابه الكريم :
(
وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ .أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ . وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) [ الشعراء :224ـ227]
والصلاة والسلام على سيدنا محمد القائل :
( إن من الشعر لحكمة )
وبعد :
فلقد راعني ما سمعته في أحد المنتديات الأدبية عن الشعر الإسلامي ، وما نشر في إحدى الصحف من هجومٍ كاسحٍ ، وكان الرد على هذا الهجوم هزيلاً ، وأنا أسأل الذين ينكرون الإبداع في الشعر الإسلامي أقول لهم : هل أنتم متأكدون من أن الشعر الإسلامي على مر العصور إلى اليوم يخلو من الإبداع ؟!
فإذا لم يكونوا متأكدين من ذلك ، فكيف يموهون الحقيقة ؟

نحن و الإبداع :

ربما فهم المتفرنجون أن الإبداع يخص مَن نفَّر منهم الشارع الحكيم بأنهم الغاوون ، هكذا ربما فهم بعض مرضى الذائقة ، وأن الشعراء الذين استثناهم الله سبحانه وتعالى من الغواية لاحظَّ لهم في الإبداع ، هذا على ما يبدو ما فهمه مرضى الأدباء من أصحاب الذائقة المرة ، الإبداع في الغواية ، وعدم الإبداع في غير الغواية .
ونحن نقبل أن نناقش هؤلاء وغيرهم ، وقبل أن ننير الطريق لمن يريد أن يستجلي مكامن الإبداع لابد لنا أن نقف على نقطتين :
الأولى : الفن للفن ـ والفن للحياة

