قِـــــــــصَــ ـــــة حــــَــسَـــــ ـن ( بقلمي )



البداية

في ليلةٍ كئيبةٍ جاء ، ومن رحِمِ الأسى خَرجَ إلى الدنيا ، ببدنٍ نحيلٍ ، وعيونٍ
حائرةٍ ، يُوحي مظهرُه بالبُؤس الذي ينتظرُه ، وليدٌ لأبوين ِفقيرين ، يسكنان في
غرفةٍ ليست صالحةً لسُكنى البشر ،ُويَسعيانِ بالليلِ والنهارِ لتأمينِ لقمةِ العيشِ ،
فقط .. حتى لا ُيلجئهُما الجوعُ يوماً إلى طرقِ أبوابِ السادة ، وحتى لا
تقتُلهما برودةُ شتاءِ حياتِهم البائسة ، فرِحا به ولعلها كانتِ المرة الأولى التي
يسعدانِ فيها بصدق ،أسمَيَاهُ حسن ، وارتسمَ في أحلامِهما شبهُ غدٍ جميل
مشهد من الطفولة
حسن الصغيُر ذو الثلاثةِ أعوام يجري بسرعة ورَاءَ أُمه ، يتعثرُ حيناً فينهضُ بسرعة ويحاولُ اللحاق بها

، وهي تجري في جنباتِ المستشفى الحكومي ، تسألُ كل من تلقاُه عن زوجِها

أين هو ؟ ما حاله ؟
ينظرونَ إليها يتأملونَ ثوبَها البسيط الفضفاض ، وهيئتها المُزرية ثُم يهزُون أكتافَهم بازدِراء ، كلُهم
يمضي ولا أحد يُجيبها ، ( من يهتمُ بشانِ امرأةٍ فقيرةٍ ، إنَ أَمثَالَها يَجلُبنَ العارَ للبَلِد ) ، هكذا فكَرَ
الدُكتور فُؤاد وهُو يمُر مِن أمَامها دونَ أَن يُفَكر في مُساعَدِتها ، فَلَيسَ لَديه الوقت الكافي ليُضيعه مع
أمثالها فهو رجلٌ مسؤولٌ ، وكاتبٌ مشهورٌ ، ولدَيه قَضَايا يعيشُ مِن أَجلِها إنه بالتأكيد رجلٌ مهمٌ
بَعدها بأيام ، وَقَف حَسن الصغير مَذعُورا أَمَام أمِه التي شَهِقَت بالبُكَاء وعَلَا نَحيِبها لم يعرفْ حِينها ماذا
حدث .
لاحقاً علمَ أنَ أباهُ لم يعدْ مَوجُوداً ، هكَذا اخْتَفى كَما اخْتَفَت أَشيَاء كثيرة مِن حَياتِه ، مِثل الحَلوى
الحمراء التي كان يجلُبُها لهُ والدَه ، واضطر صغيراً لأن يُصارعَ الحياةَ مع أُمِه وحيداً .
مشهد من المراهقة

لهَث حسن وهو يُسرعُ لِتلبيةِ أوامر ( المعلم ) كانَ يعرفُ أنه إن توانى في عملِه فعقابُه وخيم ، بدءا