الثانية : بين الالتزام والإلزام

ثم المنهج النقدي الذي اعتمده كل من هؤلاء وهؤلاء .
النقطة الأولى :
الفن للفن
: وهو يعني الغائية في الأدب : كقولهم : الشعر للشعر لا لغاية أخرى . ومن شعراء هذه المدرسة أوسكار وايلد الذي ينكر كل المشاعر الأخلاقية في الفنان ، بل يذهب فيرلين إلى أن الفن لابد أن يعادي الأخلاق .([1])
الفن للحياة
: يقول دوماس : ( كل أدب ليست وراءه غاية خلقية فلابد أن يكون كسيحاً ضاراً )
وقد قامت ثورة في فرنسا وألمانيا دون إنكلترا في القرن الثامن عشر على مدرسة الفن للفن ( لأنها لم ترتبط بغاية عملية في الحياة ، وهي إظهار الأحاسيس النبيلة في الإنسان وتجسيدها )([2])
النقطة الثانية بين الالتزام والإلزام :
وهذا الموضوع لا يكون إلا في الأدب الأيديولوجي ، أما الأدب الحر العاري عن هذين المجالين فلا يتجه الشاعر لا إلى الالتزام ولا إلى الإلزام ، فشعراء أوروبا : بو ، وفيرلين ، وبودلير لا يوصف شعرهم بأحد النوعين لأنهم لا عقيدة لهم يلتزمون بها ، ولهم حريتهم يتجهون بفنهم أنى أرادوا .
فالالتزام بالأيديولوجيات ، يقع تحته الإلزام نتيجة السلطوية القاهرة ولولاه لما كان شيء يسمى بهذه التسمية المقيتة .
الالتزام ينبع من حرية المعتقد سواء أكان سماوياً أم وضعياً ، فأدباء العقيدة الإسلامية نجد لديهم هذا اللون من خلال تعبير الشاعـر عن الكون والإنسان والحياة ، إنه يعبر عن الحياة المنشودة وفقاً لما تمليه عليه عقيدته من حياة العزة والكرامة والحرية ...
وشاعر الأدب الشيوعي يعبر في فنه عن قيام الدولة العالمية ، وربما يفهم أحد المفكرين من أصحاب الذائقة المرة أنني أجعل أدب العقيدة الإسلامية وأدب الشيوعية في قرن واحد ويقيمون علاقة تشابُه بين هذا الأدب وذاك .
الأديب الإسلامي ملتزم بمنهاج الله والأديب الشيوعي ملتزم بمنهاج الشيطان . هكذا نريد أن نفهم أصحاب الذائقة المريضة ، كلاهما ملتزم وكل منهما يكون التزامه على طريقته وحسب رؤيته للحياة .
ولم يُعرف الإلزام في المجتمع الحر أو الذي يتمتع بالحرية ، لم يُعرف الإلزام إلا في المجتمعات المتخلفة ، والويل ثم الويل للأديب الشيوعي الذي يقدم أدبه ولا يدعو فيه إلى الشيوعية ، وإن كان غير مقتنع بها ، فهنا يقوم هذا الأديب بتمويه عواطفه وصقلها بالأيديولوجية الاشتراكية العالمية أو المحلية إرضاء لذوي الشأن جلباً لمنفعة أو دفعاً لمضرة ، والنماذج على ذلك أكثر من أن تحصى ، أرأيت من يدعو إلى الاشتراكية وهو إقطاعي يملك من الأرصدة والعقارات والأراضي ؟ إذاً ماله وللاشتراكية ؟
إنه الإلزام حتى لا تضيع تلك المكاسب أو تتأثر ، أو لزيادة هذه الأرصدة والمعطيات من التمكين والجاه والسلطان والمناصب .
المنهج النقدي :
عندما كانت أمتنا عزيزة كانت كلمتنا مسموعة لدى شعوب العالم ، وكان سلاطين العالم في زمن شارلمان وقبله وبعده يخطبون ودّ خلفاء الإسلام.
ولكن بعد أن ضعفت أمتنا ، ومُزِّقت الخلافة الإسلامية ، وخرجنا من الحربين العالميتين ودولتنا أصبحت فسيفساء من الدول حصل انكسار في نفسيتنا وخضعنا للغرب لا في حضارتنا وحدها وإنما في قيمنا أيضاً حتى بات الواحد منا يسمع من بعض أساطين المتفرنجين قوله : إذا أردنا أن نتقدم فيجب علينا أن نأخذ الحضارة عن أوروبا بعجْرها وبجْرها .
هذه النظرة ورثت التبعية في عقليتنا للغرب وفي مناهجنا التي نربي بها أجيالنا على أفكارها وآدابها ومن ذلك نظرتنا إلى الميزان الذي ننقد به الشعر لنعرف صحيحه من سقيمه ، وجيده من رديئه .
الميزان الغربي يقول :
لا علاقة بين الشعر وبين أي قيمة أخرى عقائدية أو أخلاقية ، ( إن أوسكار وايلد ينكر كل المشاعر الأخلاقية في الفنان ويراها تكلفاً لا يغتفر) .([3])
بينما نرى في ميزاننا النقدي الإسلامي خلاف ذلك فلما قال الشاعر :
عميـرة ودع إن تجهـزت غازيـاً
كفى الشيب والإسلام للمـرء ناهيـاً
قال له أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتـك " وهذا منهج نقدي نعتد به ونعتز به وننطلق منه ، فهذه أمتنا ، وهؤلاء شعراؤنا وهذا نقدنا ، يدخل في تقويم المضمون والشكل موافقة هذا الأدب لأخلاق هذه الأمة ونحن لسنا مستعدين لأن نتبع المنهج النقدي الغربي من أجل أن نبرهن للآخرين بأننا متحضرون ، لسنا مستعدين أن نتخلى عن هويتنا ونتبع أوسكار ونعادي الأخلاق والعقيدة لنثبت أننا متحضرون ، وأدباء متقدمون ، نحن عندنا في ميزاننا النقدي إذا كان في النص ألفاظ بذيئة نحكم عليه بالسقوط ، وإذا كان فيه ما يصادم عقيدتنا نحكم على النص وعلى الشاعر بالإلغاء .
أدبنا أدب أمة ممتدة من قول الله تعالى : ( اقرأ ) إلى هذا اليوم ، ونقدنا نابع من أدبائنا ذو مهمة في الحياة وهي التعبير عن الحياة التي يحياها المسلم وفقاً لمنهاج الله بأسلوب يتميز بالشفافية ، ويفتح باب الأمل بأسلوب مبدع .
الإبداع ؟!
الإبداع هي الكلمة الجميلة نريد أن نتفق على تحديد مدلولها هل الإبداع في الشكل أم في المضمون ؟! أم في كليهما ؟
يقول الجرجاني: ومن البين الجلي أن التباين في هذه الفضيلة ـ الإبانة ـ ليس بمجرد اللفظ فرجوع الاستحسان إلى اللفظ من غير شرك في المعنى فيه فلا يكاد يعدو نمطاً واحداً منهم ([4]) هذا هو الإطار العام للإبداع وهو الشكل والمضمون .
أما مفردات الإبداع فأراها كما يلي :
1.
الأسلوب :
الأسلوب بمعنى النسيج الذي بنيت القصيدة على منواله ، وهنا يهمنا الأسلوب القصصي المبكر ، صحيح أنه بدأ في العصر الجاهلي ([5]) ولكنه تطور في عصر الخضرمة وكان الإبداع في هذا التطور على نحو لم نعهده في شعر العرب السابقين ، من ذلك قصيدة حميد بن ثور الهلالي ، يقول العلامة عبد العزيز الميمني محقق ديوان حميد ([6]) وهو حميد بن ثور الهلالي شاعر مخضرم توفي على الأرجح أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه .
قال الأصمعي : العظماء من شعراء الإسلام أربعة وعد منهم حميد بن ثور. أروع ما في ديوان حميد قصيدته التي مطلعها :
سـل الرَّبْعَ أنىّ يَمَّمَتْ أمُّ سالــمٍ
وهل عـادةٌ للرَّبْـعِ أن يتكلّمــا
وبعد 77 بيتاً يلجأ إلى الأسلوب القصصي :
ومـا هاج هـذا الشـوق إلا حمامـة
دعـت سـاق حـر ترحـة وترنمـا
كـأن على أشداقـه نَـوْرَ حَنْـوة
إذا هـو مـد الجيـد منـه ليطعمـا
تـروح عليه والهـاً ثـم تغتـدي
مولهـة تبغـي له الدهـر مطعمـا
تؤمـل فيـه مؤنســاً لانفرادهـا
وتبكـي عليـه إن زقـا أو تألمـا
فلما اكتسى الريش السحام ولم يجد
لـه معها في باحة العـش مجثمـا
أتيـح لـه صقر مسف فلـم يـدع
لهـا ولـداً إلا رمـامـاً وأعظُمـا
فأوفت على غصن ضحيّ فلم تـدع
لبـاكية في شجـوهـا متلـوَّمـا
عجبت لهـا أنـى يكـون غناؤهـا
فصيحـاً ولـم تفغر بمنطقها فمـا
فلـم أر محزوناً لها مثـل صوتهـا
ولا عربيـاً شاقـه صوت أعجمـا
الإبداع في الأسلـوب القصصي ، والإبداع في النسق الذي سارت عليه القصيدة ، والإبداع في الرمز .
2.
الإبداع في التشبيه ، وهو الأكثر :
وأكثر النقاد على أن الإبداع في الصورة المفردة في التشبيه أو في الصورة المركبة في التشبيه التمثيلي كقول بشار بن برد :
كـأن مثار النقـع فـوق رؤوسنـا
وأسيافهـا ليـل تهـاوى كواكبـه
أو كقول ابن المعتز في هذه الصورة المترفة وهو الخليفة في وصف القمر :
انظـر إلـيـه كـزورق من فضـة
قـد أثقلتـه حمولـة مـن عنبـر
أو قول أبي فراس الحمداني :
والمـاء يفصـل بين زهـر الـرو
ض فــي الشطيــن فـصــلا
كبســاط و شــي جــردت
أيـدي الـقـيـون عليـه نصـلا
3. الإبداع في المعنى :