بالألفاظِ الجارحة التي ستنهالُ عليهِ مِن مُعلمِه صاحبِ القلبِ القاسي ، وقد يصلُ الأمرُ إلى حِرمَانِه مِن
بعضِ راتبِه الذي لا يَكفِيه ولَو اكتَمَل ، وهذا يعني بِضعَ أيامٍ أُخرى من الجوع .
كان يتوقُ إلى إتمامِ تعليمِه ، ولكن الظروفَ القاسية ومرضَ والدتِه أَلْجآه إلى دفنِ هذه الرغبة كرغباتٍ
كثيرةٍ حالتْ بينَ تحقِيقِها وبينَهُ الحياة .
كان يتوقُ أيضاً إلى أنْ ينظرَ له الناسُ باحترام ، أن يعتني به أحد ، وأن يهتمَ أحدُهُم بشأنِه ، أن
يُشْعِرُوه بأنهُ إنسانٌ مثلُهم ، وكانَ هذا مستحيلاً في مجتمعٍ لا يُسمحُ فيهِ بالعيشِ الكريمِ إلا للسادةِ
المهمين ، أمثال الدكتور فؤاد .
فيما بعد ...
ماتتْ أُمُه بعدَ مُعاناةٍ طويلةٍ مع الحياةِ ومع المرض، مشى في جنازتِها مذهولاً ، فقَدَ شُعُورَهُ بالحياةِ
للحظات ، لم يشعرْ بالحزنِ أو السعادةِ ، لم يشعرْ أنه يشعرُ بشئ ، لم يعلمْ إن كاَن حَزِنَ عَليها أم لا ،
ولكنَ الغرفةَ التي كانا يَقطُنَانِها معاً غَدَت باردةَ برودةَ الثلجِ ، وزادتْ الحياةُ قتامةً في عينيه ، وحينها
فكَرَ أنَهُ رُبما حَزِن عليها ، كانت المصدرَ الوحيدَ للدفئِ في حياتِه الموحشة , والمظهرَ الإنسانيَ الذي أُتِيحَ
لهُ أَن يَراه ، إنه الآن وحيدٌ تماماً
مشهد من الشباب

جَلَس حسن وحيداً في حُجرتهِ يفكرُ في حياته ، جلسَ مُشَوشاً حائِراً ، كانَ يحلمُ بالسعادةِ

والمالِ والتعليمِ ولمْ يحصلْ على أيٍ منهم ، فقَدَ وظيفَتَه ، وبدا له المستقبلُ مخيفاً إلى أقصى حد ،
سئِمَ الحياةَ التي جَرعَتْهُ المرارات ، ليسَ هناكَ مَنْ يشعُر بهِ وبأمثالهِ ، فالماديةُ التي نعيشُها لم تدعْ فرصةً
لأمثالِهِ مِنَ البُسطَاءِ كَيْ يَعِيشُوا .
ذاتَ يومٍ حلَت فيهِ القاصمة ، بينما هوَ عائدٌ إلى حجرتهِ ، اندلعت مشاجرةً في حارتِه فجأة ، وسادت
الفوضى ، وعلتِ الأصوات ، لم يكنْ لهُ في المشاجرةِ يدٌ ، ولمْ يكنْ أحدَ أَطرافِها ، ومعَ ذلك فَقَد اختلط
الحابلُ بالنابِل ، ووجدَ نفسَه في خضمِها وقد زُجَ إليها رُغْماً عنه ، حاولَ الخروج من تجمعاتِ
المتشاجرينَ دونَ جَدوى ، وفي ذاتِ الوقت سمعَ أبواقَ سياراتِ الشرطةِ قادمةً من بعيد ،
بعدأيامٍ قليلةٍ قضاها في السجن دون ذنبٍ جناه ذاقَ خِلَالَها مِنَ العَذَابِ أَلوانا ، خرجَ وأدْركَ وَقْتَهَا أنَهُ
عاجزٌ تَمَاما عنِ العيشِ في مجتمعٍ لايرحم
المشهد الأخير

في الصحيفة ، وفي قسمِ الحوادث َكانَ هناكَ خبرٌ باتَ يتكررُ كثيراً في الآونةِ الأخيرةِ وكأنُه هُوَ هُوَ في
كلِ مرة ، لم يأْبَه له الكثيرون كالعادة ، يقولُ الخبُر إنَ شاباً يُدعَى حسن عُثِرَ عليه في غرفتِه الواقعةِ في
أحدِ الأحياءِ الفقيرةِ وقد ماتَ مُنتَحِراً .

قرأَ الدكتور فُؤاد الخبَر وهزَ رأسَه في سخطٍ ، ( لقد كنتُ مُحِقاً هؤلاءِ الأوباشِ عارٌ على البلد )
ثمَ قَامَ إلى مَكتبِهَ وانشَغَل بإتمامِ أعمالِه الهامةِ الكثيرة .
بينَما كَانَ حسن وقتَها ولِأَوَل مرةٍ في كساءٍ أبيضٍ طويلٍ معطر ، لم تتحْ لهُ ظُرُوفُهُ أَنْ يحلُمَ بِارتِداءِ مثلَه
يوماً .
منقول