ولكن الإبداع لا يقتصر على التشبيه ، فالإبداع قد يكون بالفكرة وقد قيل في ديوان أبي تمام : إِنه يحتوي على بعض المعاني المبتكرة كقوله
و إذا أراد اللـه نشـر فضيلـة
طويـت أتاح لهـا لسـان حسـود
لـولا احتراق النـار فيمـا جاورت
ما كان يعـرف طيبُ عرفِ العـود
4. الإبداع في تقديم الفكرة بأسلوب يعتمد على المنطق كما قال حسان رضي الله عنه في الرد على أبي سفيان في دفاعه عن الرسول r :
أتهجـوه ولسـت لــه بكــفء

فشـر كمـا لخيركمــا الفــداء

وقد قيل في هذا البيت : إِنه أعدل بيت قالته العرب ، وهذا الحكم لم يأت مجاملة لحسان ، وإنما جاء من هذا الميزان الإيماني وهذا الحكم ( أعدل بيت ) إذا لم يصنف تحت عنوان الإبداع فتحت أي عنوان يصنف ؟
5.
الإبداع في الرمز .
نجد هذا في العصر العباسي في روائع أبي تمام وأطياف البحتري وسيفيات المتنبي وغزليات الشريف الرضي في ظبية البان :
يا ظبية البان ترعـى فـي خمائلـه
ليهنـك اليـوم أن القلـب مرعـاك
المـاء عنـدك مبـذول لشــاربه
وليـس يرويـك إلا مدمعي الباكـي
عندي رسائـل شوق لست أذكرها
لولا الرقيـب لقـد بلغتهـا فـاك
وسواء أكان هذا الرمز للخلافة أم لسواها فإن هذه القصيدة إبداع في الفكرة وإبداع في النسق وإبداع في اختيار الألفاظ إضافة إلى الإبداع في الرمز .
في عصور الدول المتتابعة : فقد الإبداع إلا القليل الأقل ، من ذلك قول ابن نباته يصف فرساً أغرَّ محجلاً :
وكأنمـا لطـم الصبـاح جبينـه
فاقتص منـه فخاض في أحشائـه
الجواد له سيالة على جبهته بيضاء ، وذلك لأن الصباح لطمه على جبهته فترك أثر لطمته ، قام الجواد بالانتقام لنفسه فعجن الصباح برجليه فترك لذلك أثره الأغر الأبيض على أرجل الحصان فغدا محجلاً . صورة عجيبة .
وفي هذا العصر صفي الدين الحلي اختار له الأستاذ فاروق شوشة قصيدته ( مجلس الحبيب ) على أنها من أجمل القصائد في عصور تاريخ الأدب :
أذاب التبـر فـي صافـي اللجيـن

رشـاً بالـراح مخضـوب اليديـن

إلـى عَيْنَيْـهِ تنتســب المنايــا


كمـا انتسب الرمـاح إلـى رديـن

في العصر الحديث نرى مدرسة شوقي ومدرسة الإحياء والتجديد وأبولو .
فكتابنا هذا يبحث في هذه الفترات التاريخية ويستجلي مافيها من كنوز الإبداع في الشعر الإسلامي . وما كان من خروج لدى بعض الشعراء فلنتركه لهم فنحن نتكلم عن الإبداع في الشعر الإسلامي وشعرنا كله إسلامي ، أما الشاعر فذلك شيء آخر فلدى شعرائنا في تلك الأحقاب إبداع كثير نتلقطه كما نتلقط الدرَّ، وما علينا من الشاعر إن كان له خروج فهذا يحسب عليه فنحن نتكلم عن الشعر لا عن الشاعر .
قسمنا الكتاب إلى فصلين :
الفصل الأول : الشعر التراثي ويشمل الشعر المخضرم وصدر الإسلام والأموي والعباسي .
الفصل الثاني ويشمل :
1.
الشعر من القرن الثامن عشر إلى نهاية الحرب العالمية الثانية
2.
شعر المعاصرة ويشمل شعر ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى اليوم من الشعر العمودي
ولقد ناقشنا مسألة شعر التفعيلة وانتهينا إلى أنه يحتوي على جماليات ربما تفوق الكثير من بعض الشعر الأصيل ولكنه لا يسمى شعراً لأن الشعر لابد له من قافية ([7]) .
ومن الشعراء المبدعين شعراء مدرسة بدر الشعرية د.عدنان النحوي ، ود.محمد منير الجنباز ، ود.عمر خلوف ، ود.محمد إياد العكاري ، ود. يوسف أبو هلالة، ود.أحمد يحيى البهكلي ، والأستاذ محمد أمين أبو بكر ، والأستاذ سليمان غزال ، والأستاذ محمد الجابري ، والأستاذ نجيب سعيد باوزير ، والأستاذ محمد ياسر الفتوى ، والأستاذ محمد ناصر الخيف ، ود. محمد وليد له ديوان حكايات أروى باقة زهر من الإبداع .




(1) – فن الشعر د. إحسان عباس ص 152 ط2

(2)- مدرسة بدر وشعراؤها د. أحمد الخاني ط2 ص11

(1)- فن الشعر ص152

(2)-أسرار البلاغة للإمام عبد القاهر الجرجاني بتحقيق هـ .ريتر ط2 ص3

(1)- من كتاب( رحلة القصة الشعرية منذ الجاهلية إلى اليوم) د.أحمد الخاني مخطوط

(2)- من مقدمة الديوان

([7])- انظر كتابنا : الصالونات الأدبية في المملكة العربية السعودية إثنينية الشيخ عثمان الصالح